كتبت مني جودت
ننشر عددًا من الوثائق العسكرية من داخل هيئة عمليات القوات المسلحة، من ضمن الوثائق التي أفرجت عنها وزارة الدفاع المصرية مؤخراً، عن تفاصيل قيام العدو بطلعات استطلاع جوي يومي 4 و5 وصباح 6 أكتوبر 1973، في طلعات متنوعة لم تنجح في كشف خطة الخداع المصرية الفريدة رغم توالي طلعات استطلاع قوات جوية وإلكترونية من قوات إسرائيلية وطائرات يحتمل أن تكون أمريكية على طول خط المواجهة في سيناء وعلى طول الساحل الشمالي المصري، كما سنرى من خلال الوثائق.
التخطيط الإستراتيجي العسكري المصري لحرب أكتوبر 1973 العاشر من رمضان، ارتقى إلى أعلى درجات الفكر العسكري العالمي, حيث شمل التوجيه السياسي العسكري للقائد الأعلى للقوات المسلحة, وإعداد فكر الاستخدام للقوات المسلحة, وقرار القائد العام وإعداد خطط العمليات والخطط التكميلية وتنظيم التعاون الاستراتيجي والإشراف والمراجعة واختبار التخطيط بما يؤكد قدرة القوات المسلحة على تنفيذ المهام المخططة، وفي القلب من التخطيط الاستراتيجي كانت أكبر خطة خداع التي كانت مفتاح النصر بحق حيث من خلالها تم تحقيق المفاجأة الكاملة لإسرائيل بل والولايات المتحدة بكل إمكانات استخباراتهما.
وكانت خطة شاملة تمت على المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية، ومحصلتها الهامة هي “خداع العدو” عن وقت بدء الحرب، مما أفقده عنصري “المبادأة والمفاجأة”، والنتيجة هي شلل وإرباك خطة تعبئة قوات الاحتياط الإسرائيلية الهامة التى تشكل حوالي من 60 إلي 70 % من إجمالي القوات الإسرائيلية التي يجب أن يتم استدعاؤها خلال 72 ساعة أي ثلاثة أيام، وهو ما كان يحتاج إليه الجيش المصري ليفرض تواجده على الضفة الشرقية ويدير المعارك من قلب سيناء.
وتشير وثائق تحرك العدو قبل ساعات من الحرب إلى تفاصيل كاشفة:
الوثيقة الأولى :
بتاريخ 4-10-73 … سجل معنون ب “سري للغاية” المحادثات الهاتفية، الحوادث / محور المعلومات، على ورق رسمي أصفر اللون من داخل هيئة العمليات.
البلاغ الأول الساعة 10.14 : تسجيل لبلاغ من الدفاع الجوي المصري عن قيام العدو بطلعات استطلاع جوي بواسطة 2 طائرة فانتوم لمسح المسافة من الفردان إلي العين السخنة في تمام الساعة 13:15 إلى 13:18 على ارتفاع ١٥ كيلو مترا وبعمق من 20 إلى 30 كم شرق القناة.
والبلاغ الثاني الساعة 14:30 من الدفاع الجوي إلى هيئة العمليات بقيام طيران العدو بطلعات استطلاع جوي في نفس اليوم 4 أكتوبر بين الساعة 13:39 إلى الساعة 13:41 من كبريت إلي الفردان بواسطة 2 طائرة فانتوم بارتفاع 18 كيلومترا وبعمق من 20-25 كم شرق القناة.
الوثيقة الثانية :
تاريخ اليوم 4-10-73 …سجل معنون بـ “سري للغاية” المحادثات الهاتفية، الحوادث /محور المعلومات، على ورق رسمي أصفر اللون من داخل هيئة العمليات، الساعة 16:10 بملاحظة من اللواء آنذاك “الجمسي” شخصياً وهو رئيس هيئة عمليات القوات المسلحة في أكتوبر بخط اليد، قد يستغل العدو انشغالنا في مشروع تحرير41، ويقوم بأعمال عدائية جوية ضد قواتنا خلال وقت الإفطار اليوم، علما بأنه قام بـ 2 طلعة استطلاع اليوم، ومعها في خانة تالية توجيه إلى القيادة والسيطرة والجيوش الميدانية برفع درجة الاستعداد.
تبعها في نفس ورقة البلاغات تسجيل من قوات الدفاع الجوي قيام العدو باستطلاع إلكتروني من الإسكندرية وحتى بورسعيد عدة مرات في توقيت من 13:20 إلي 15:30 عدة مرات بها وعودة علي ارتفاع ٦ كم و بعمق 10 إلى 12 كم من الساحل الشمالي بطائرة يعتقد أنها أمريكية.
تبعها الساعة 18:00 بلاغ من القوات الجوية المصرية بقيام طلعات جوية من بورسعيد إلي الدفرسوار، وتؤكد أنه لا تغيير في مواقع العدو ولا وجود لأي أهداف جديدة، ولا يوجد قوات سوي مدفعية العدو متوسطة المدى وتحديد إحداثياتها شرق سرابيوم.
الوثيقة الثالثة :
تاريخ 6-10-73 سجل معنون بـ “سري للغاية” المحادثات الهاتفية، الحوادث /محور المعلومات علي ورق رسمي أصفر بخط اليد من داخل هيئة العمليات من قوات الدفاع الجوي بلاغ يسجل ثلاثة طلعات للعدو
الأولي :الساعة 9:12 صباحا إلي الساعة 9:17 صباحا من منطقة السويس إلى الكاب “منطقة جنوب بورسعيد”، طلعات استطلاعية علي عمق ١٠-٣٠ كم وبسرعة 1200 كم/الساعة، بطائرة يتوقع أنها فانتوم.
الثانية: قيام العدو من الساعة ٨ صباحا إلي 9:18 بطلعات استطلاع إلكترونيّ من شمال بورسعيد إلى شمال بلطيم، بعمق 10-12 كم وبسرعة ٥٠٠ كم/الساعة.
الثالثة: بلاغ من الدفاع الجوي من الساعة 10:38 إلي 12:30 ظهراً طائرة يتوقع أن تكون أمريكية قامت باستطلاع إلكتروني شرق بورسعيد ومن مرسي مطروح حتى بورسعيد أي الساحل الشمالي كاملاً.
الشاهد من هذه الوثائق، قيام العدو باستطلاع جوي متعدد التوقيت والأماكن حتى ظهر السادس من أكتوبر دون أن يتمكن من التأكيد أن هناك حربا ستندلع بعد ساعات أو معرفة ساعة الصفر لتحرك قواتنا، بفضل خطة تدرس للآن بالأكاديميات العسكرية عن تحركات القوات المصرية بالتوازي مع خطة الخداع الإستراتيجي.
وكان أهم ما احتوته الخطة:
1- على المستوى السياسي
– إرسال ممثل للرئيس السادات إلى الولايات المتحدة للتباحث بناءً على طلبها، حيث تم التنسيق مساء يوم 5 أكتوبر بين نائب كيسنجر والسفير المصري في واشنطن أشرف غربال، وقبل أن يرد السفير في التاسعة صباح اليوم التالي 6 أكتوبر بتوقيت واشنطن، الثالثة ظهرا بتوقيت القاهرة كانت الحرب قد بدأت بالفعل.
– قبول زيارة وزير الدفاع الروماني لمصر في 8 أكتوبر: وتم ذلك بناءً على طلبه فى أول أكتوبر، وإرسال برنامج مقترح للزيارة،ويوم الحرب 6 أكتوبر تم الاعتذار وتفهم الموقف، و كان يحمل مقترحات للوساطة بين مصر وإسرائيل بواسطة الرئيس شاوشيسكو.
– الاجتماع السري لمجلسي الدفاع الوطني لمصر وسوريا فى الإسكندرية: وكان للتنسيق النهائي وعقد فى قيادة القوات البحرية في رأس التين برئاسة الرئيسين، من 22-23 أغسطس 1973 .
2- على المستوى الاقتصادي
– تأخير إغلاق المجال الجوي فوق مصر لآخر لحظة: بما يسمح للطيران الدولي بتغيير مساراته إلى مسارات بديلة قبل الدخول إلى الأجواء المصرية كمنطقة حرب.
–تأخير إطفاء شعلات حقول الغاز فى خليج السويس والبحر الأحمر لآخر لحظة: حتى لا تكون قرينة فى حالة الإطفاء الجماعي المتزامن والمبكر.
استيراد ماكينات ضخ مياه فتح السواتر الرملية من بريطانيا ثم من ألمانيا تحت ستار مشروعات زراعية بجوازات سفر ووظائف من وزارتي الزراعة والري.
3 – على المستوى الإعلامي والاجتماعي
– ساهم الإعلام مساهمة فعالة بالتنسيق مع إعلام القوات المسلحة، بالتركيز على المراد توصيله إلى العدو مثل إعلانات الحج والعمرة فى بداية رمضان للضباط والمتطوعين وأسرهم والتركيز على الصحف التي تحصل عليها السفارات الإسرائيلية فى أوروبا وخاصة لندن وباريس.
– وكان النشاط الاجتماعي لا تخطئه العين المتابِعة، بالفرحة الأسرية بعودة أبنائهم من التعبئة، فى الظروف المتوترة منذ سبتمبر73 من الاستدعاء التدريبي السنوي لمناورات الخريف من سلسلة ( تحرير).
4- على المستوى العسكري
وتشمل العديد والعديد من الأنشطة نذكر منها- تكرار أعمال التعبئة والتسريج – التدريب على العبور خارج مراقبة العدو – تحريك الكباري إلى منطقة القناة، وكانت من أصعب المراحل نظرا لضخامة الكوبري، وتم نقلها بعد تفكيكها ليلا وإخفائها، مع إعادة بعض الأجزاء المجمعة نهارا للرصد وهكذا، مع إنشاء الكباري الخفيفة والهيكلية – التخطيط للهجوم على طول مواجهة قناة السويس ظهراً بمواجهة حوالي 170 كم (بما فيها عيون موسى) وبقوات النسق الأول المحتل لغرب القناة مباشرة والدارس للعدو- مع بدء الحرب ظهرا عكس كل المتبع وكل التوقعات.
وكانت محصلة التخطيط والتنفيذ للمفاجأة الإستراتيجية أن نجحت نجاحاً كبيراً وخدعت المستوى السياسي والعسكري الإسرائيلي والعالمي بما فيه الولايات المتحدة بل والاتحاد السوفيتي أيضا، وتعتبر آخر مفاجأة إستراتيجية يصعب تكرارها، نظرا للتقدم التكنولوجي فى مجالات الاتصالات والتصنت والأقمار الصناعية المتطورة .
ولكن تبقى المفاجأة التكتيكية دوماً واردة، بفكرة جديدة أو سلاح جديد أو استخدام مبتكر.