السياسة التشريعية وملائمتها

كتب/ د.عادل عامر

يُعد الدستور هو القانون الأساسي الأعلى الذى يرسى القواعد والأصول التي يقوم عليها نظام الحكم، ويحدد السلطات العامة، ويرسم لها وظائفها ويضع الحدود والقيود الضابطة لنشاطها، ويقرر الحريات والحقوق العامة، ويرتب الضمانات الأساسية لحمايتها. ومن أهم هذه الضمانات وجود قضاء دستوري، يحفظ علو الدستور وسموه، ويلزم كل سلطة حدودها الدستورية التي حددها الدستور لها.

وإذا كان الدستور يحدد وظيفـة كل سلطة من السلطات وما يدخل في ولايتها، فإنه يضع كل ذلك في صيغة مرنة تسمح بقدر من الحرية في التصرف يختلف ضيقًا واتساعًا بحسب الأحوال، وبحسب طبيعة كل سلطة، ومرجعية تكوينها، ودور الشعب في هذا التكوين، مما دعا بعض الفقه إلى التحدث عن السلطة التقديرية للسلطة التأسيسية، والسلطة التشريعية والسلطة القضائية، وكيفية مراقبة هذا التقدير ومداه.

والسلطة التشريعية تأتى في مقدمة السلطات التي تتمتع بحرية واسعة في ممارسة اختصاصاتها، لكنها ليست مطلقة .

فالمشرع يتقيد بما ورد بالدستور من قواعد، ويتقيد على الراجح بالمبادئ الطبيعية العامة التي تستمد وجودها من وجود الإنسان وأدميته، والتي اعترف القضاء في مصر وفرنسا بوجودها وبإلزامها للمشرع حتى ولو لم يرد بشأنها نص خاص في دستور الدولة. لكن مهما كانت تلك القيود فإنها تترك للمشرع حرية واسعة، يستطيع بمقتضاها أن يضع من القواعد ما يشاء.

فالأصل هو حرية السلطة التشريعية، والاستثناء هو القيود التي يضعها الدستور، وهي قيود فضفاضة عادة. والسلطة التشريعية – في نطاق الحرية التي يتركها لها الدستور – تختار بمطلق إرادتها، ودون معقب التنظيم الذي يتفق والصالح العام.

وإذا أخضع الدستور التشريع العادي لقيود معينة فيما يتعلق بالشكل (أي المراحل التي يمر بها التشريع لكي يصبح قانوناً) والاختصاص (أي الهيئات التي تملك المساهمة في التشريع) والمحل (أي القيود الموضوعية التي ليس للتشريع أن يتخطاها كتجريم المصادرة العامة أو إسقاط الجنسية) فإن المسلم به أن السلطة التشريعية تستقل بتقدير أهداف التشريع لأن ذلك يتعلق بنطاق السياسة أكثر منه بالقانون، ولأن التشريع لابد وأن يصطبغ بصبغة الحزب الغالب،

أولا :  وما دامت التشريعات الصادرة من البرلمان لا تخالف نصاً أو قاعدة دستورية سواء كانت المخالفة مباشـرة أو غير مباشـرة، فإن تقدير مدى الآثار الاجتماعية للقانون يجب أن يترك للمشرع دون معقب عليه إلا من الرأي العام بالطريق الذي ينظمه الدستور (سواء كان ذلك عن طريق الاعتراض الشعبي أو الاقتراح الشعبي أو الاستفتاء الشعبي وهي مظاهر الديمقراطية شبه المباشرة أو عن طريق الانتخابات عند تجديد المجالس النيابية في الديمقراطية النيابية) أن دعائم الحياة الدستورية لا تستقيم في أي بلد إلا بوجود دستور أي كانت طبيعته يضع المبادئ ويؤسس للأحكام ، وينظم السلطات فهو الذي أوجدها  وبالتالي هو مصدر اختصاصها ناهيك عن كونه الحامي  الأول لحقوق الأفراد وحرياتهم

 عليه فهو بهذا المعنى يسمو على جميع السلطات العامة في الدولة ولكن هذا السمو يكون مجرد لفظ أجوف غير ذي مضمون عندما يكون بمقدور هيئات الدولة انتهاكه دون أن يكون ثمة جزاء يتقرر على ذلك الانتهاك أي لابد من توافر ضمانات كافية لاحترام هذه السلطات العامة لأحكام الدستور

 ، وبعد امتناع رئيس الدولة، عن تصديق مشروعات القوانين وسيلة فعالة وضمانة أكيدة لاحترام القواعد الواردة في الوثيقة الدستورية وتكفل نفاذها وتطبيقها تطبيقاً سليماً

، إلا أن رئيس الدولة مقيداً في ممارسة لاختصاصه في الامتناع عن التصديق في أن يجد في مشروع القانون المرفوع اليه من البرلمان للمصادقة مما يبرر امتناعه كالاخطاء المادية في نص المشروع المراد تصديقه كحالة الاخطاء المطبعية التي من شأنها أن تغير أو تؤثر على معنى مشروع القانون أو بعض النواقص في تحرير مشروع القانون كالخلل في الصياغة التي يتضمنها مشروع القانون لهذا فان الامتناع عن التصديق هنا يكون بهدف تصحيح وتلافي هذه العيوب دون التعرض لإرادة السلطة التشريعية

 ، من ذلك ما حدث في فرنسا في ظل الجمهورية الرابعة (دستور 1946) حيث قادت مثل هذه الأخطاء رئيس الجمهورية الفرنسية إلى طلب مناقشة جديدة لتصحيحها من ذلك الرسالة التي بعث بها الرئيس إلى الجمعية الوطنية طالباً فيها مناقشة جديدة للقانون (49/ 593) والمتضمن تحديد الشروط التي يمكن بموجبها للعسكريين المسرحين من الملاكات التباري للدخول على جوقة الشرف والميدالية العسكرية ، والأسباب التي أثارها الرئيس وضمنها رسالته في طلب المناقشة يمكن تلخيصها بأن المادة الثانية من مشروع القانون كانت تتضمن تعبيراً تقنياً خاطئاً من شأنه أن يغير معنى المادة وقد نتج عن طلب اعادة المناقشة الجديدة صدور قانون (26 نيسان 1949

 ، وكذلك طلب رئيس الجمهورية الفرنسي إعادة مناقشة القانون المتعلق إبرام اتفاقية أيار 1949 الخاصة باستغلال بواخر الأرصاد الجوية في شمال الأطلسي قد استند على أسباب تتمثل بالاخطاء والنواقص المادية في مشروع القانون والتي تمثلت في أن الجمعية الوطنية لم تكن قادرة نتيجة خطأ مادي في النقل على دراسة نص الاتفاقة التي لم تكن فعلياً ملحقة بمشروع القانون وقد ترتب على إعادة المناقشة صدور قانون 23 آذار 1952

. وإلى جانب هذه الأسباب المادية والتقنية يمكن أن نجد أسباب ذات طبيعة سياسية كما هو الحال في الولايات المتحدة إذ كثيراً ما يلجأ رئيس الولايات المتحدة للامتناع عن تصديق مشروع قانون مرفوع اليه من الكونجرس للمصادقة تحت تأثير جماعات الضغط

 أو أنه يأخذ من الامتناع عن التصديق وسلة ليعرض على الرأي العام حجم الخلافات القائمة بينه وبين الكونجرس حول موضوع محدد، لذلك بدأ الرئيس الأمريكي جاكسون بوصفه رجل الشعب والممثل الحقيقي لجميع طبقاته في الاعتراض على سياسة الكونجرس سواء لأسباب تتعلق بالمشروعية أو الملاءمة وهذا أما يعبر عنه أن الاعتراض الأمريكي قد أصبح امتيازاً رئاسياً ما دام في وسع الرئيس الاعتراض على سياسة الكونجرس لمجرد أنها لا تتفق مع سياسته

. هذا وقد يكون الامتناع لأسباب مالية كتخفيض الضرائب أو زيادتها أو أمور قد تتعلق بمشروع قانون الميزانية أو قد تكون الأسباب ذات طبيعة إدارية أو حتى انتخابية إلا أنه على الرغم من هذا التنوع في أسباب امتناع رئيس الدولة عن تصديق مشروعات القوانين إلا أن معالجتها سوف تنصب على تلك الأسباب التي تتعلق بمدى موافقة التشريع الصادر من البرلمان للقواعد الدستورية

 لأنه من الممكن أن يتعدى التشريع الصادر من البرلمان تلك الحدود التي رسمتها القواعد الدستورية وبالتالي يكون من واجب رئيس الدولة الامتناع عن تصديق هذا المشروع بصفته حارس الدستور ويجب عليه ضمان احترام تطبيقه تطبيقاً سليماً كما أنه ملزم بالسهر على دستورية القوانين خصوصاً عندما لا يكون في الدولة مجلس أو هيئة متخصصة بفحص الدستورية شبيهة بطريقة أو بأخرى بالمجلس الذي حدد تنظيمه واختصاصاته دستور الجمهورية الفرنسية الخامسة لعام 1958

 ويمكن لهذا الأمر أن يفسر لماذا كان اللجوء إلى مناقشة جديدة للقانون لأسباب دستورية أكثر تكرار في عهد الجمهورية الرابعة مما هو عليه الحال في عهد الجمهورية الخامسة . إلا أن رئيس الجمهورية يستطيع أن يطلب من البرلمان القيام بمناقشة جديدة لمشروع القانون متذرعاً في ذلك بأسباب عدم دستورية المشروع وعند عدم قيام البرلمان بمعالجة الأحكام التي اعتبرها رئيس الجمهورية لا دستورية فانه يستطيع عندئذ عرض الأمر على المجلس الدستوري وفقاً لأحكام المادة 61/الفقرة 2 من الدستور .. 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

Recent Posts

x

‎قد يُعجبك أيضاً

رئيس الوزراء: نسعى بالشراكة مع إحدى المؤسسات العالمية أن يكون مستشفى أورام دار السلام مركزًا على أعلى مستوى

كتبت مني جودت أدلى الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، بتصريحات تليفزيونية، اليوم السبت حيث أشار ...