إن دولة الاحتلال تبني مشروعها على أساس ديني بحت، أي لا مكان لغير اليهود في الدولة، وهذا تأكيد على السياسة الصهيونية تستند في منهجها إلى رؤية دينية توراتية
ينشغل كثيرٌ من المتابعين للعدوان الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزة، خاصةً أولئك الذين يتمنون نهاية الحرب، ويتطلعون إلى كل الأسباب والعوامل التي من الممكن أن تساعد في الوصول إلى هذا الهدف، الذي بدا في الأيام القليلة الماضية أنه يبتعد ويصعب، ويتعثر ويتعقد، بالخلافات الداخلية والتناقضات البينية الإسرائيلية، ويسلطون الضوء عليها ويضخمونها ويعلقون آمالاً كبيرةً عليها، على أمل إنهاء الحرب، وفرض هدنةٍ طويلةٍ يقبل بها رئيس حكومة العدو وأركان حربه، تمكن الفلسطينيين من استعادة حياتهم الطبيعية في قطاع غزة، والخلاص من كابوس الحرب المرعب الذي دمر حياتهم، وقضى على أحلامهم، وحرمهم أبنائهم وأحبابهم ومن فلذات أكبادهم.
قانون الدولة القومية لليهود في إسرائيل (بالعبرية: חוק יסוד: ישראל – מדינת הלאום של העם היהודי) هو قانون أساسي إسرائيلي، يُعرِّف إسرائيل دولة قومية للشعب اليهودي. في 19 يوليو 2018، أقر الكنيست الإسرائيلي القانون بأغلبية 62 ومعارضة 55 وبامتناع نائبين عن التصويت.القانون حدد أن اللغة العبرية هي اللغة الرسمية في إسرائيل، وبه تفقد العربية صفة لغة رسمية، لكنها ستحظى بمكانة خاصة. كما يشير القانون إلى أن الهجرة التي تؤدي إلى المواطنة المباشرة هي لليهود فقط. لاقى القانون إدانة دولية واسعة واشتملت على إدانات صدرت بين أوساط مجتمعات يهود الشتات حول العالم.
إن من يتأمل في بنود القانون يجد أن الاحتلال الصهيوني يمارس على أرض الواقع منذ احتلاله لفلسطين كل ما أقره في قانون الدولة القومية، حتى قبل أن يتم تبني القرار بشكل رسمي، فدولة الاحتلال لها جيش ولغة وعلم وعملة وقوانين وتسيطر على مساحة شاسعة من فلسطين، والاستيطان مستمر بلا هوادة، والنشيد الصهيوني يسمع في دول عربيةٍ وعلمها هناك يرفرف، والكثيرون يتعاملون مع إسرائيل على أنها قدر لا بد منه، والقدس ملك يمينهم بفعل الأمر الواقع، فلما العجب؟
قد تبدو الخلافات الإسرائيلية الداخلية لصالح الفلسطينيين، وأنها تخدم قضيتهم وتساعد في الضغط على نتنياهو للقبول بشروط الهدنة والموافقة عليها، إذ الأصوات المعارضة للحرب والعمليات العسكرية ضد قطاع غزة وسكانه كثيرة، وبعضها عالٍ ولافتٌ، وهي متنوعة ومختلفة، ولا تقتصر على القطاعات العسكرية والأمنية التي لا ترى أفقاً لعملياتها، ولا تظن أنها مجديةٌ وفعالة، وأنها قادرة على تحقيق أهدافها والوصول إلى غاياتها، بقدر ما أصبحت عبثية عدمية خشبية لا مستقبل لها ولا رجاء منها، ولا هدف تحققه ولا غاية تصل إليها إلا القتل والتدمير والخراب، والغرق أكثر في وحول غزة التي لا يبدو أن الخروج منها سهلٌ دون خسائر كبيرة وأضرارٍ بليغةٍ، في الصورة والسمعة، وفي الاقتصاد والاستقرار، وحياة الجنود ووحدة الجيش وتماسكه، ومستقبل الكيان وعلاقاته مع أمريكا والغرب ودول الإقليم والجوار.
وهي تبدو أكثر وضوحاً بين الأحزاب والأقطاب السياسية، التي يحكم علاقاتها التنافس والصراعات السياسية، والأحقاد الشخصية والمصالح الذاتية، وهي التي بدأت وانتظمت منذ اليوم الأول الذي شكل فيه بنيامين نتنياهو حكومته اليمينية المتطرفة، التي قامت على ائتلافٍ يضم أكثر الأحزاب الدينية اليمينية الإسرائيلية تطرفاً وتشدداً، حيث نظمت المسيرات وانتشرت المظاهرات، وعمت مختلف المدن الإسرائيلية، تطالب بإسقاط حكومة نتنياهو، ومواصلة التحقيق معه وتقديمه إلى المحاكمة، ومنعه من ممارسة الحكم والمنافسة عليه، وتدعو إلى انتخاباتٍ برلمانية مبكرة، قد تفضي إلى تغيير تركيبة الكنيست، مما سيقود إلى تشكيل حكومة إسرائيلية جديدة، بدون مشاركة الأحزاب اليمينية المتطرفة.
وهناك مظاهرات ذوي الجنود الأسرى وعائلات القتلى، الذين يصرون على وقف الحرب وإنهاء العمليات الحربية، تمهيداً للتوصل إلى صفقة تبادل أسرى تعيد أسراهم أحياءً لا أمواتاً، وتنقذ حياة من بقي من جنودهم يقاتل في قطاع غزة، وهي مظاهراتٌ صاخبة وتكاد تكون دائمة، وهي متنقلة ومتنوعة، وعندها فعالياتٌ كثيرة وأشكال للتعبير عن مواقفها مختلفة، وهي مصرة وعنيدة ولا يبدو أنها ستهدأ قبل أن تضمن عودة أبنائها واستنقاذ حياة الآخرين المعرضين للخطر والقتل في قطاع غزة، إلا أن نتنياهو يصر على قتل حلمهم ووأد أملهم والتضحية بحياة أبنائهم.
إن دولة الاحتلال تبني مشروعها على أساس ديني بحت، أي لا مكان لغير اليهود في الدولة، وهذا تأكيد على السياسة الصهيونية تستند في منهجها إلى رؤية دينية توراتية، وهي بذلك توجه صفعة جديدة للأنظمة العربية التي تلوح أغلبها ليل نهار برغبتهم في تحويل مسارات المجتمع والدولة الى المسار العلماني القاضي بفصل الدين عن الدولة، وابقاء الله في الطقوس الشخصية دون أن يتدخل في السياسة على قاعدة (أن ما لله لله، وما لقيصر لقيصر).
وإلى جانبهم يصطف عددٌ كبير من الاستراتيجيين الإسرائيليين، وكبار الباحثين وقدامى الضباط الأمنيين والعسكرين السابقين، الذين يستشعرون عظم الأخطار التي تحدق بكيانهم، والهاوية التي قد تسقط فيها حكومتهم، والحائط المسدود الذي تندفع إليه بكل قوةٍ وبغير وعيٍ أو حكمةٍ، ويتهمونها ورئيسها أن تجربتهم ضحلة وخبرتهم قليلة، وأن قدرتهم على التعامل مع الأخطار محدودة، ولا يحسنون تقدير المرحلة، ولا يحرصون على صورة كيانهم وسمعة جيشهم، بقدر ما يحرص رئيس الحكومة على مصالحه الشخصية ومكتسباته الذاتية، التي يتقدمها حلم خلاصه من المحكمة ونجاته من السجن والعقوبة.
يظن البعض أن هذه الخلافات حقيقة وجادة، وأنها صادقة ومسؤولة، وأنها قد تصدع الكيان الصهيوني وتضعفه، وأنها قد تعصف به وبوحدته، وقد تدفع حكومته نحو العقلانية والاعتدال، وتبعدهها عن التهور والجنون الذي تمضي في طريقه بعمىً وعنادٍ، أو أنها ستؤدي إلى سقوط الحكومة وانهيار أركانها وتمزق عرى ائتلافها، أو التأثير على علاقاتها وتخلي الحلفاء عنها، الذين تضررت مصالحهم بسببها، واضطربت بلادهم وسادت المظاهرات جامعاتها، وغدا نتيجةً لسياساتها الاستقرار العالمي مهدداً ما بقيت الحرب واستمر العدوان، مما قد يدفع بعض دول العالم للمطالبة بالضغط على حكومة نتنياهو لخفض التصعيد أو وقف الحرب، وإلا فإن المنطقة كلها قد تذهب إلى ما هو أسوأ وأخطر.
الحقيقة التي يجب ألا تغيب عن أذهاننا وألا تطغى على عقولنا أو تعمي عيوننا، أن هذه المعارضات والتظاهرات والاحتجاجات ليست لصالحنا، وهي ليست غاضبة من أجلنا، ولا تطالب بوقف العدوان علينا، بل هي معارضة لأجل مصالحهم، وتظاهرات لخدمة أهدافهم، وهم قد يختلفون مع بعضهم ظاهرياً، وقد ترتفع أصواتهم ضد بعضهم شكلياً، تحقيقاً لديمقراطيةٍ زائفة وحقوقٍ محفوظةٍ كاذبةٍ.
لكنهم يجمعون علينا ويجتمعون ضدنا، ويصرون على مواصلة الحرب علينا، والإصرار على استئصال المقاومة وتفكيكها، ونزع سلاحها وقتل رجالها، ولو أن حكومة نتنياهو سقطت، فإن الحكومة القادمة أياً كان رئيسها وشكل ائتلافها وأطراف تحالفها، فإنها ستواصل العدوان، وستستمر في الحرب، فهم أبناء ملةٍ واحدةٍ وجبلةٍ معقدة، يحملون ذات الطباع السيئة ونفس الأخلاق العفنة، لا فرق بينهم وإن اختلفوا، ولا خيرية فيهم أو أفضلية بينهم وإن ادعوا.تحاول الأنظمة العربية دوماً الظهور بمظهر المنسجم مع موقف الشارع العربي من قضية فلسطين، لكن موقفها لا يتعدى الإدانة والاستنكار والتي تحاول تغليفه بالحكمة والدبلوماسية، رغم أن أصغر مواطن عربي يعرف أن الأنظمة العربية توافق في السر وتعترض في العلن من باب لا يموت الذئب ولا يفنى الغنم.