كتب /الدكتور عادل عامر
أن قراءة الظاهرة الدينية تُعد من المسائل المعقدة للغاية، فإلى الآن يمكننا القول إن الأدبيات والوثائق ما زالت غير قادرة على تفسير ظهور الفكرة الدينية، فما زالت الاكتشافات التاريخية قائمة، فعلى سبيل المثال، تم الإعلان مؤخراً عن نقش ديني في السعودية يرجع إلى 7 آلاف عام، فكل الوثائق التاريخية والفتوحات الأنثروبولوجية تشير إلى منطقة متدينة منذ ظهور النشاط الإنساني فيها. فالظاهرة الدينية من أكثر الظواهر المعقدة التي تبين رحلة بحث الإنسان عن ذاته، وعن نمط لتدينه، كما أنها تظهر ثلاثية العلاقة بين أزمات الهوية والعنف والتطرف.
تُعد مسألة الإرهاب والتطرف مسألة حديثة تماماً مرتبطة بما بعد الحداثة، وتكتيكاتها مأخوذة بالأساس من الجماعات اليسارية التي ظهرت في هذه الفترة، مثل: جماعة اللواء الأحمر وغيرها. وعلى الرغم من ذلك؛ فإن هناك مبالغات في التفسيرات المرتبطة بالإرهاب الجهادي، فعلى سبيل المثال، كانت هناك مبالغة في مسألة الفقر باعتباره الدافع الأساسي وراء التطرف والإرهاب، وقد تمادت الأدبيات الغربية في المبالغة في مسألة الفقر، ولكن عند النظر إلى خلفية المجندين والمتطرفين نجد أن غالبيتهم من خلفيات علمية (مهندسون، أطباء…) ومن بينهم الأثرياء، فأسامة بن لادن لم يكن فقيراً، بل كان من عائلة ثرية، وحصل على تعليم بجودة عالية، وبالرغم من ذلك أصبح ما كان عليه.
نعـود إلى التأكيد: بأن العنف والإرعاب والتطرف هو ظاهرة إنسانية لا تخص دينا أو جنسا أو لونا أو طبيعـة أو جـغرافيا.. حتى عندما تتوفر لهـا الفلسفـات، التي تعطيها المسوغ، فهي أولا وأخيرا ظاهرة ثقافية مركبة أو معقدة، يساهم بتشكيلها عدة عناصر وأسباب متنوعة لتصبح شاكلة ثقافية: ( قل كل يعمل على شاكلته ) (الإسراء:84) تكمن وراء السـلوك العـدواني على (الآخر) المغاير بسبب أطمـاع ظـاهرة أو خفيـة؛ وأن هذه الظواهر الثقـافية أو الحالات قد يمر بها الأفراد والدول والأمم نتيجة لتوفر ظروف معينة.
أما أن يدمغ الإسلام أو عالم المسلمين أو العالم الإسلامي بالتطرف والإرهاب دون سائر العقائد والأديان والمجتمعات فذلك يعود لمواقف ودوافع هي في أساسها “أيديولوجية”، إلى جانب الدوافع الاقتصادية والسياسية، فهي ليست موضوعية، على كل حال، كما أن الحيلولة دون التفتيش عن الأسباب الحقيقية للإرهـاب هـو نوع من التغطية على المجـرم الحقيـقي، أو المحرك الحقيقي، أو كشف المسبب الحقيقي، حتى أننا نعتقد أن الاقتصار على معالجة الآثار يتحول ليصبح مساهمة سلبية تؤدي إلى إخفاء الجريمة والسماح للعنف بالامتداد.
لـذلك لا بد -كما أسلفنا- عنـد التعـامل مع الظاهـرة أن ننـظر في الأسباب المنشئة لها، وعدم الاقتصار على معالجة الآثار؛ لأن استمرار الظاهرة وتجذرها وتوضعها سوف يستمر طـالما استمرت الأسباب المنشئة لها، وهذا لا يعني التوقف أو العدول عن معالجة الآثار؛ لأن معالجة الآثار ليس خيارا وإنمـا هو يمثل حالة الإسعـاف الضروري للمريض، لكن لا يمنع ذلك من عرضه على استشاري ينظر في العلاج الناجح والوقاية من المرض والحيلولة دون إزمانه.
على الجانب الآخر لا نغفل التوظيفات السياسية، التي تسببت هي الأخرى في تصعيد بعض التيارات على حساب أخرى، ثم خرجت الأمور عن السيطرة وتحولت لتيارات متطرفة مثلت عبئاً حتى على داعميها. وعلى الجانب الآخر، يمكننا القول إن هناك نوعاً من توظيف الإرهاب من قبل غالبية الأطراف التي تقوم أيضاً بمحاربة الإرهاب. فمن المهم أيضاً التفرقة في التعامل مع الظاهرة الإرهابية بين الجماعات الطارئة، وتلك التي تنتج وتظهر من داخل نسيج المجتمع على غرار حركة حماس.
حتى الحل الأمني لظاهرة العنف يبقى مطلوبا كعلاج مؤقت يحول دون امتداد الآثار، حتى ولو لم يشكل حلا، لكن عدم التوازن في التعامل معه وعدم إدراك المسافة بينه وبين حدود حقوق الإنسان قد ينتهي به لأن يكون مشكلة بدل أن يكون حلا. فالمشكلة أو الإشكالية، أن العنف ظاهرة معقـدة، لا يعود تشكيلها لسبب واحد وإنما لتوفر مجموعة أسباب، سياسية واقتصادية واجتماعية وشرعية وتربوية… إلخ. والحل الأمني المعتمـد لمعالجـة ظـاهرة العنف في بلاد المسلمين ملغم في كثير من الأحيان بمعاداة الإسلام، والمفارقة الخطيرة أن تستخدم له الأسلحة والسـواعد والأموال الإسلامية، الأمر الذي لم يزد العنف إلا ضراوة واشتدادا وامتدادا، بل يمكن القول:
إن معالجة العنف بالعنف يمكن أن يتمحض ليكون أحد الأسباب الرئيسة في استدعاء العنف واستمرار المواجهات الدامية، ولا أدل على ذلك مما هو مشهـود في بعض البلاد [ ص: 134 ] الإسلامية، بل في كلها، لكن بأقدار وألوان متفاوتة؛ حيث بطل السحر، وتبين أن الإسلام هو المستهدف في المحصلة النهائية، وأن عالم المسلمين هو ميدان العنف الرئيس، على الرغم من كل الوسائل والحلول الأمنية أو ما يقع في إطارها؛ لأن الإسلام وعالم المسلمين هو الذي اختير العدو البديل لحضارة الصراع، بعد سقوط الماركسية. ونحن بهذا لا نريد أن نعفي المسلمين أو بلاد المسلمين من ظواهر العنـف والتشدد والغلو والفراغات المذهبية والطائفية والعنصرية، التي يمكن أن تشكل أسبابا يمتد بها (الآخر) وتشكل له رجع الصدى.
فالحقيقة أن ثقافة العنف، أو ظاهرة العنف، هي من الظواهر المعقدة المتراكبة، التي تشترك في تكوينها أسباب داخلية وخارجية، تتضافر جميعا لتشكيل التربة المنبتة للعنف والتطرف والإرهاب والغلو والتشدد.
يشكل التطرف الناتج عن الانحراف الفكري أزمة حقيقية للفكر، فضلاً عن أزماته الأخرى، إذا تجسد في أرض الواقع، ولكي نبحث عن مخرج لهذه الأزمة الفكرية، يجب أن نحلل الأسباب، ونتتبع الجذور التي أدت إلى هذا التطرف، ونظراً لأهمية هذا التحليل، ودوره المرتقب في تشخيص العلاج المناسب، كان الواجب أن يتولى هذا الدور العظيم مؤسسات متنوعة بجهود جماعية منظمة لا أفراد أو خبراء مهما بلغ تكوينهم الفكري بعيدًا عن التنظير لأن القضاء على الإرهاب يستلزم القضاء على مسبباته وجذوره من خلال إيجاد إستراتيجية أمنية فكرية تربوية تشترك فيها جميع مؤسسات المجتمع، مع توسيع دائرة البحث عن الأسباب الحقيقية للإرهاب ودراسة شاملة للظروف النفسية والاجتماعية والأسرية التي تدفع هؤلاء الشباب إلى التطرف الفكري الذي ينقلهم إلى مناطق الصراع الدولية وممارسة الإرهاب لأن ظاهرة الإرهاب باتت مصدر خطر على الجميع، وما زالت الأعمال الإرهابية تختبر تصميمنا على محاربتها وتمتحن عزيمتنا على التصدي لها. ليس للإرهاب مبررات مقبولة، لكن له جذور ومسببات ينتعش في ظلها ويتغذى من تفاقمها.
ومهما اتسعت دائرة البحث عن أسباب الإرهاب فإن سبب الانحراف الفكري سيظل في المرتبة الأولى وتأثيره هو الغالب وهذا المرض الفكري يمكن أن يظهر في أي بيئة وبعدة أشكال كالعنف والغلو والتطرف والإرهاب ويصيب كل من له استعداد نفسي وعقلي، وهناك عوامل وأسباب أخرى رئيسية بالإضافة للعامل الأهم كما سبق (الانحراف الفكري) كالتالي:
1- قلة العلم الشرعي والجهل بالدين وبفقه العصر ومقتضياته.
2- عدم مناقشة المسائل الفقهية والشبهات التي أدى الجهل بها إلى وقوع كثير من الشباب في براثن الإرهاب، حيث أدى سوء فهم شباب الإسلام لمعنى الجهاد وكيفية تطبيقه إلى أن الجماعات المتطرفة قد استغلت هذا الجانب في تحقيق أهدافها ومصالحها وصورت لهم مناطق الصراع الدولية الملتهبة أنها أرض خصبة للجهاد.
3- ترك الشباب المرجعية الدينية في مجال الفتوى من كبار العلماء لدينا والأخذ والتلقي للفتوى من أنصاف العلماء أو من خطيب جائر أو مواقع مشبوهة مثل الإنترنت وممن يخالفوننا في المذهب والمعتقد مع تجرؤ الخلف من حدثاء الأسنان وسفهاء الأحلام على الفتوى.
4- لي النصوص الشرعية وتفسيرها بما يتوافق مع أهوائهم ومعتقداتهم.
5- عدم متابعة كثير من أولياء الأمور لأبنائهم والبعد عنهم وعن أسرهم أدى إلى حدوث فجوة بين الشباب وأسرته ومن ثم المجتمع نتيجة غياب الدور الرقابي للوالدين على الأبناء.
6- وقت الفراغ: يلعب الفراغ دوراً مباشراً في انضمام الشباب للانحراف والجماعات المتطرفة وخاصة الفراغ الذهني.
7- نقص المستوى التعليمي: وهذا العامل من أهم العوامل التي تساعد على سرعة الانتماء للجماعات الإرهابية حيث إن بعضهم لا يحفظ حتى قصار السور إلى جانب إسناد المواد الدينية لغير المتخصصين في العلوم الشرعية.
8- وقد تكون قلة الفرص الوظيفية من أهم العوامل التي قد تدفع الشباب إلى الانحراف أو التطرف مستقبلاً رغم أننا لا زلنا في منأى وبعد عن البطالة ولكن الحل يكمن في ربط المؤسسات التعليمية والمخرجات منها بالمؤسسات المهنية والكليات التقنية وزيادة دعم المشاريع الصغيرة والتوسع في إيجاد الفرص الوظيفية والعمل على نشر ثقافة احترام المهن الحرفية وإحلال المواطن في كثير من هذه المهن من خلال تهيئته لها وتطوير آليات محاربة الفقر. وتعد القرارات الحكيمة والأوامر الملكية الأخيرة التي أمر بها خادم الحرمين الشريفين أحد العوامل المهمة التي سوف تساهم في خلق فرص وظيفية للحد من هذه المشكلة.
9- الغزو الفكري والفضائي المدمر وشبكات التواصل الاجتماعية الموجهة لقتل روح الانتماء في شبابنا وزرع التطرف والغلو فيه حيث تعتبر شبكة الإنترنت من أهم قنوات الاتصال للجماعات التكفيرية المتطرفة من فئة البغي والضلال تبث من خلالها فكرها ومنهجها وأيدلوجيتها لتجنيد الشباب في خلاياها الإرهابية.
10- التقصير وعدم الرؤية الواضحة وغياب التخطيط والتنسيق لدى مؤسسات المجتمع المدني وخاصة المعنية بالتنشئة في أداء المسؤولية المنوطة بها في حفظ واستثمار عقول الشباب ودورها الوقائي والاستباقي المهم من الانحراف الفكري.
11- كثرة التصنيفات وعدم وجود منافذ للحوار في كثير من البلدان جعلت العالم الإسلامي اليوم يعاني من انقسامات فكرية حادة بين تيارات مختلفة، وأبرز هذه التيارات: تيار ليبرالي يدعو إلى الانسلاخ والبعد عن الدين، وفي الجانب الآخر نجد التيار الديني المتشدد البعيد عن الوسطية والاعتدال، كل منهم يسعى للتشكيك في الآخر وعدم الثقة فيه، جعلت بعض المتحمسين من صغار السن والجهلة يلتحقون بفكر التطرف والإرهاب.
12- التطرف في محاربة الدين وتناوله بالتجريح والسخرية والاستهزاء والتصريح بإبعاده عن شؤون الحياة من قبل بعض الكتاب والمثقفين وتنقيصهم لعلمائه أو كتبه ومراجعه ولعل القرار الملكي السامي الأخير كافٍ لردع المتطاولين على الدين ورموزه.
إن هذا التعدد المتزامن لبؤر التوتر في المنطقة يوفر بطبيعة الحال مناخات مناسبة لتنامي التطرف ومخاطر الإرهاب التي تواجه العالم جميعاً ويهدد بعواقب وخيمة لا تحمد عقباها كل ذلك يحتم علينا أن نرفع الصوت عالياً في التحذير من استمرار تراخي الجهود الدولية، والاكتفاء بإدارة الأزمات، بدلاً من السعي الجاد إلى إيجاد الحلول الشاملة والعادلة المستندة إلى مبادىء القانون الدولي ومقررات الشرعية الدولية، بعيداً عن ازدواج المعايير وانتقاليتها وانحيازها مع محاولة الاتفاق على وجود مصطلح وتعريف من الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي يتفق عليه الجميع لتعريف الإرهاب والتفريق بين الإرهاب
وحق الشعوب المشروع في الدفاع عن نفسها كالحالة الفلسطينية أمام إرهاب الدولة الصهيونية، ولعلنا نصل من خلال ما طرح من نقاط وأسباب إلى رؤية علمية تسهم بإذن الله تعالى وتوفيقه في نجاح جهود مواجهة الفكر المتطرف وحماية الفرد والأمة من خطره ومخاطره بعد أن عرف المواطن والمقيم ما هو الإرهاب وأيقن بخطورته ورأى بأم عينيه شدة فتكه وعلم حرمة الانضواء تحت لوائه والإيمان بمرتكزاته ولبناته وتوجهاته، ولعل كلمة صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية في مؤتمر الإرهاب الأخير الذي احتضنته الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة والتي طالب في كلمته الرائعة التي دشن بها المؤتمر وافتتح بها فعالياتها الانتقال من دائرة التشخيص إلى وصف الدواء الذي به تتحقق الحماية للصحيح والعلاج للسقيم.
أخيراً، إذا كان هناك كمون في الظاهرة؛ فهذا لا يعني أنها انتهت، فالإرهاب يعيد نفسه مرة أخرى في غرب إفريقيا. وما زالت أزمة مخيم الهول في شمال سوريا معلقة دون حسم؛ وهو المخيم الذي يضم ما بين 20 إلى 50 ألفاً من زوجات وأبناء العناصر الإرهابية بداعش، وبعض الذين تم تجنيدهم من جنسيات عديدة. فماذا لو استمرت هذه الحالة؟ وماذا لو استطاعوا الهرب؟ وماذا لو استيقظ المارد بعد أحداث غزة؟ هناك مخاوف شديدة بهذا الشأن خاصة في الوقت الذي يواجه فيه الشباب في العالم نوعاً من العدمية السياسية التي أفرزتها صدمات تلقي الأخبار والتقلبات السياسية الجارية وتجريد السرديات، وغيرها من حالة السيولة التي يشهدها العالم الآن.