انصار القومية الروسية المتطرفة

 كتب د/  عادل عامر

أن هناك 3 نظريات سياسية أثرت على العالم في العصر الحديث وهي الليبرالية والشيوعية والفاشية. ووفقا له فإن الولايات المتحدة هي زعيمة الليبرالية في العالم التي توفر الحرية الفردية والسوق الحرة، وقد انتصرت الليبرالية على الفاشية عام 1945 وعلى الشيوعية عام 1991 إلا أنها من وجهة نظره تواجه أزمة قاتلة حاليا، وتواجه الموت المحتوم لأنها تحاول “تحرير نفسها من التفكير العقلي وقيود العقل” التي ينظر لها الليبراليون على أنها “فاشية في ذاتها“.أن الليبرالية تحاول تحرير أعضاء الجسد من سيطرة العقل.

أن النظريات الثلاثة ميتة ويطرح “النظرية السياسية الرابعة” التي لا تركز على الفرد أو العرق أو القومية وإنما تكرز على الوعي الذاتي الإنساني الذي همشته التكنولوجيا.

ونظرا لأن الوعي الذاتي يختلف من فرد لفرد ومن ثقافة لثقافة فإن العالم لابد وأن يكون متعدد الأقطاب بدلا من قوة عظمى واحدة هي الولايات المتحدة. كما أن نظريته تتعارض مع التوجه نحو إقامة “حكومة عالمية” تقودها النخبة العالمية، التي تضم مدراء الشركات العالمية الكبرى، “الذين يسعون لحرمان الناس من الشعور بالكبرياء وقهرهم أمام متطلبات شركاتهم“.

أن الحرب بين روسيا وأوكرانيا “حتمية” ودعا الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إلى التدخل العسكري في شرق أوكرانيا “لإنقاذ السلطة الأخلاقية لروسيا“.

بان العقل المدبر وراء ضم الرئيس الروسي لشبه جزيرة القرم.وأعلن أن الخطوة التالية هي التدخل العسكري في شرق أوكرانا ، والذي يسميه بانتظام نوفوروسيا (روسيا الجديدة). وهو تعبير استخدمه بوتين أيضا.وكان دوغين يعتقد أن “الروح الروسية” قد أيقظها الكفاح الانفصالي هناك، والذي أطلق عليه اسم “الربيع الروسي

في ذلك التوقيت أقرَّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قانونا مثيرا للجدل يُجرِّم إهانة مشاعر المتدينين بالبلاد، وينص على عقوبة السجن لمدة تصل إلى سنة إذا صدر الفعل “المُهين” خارج أماكن العبادة، وتصل إلى ثلاث سنوات إذا صدر داخل أحد هذه الأماكن. لم تُثر قضية كراسنوف الكثير من الجدل آنذاك، ولكن موسكو كانت عازمة على المُضي قُدما في طريقها، ففي أغسطس/آب من العام نفسه لم يأخذ مُدوِّن الفيديو رسلان سوكولوفسكي، البالغ من العمر 22 عاما، وابن مدينة يكاترينبورغ رابع أكبر المدن الروسية، بدوره تهديدات تلفاز بلاده بجدية، والنتيجة كانت وضعه تحت الإقامة الجبرية لمدة 11 شهرا قبل أن يُحكم عليه بالسجن لمدة عامين وثلاثة أشهر، ورغم تقديمه التماسا لتخفيف الحكم، فقد رفض القضاء الفيدرالي الروسي قبوله.

كان العالم آنذاك يعيش في خضم ثورة افتراضية أحدثتها لعبة بوكيمون جو الشهيرة، حين بثَّ التلفاز الروسي تحذيرا بتعرُّض أي شخص سيُطارِد المخلوقات الافتراضية داخل دُور العبادة للعقاب وفق قانون “إهانة مشاعر المؤمنين”. وفي مقطع فيديو حظي بأكثر من مليون ونصف مشاهدة، شارك سوكولوفسكي رحلته لاصطياد المخلوقات الكرتونية الملونة داخل كاتدرائية المدينة بجوار المذبح بينما يستعد قس الكاتدرائية لإقامة الصلاة، مُرفقا إياه بتعليق ساخر يقول فيه: “اصطدت جميع البوكيمونات، لكني لم أصطد أندرها وهو بوكيمون يسوع، مهلا، فهذا البوكيمون لا وجود له من الأصل“.

تُمثِّل هذه القضايا، وأمثالها الكثير، تحوُّلا مذهلا في تاريخ روسيا القريب، فخلال أول عقدين من حُكم الحقبة السوفيتية، قُتل أكثر من مئتي ألف رجل دين، في حين تعرَّض ملايين المسيحيين الآخرين للاضطهاد بسبب إيمانهم، واستمر هذا التمييز المناهض للدين حتى قبيل السقوط السوفيتي مطلع التسعينيات. ولكن الأمور لم تكن كذلك في روسيا ما قبل الحقبة السوفيتية، وبالتحديد في روسيا القيصرية، حيث كانت الكنيسة حاضرة بقوة في المشهدين الاجتماعي والسياسي. ويبدو أن موسكو اليوم ترتد إلى ماضيها القديم نسبيا، متجاوزة جذورها السوفيتية القريبة في بعض الأمور. والغريب أن الارتداد يأتي على يد فلاديمير بوتين، مَنْ كان حتى وقت ليس ببعيد أحد أبرز رجال الاستخبارات الروسية، والموصوف اليوم في موسكو بـ “الـقيصر”، حيث بدا أن الجميع تواطؤوا على تجاهل التناقض الواضح في إطلاق مثل هذا اللقب على رجل موسكو القوي، المسؤول عن إدارة قواعد اللعبة في الكرملين إلى اليوم.

خلال العهود القيصرية في روسيا، كان يُنظر لحاكم البلاد بصفته مختارا من الله لقيادة الأمة الروسية المُكلَّفة بتمثُّل القيم المُستقاة بالدرجة الأولى من مبادئ الأرثوذكسية الروسية. ومع نهاية حقبة الاضطهاد الديني بسقوط الاتحاد السوفيتي مطلع التسعينيات، بدأت الكنيسة الأرثوذكسية في العمل من أجل استعادة دورها الديني. في البداية، كان الفضاء مفتوحا للتنافس على الأتباع والتأثير في المجال الديني الروسي، حيث تدفَّقت فيضانات من المبشرين الغربيين، بما في ذلك الإنجيليون والكاثوليك، مُستغلِّين “فراغا روحيا” رافق سقوط الاتحاد السوفيتي اللا ديني، ما تسبَّب في خوف الكنيسة الروسية من ضياع فرصتها في إعادة بناء النفوذ الروحي لها، ومن تحوُّلها إلى مجرد واحدة من هيئات دينية عديدة في روسيا الجديدة.

دفعت تلك المخاوف الكنيسة إلى الارتماء في كنف الدولة، ونجحت عام 1997 في دفع الحكومة إلى إصدار قانون يُقيِّد حرية الممارسة الدينية للأديان “الأجنبية” الأصل، ما وضع الكنيسة الأرثوذكسية في مقعد القائد الديني من جديد. وعزَّزت الكنيسة هذه الوضعية تعزيزا ملحوظا مع صعود بوتين للسلطة مرة ثانية عام 2012، حيث جاء قانون الإرهاب، الصادر منتصف عام 2016، ليُعزِّز من سلطة الكنيسة عبر حظر أي نشاط تبشيري خارج نطاق المؤسسات الرسمية. وقبل ذلك، في وقت مبكر من رئاسة بوتين، أصدر مجلس الدوما قانونا عادت بموجبه جميع ممتلكات الكنيسة المستولَى عليها خلال الحقبة السوفيتية، ما حوَّل الأخيرة إلى أحد أبرز مُلّاك الأراضي بروسيا، كما وجَّه بوتين شركات الطاقة المملوكة للدولة للمساهمة بالأموال لإعادة بناء آلاف الكنائس المدمرة تحت حكم السوفييت، حيث أُعيد بناء نحو 25 ألف كنيسة منذ أوائل التسعينيات، شُيِّد معظمها خلال حكم بوتين. إضافة إلى ذلك، مُنِحَت الكنيسة دورا في الحياة العامة والتعليم الديني بالمدارس، كما مُنِحَت الحق في مراجعة أي تشريع منظور أمام مجلس الدوما.

لا يمكن اعتبار بوتين شخصا متدينا، كما أنه لم يكن يوما شيوعيا ملحدا بالمعنى الحرفي، وهو يرى أن ما خسرته روسيا حقيقة بسقوط الاتحاد السوفيتي هما النفوذ والقوة وليست الشيوعية بعينها، وبالنسبة له فإن المسيحية الأرثوذكسية هي الوجه الآخر للشيوعية اللينينية، حيث يلعب كلٌّ منهما دورا وظيفيا في خدمة الدولة. وتتمحور هذه الوظيفة في نهاية المطاف حول ترسيخ السيطرة الثقافية، وتغذية هوية وطنية فريدة. ففي النهاية، لا يهم أن تكون روسيا قيصرية أو سوفيتية، متدينة أو ملحدة، المهم أن تكون قوية موحدة، ودائما تحت السيطرة.

لا يختلف الروس اليوم كثيرا عن رئيسهم في نظرتهم للمسيحية، ففي حين يُعرِّف الغالبية العظمى من الروس أنفسهم، بنسبة تصل إلى 90% في بعض التقديرات، على أنهم “مسيحيون أرثوذكس”، فإن ثلث النسبة تقريبا يُعرِّفون أنفسهم في الوقت ذاته على أنهم ملحدون أيضا، ما يجعل نظرة الروس للمسيحية يغلب عليها حس انتماء وطني أكثر من انتماء روحي أو ديني.

يتشارك بوتين والكنيسة إذن النظر للمسيحية الأرثوذكسية بوصفها وسيلة لترسيخ سيطرة كلٍّ منهما على فضائه، الفضاء الرمزي الروحي في حالة الكنيسة، والفضاء السياسي في حالة بوتين، لذا فقد تشاركا أيضا العداء تجاه جميع صور التبشير الديني غير المُقنَّنة والرسمية، التي مَثَّلت تهديدا للهيمنة الرمزية للكنيسة على حياة المسيحيين الروس الاجتماعية،

ولقبضة الدولة السياسية والأمنية من ناحية أخرى. كانت هذه هي ملامح صفقة بوتين الجديدة: خسرت روسيا كثيرا بسقوط الاتحاد السوفيتي، وعلى رأس ما خسرته عدم امتلاكها أيديولوجيا قوية تُوحِّد مواطنيها في الداخل وتُبشِّر بها في الخارج، وأتى الحل في توليفة تجمع بين القومية الروسية والمسيحية الأرثوذكسية، تحت رعاية كلٍّ من الدولة والكنيسة. فمن ناحية، تستعيد الكنيسة دورها الرمزي المفقود إبان حكم السوفييت، وعلى الجانب الآخر تُوفِّر التوليفة الجديدة لبوتين أيديولوجيا قوية مُوحِّدة، وفي الوقت نفسه قابلة للإخضاع والسيطرة، وبدا أنها كانت صفقة ذكية ورابحة للطرفين.

وفَّرت الصفقة الجديدة مُبرِّرا أيديولوجيا صلبا لبوتين يقمع به المعارضة والجماعات الدينية الأخرى ذات الآراء السياسية المخالفة، وساعدت في توطيد نفوذه المهتز بفعل الاعتراض الشعبي المرافق لصعوده الثاني للسلطة عام 2012، بيد أن حُلَّة المبشر الجديدة التي يرتديها بوتين لم تكن مُوجَّهة للروس في الداخل فقط،

ولكنها أثبتت فاعليتها بوصفها الركن الأبرز في خطته الكبرى لاستعادة نفوذ روسيا وتأثيرها في محيطها الإقليمي السابق. محيط يسيطر عليه اليوم الغرب، وخاصة أوروبا، خصم بوتين اللدود دوما، ومَن يرى القيصر أن عليها أن تدفع اليوم ثمن “غطرستها” من باب طالما افتخرت به بوصفها حاملة مشاعل الليبرالية والتنوير. وإذا كانت أوروبا تعتقد أن حروبها حول الدين انتهت في عام 1648، فإن المواجهة الحالية مع روسيا تُوضِّح أن هذا ليس هو الحال بكل تأكيد.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

Recent Posts

x

‎قد يُعجبك أيضاً

رئيس الوزراء: نسعى بالشراكة مع إحدى المؤسسات العالمية أن يكون مستشفى أورام دار السلام مركزًا على أعلى مستوى

كتبت مني جودت أدلى الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، بتصريحات تليفزيونية، اليوم السبت حيث أشار ...