كتب د/ عادل عامر
تجسد الهدف الرئیس للبحث في دراسة انعکاسات تطبیق آلیات التحول الرقمي على النمو الاقتصادي في مصر. وذلک سعیاً نحو التعرف على طبیعة وأهمية التحول الرقمي کأحد ابتکارات تکنولوجیا المعلومات والکشف عن أهم عوامل ومحددات نجاح استراتیجیات التحول الرقمي بالَإضافة إلي تحدید طبیعة التحدیات التي تواجه تنفیذ آلیات التحول الرقمي واستخلاص انعکاسات تطبیق آلیات التحول الرقمي على النمو الاقتصادي في مصر.
توصل البحث إلي أنه یتطلب نجاح التحول الرقمي کأحد ابتکارات تکنولوجیا المعلومات، تغییر نظم التعلیم والتعلم لتوفیر مهارات جدیدة وکوادر بشریة مستقبلیة قادرة على تحقیق التمیز في العمل الرقمي وتحقیق الرفاهية الاجتماعیة، کما أکدت المؤشرات الکمیة حرص الدولة المصریة على تطبیق استراتیجیات التحول الرقمي باعتباره أحد الأعمدة الرئیسیة في بیئة ریادة الأعمال المصریة، وتبين في البحث أيضا أن الاستثمار في الاقتصاد الرقمي بمصر والعمل علي رفع کفاءة القطاع الرقمي بما يمکن من قياس الفجوة الرقمية بين مصر والعالم المتقدم وفقا لمعايير موحدة کما توصل البحث إلى وجود علاقة إيجابية بين تطبیق آلیات التحول الرقمي و تعزيز النمو الاقتصادي في مصر.
أوصى البحث بالتأکيد على أهمية رأس المال البشري، من خلال الإستثمار في البنية الأساسية لتقنية المعلومات والإتصالات، من شبکات وأجهزة وبرمجيات وتطبيقات وخبرات بشرية مدربة ومؤهلة للتطور وليس لمجرد التشغيل الأمثل والصناعة وإتاحة الإنترنت للجميع بجودة عالية وبتکلفة مناسبة.
لا شك بأنه وفي ظل التحولات التي يشهدها العالم خاصة مع الإعتماد المتزايد على التكنولوجيات الرقمية، لم يعد من المجدي التعامل مع المتغيرات على الساحة الاجتماعية والاقتصاية بنفس الأنظمة والمناهج الفكرية التي تطورت وسادت طوال العقود الماضية.
ولعل المتغيرات العالمية على المشهد الاقتصادي هي الأبرز وتشكل محاور حديث واهتمامات المجتمع الدولي بكافة شرائحه، خاصة بأن مفهوم الاقتصاد أصبح أكثر ارتباطاً ليس في تحقيق المستهدفات التنموية فحسب بل بالاستقرار والأمن الوطني والعالمي.
ولعل المفهوم العام لعلم الاقتصاد لم يعد يكفي لتعريفه بالشكل المناسب في ضوء ما يشهده العالم من متغيرات على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي. فالاقتصاد وإن كان مرتبطاً “بالأنظمة التنموية التي تدرس السلوك الإنساني وعلاقته بالموارد والوصول إلى الاكتفاء الذاتي وتحقيق النمو والوفرة في المال، والتعامل مع الإنتاج، والتوزيع، والاستهلاك للبضائع والخدمات،” إلا أنه أصبح يتمحور اليوم حول مفهوم الأمن والذي فرض نفسه بالقوة كقطب لا يمكن بدونه اكتمال الدائرة التنموية.
أي بأن “المشكلة الاقتصادية” والتي هي أساس الاقتصاد أصبح حلها معتمداً على مدى كفاية الإجابات على متطلبات الأمن الإنساني، والأمن الاجتماعي، والأمن الثقافي، والأمن السياسي، وغيره. وبلغة مبسطة، أصبح الاقتصاد يمثل جزءاً لا يمكن أن تكتمل بدونه سياسات واستراتيجيات الأمن الوطني.
ثم أن دخول التكنولوجيا الرقمية على المشهد الاقتصادي – وهو ما يرمز له بالاقتصاد الرقمي – كقوة دافعة، أصبحت تغير المفاهيم الاقتصادية التقليدية وقواعد التجارة والقدرات التنافسية، وعكست أثاراً عميقة وهائلة على مستقبل الاقتصاد العالمي واستقرار الشعوب والمجتمعات. فبروز المجتمعات الرقمية – المعتمدة على توظيف التكنولوجيا في كل مناحي الحياة والعمل – غدت تغير من الهياكل والنظم السلوكية والاجتماعية المعتادة في المجتمعات الإنسانية.
فالتغلغل التكنولوجي في مجتمعاتنا المتصلة بالإنترنت والشبكات الإلكترونية والتي تتميز بمعدومية الحدود والخصوصية، باتت تُظهر عجز الأنظمة التقليدية في التعامل معها وخاصة منظومات الأمن الوطنية.
إن المسائل المستجدة والتحديات الأمنية التي يفرضها الاقتصاد الرقمي على الأمن الاقتصادي المحلي أو العالمي، تستدعي من المجتمع الدولي وعياً أعلى بالمحاور الأساسية والمُشّكلة لدعائم الأمن الوطني للاستعداد الأمثل وبناء القدرات وحماية المكتسبات والبنى التحتية وضمان استدامة الدورة التنموية على كافة الأصعدة.
الاقتصاد ومحاور الأمن الوطني الأساسية
من واقع الممارسات الدولية للحكومات في العالم، فإن الأجندات والخطط الوطنية المرتبطة بتحقيق الأمن والاستقرار في المجتمعات، ترتكز على ثلاثة محاور رئيسة، هي الاقتصاد والمجتمع والأمن. ولكن التكنولوجيات الناشئة في الاقتصاد الرقمي أصبحت ترفع من درجة التعقيد في الوصول للحلول وتحقيق المستهدفات بالشكل التي كانت عليه في السابق.
المحور الاقتصادي
يركز هذا المحور على تعزيز القدرات الإنتاجية بغرض تحقيق فوائض في الميزان التجاري، والتوظيف الشامل لكافة المواطنين، وتحقيق الاستغلال الأمثل للموارد الطبيعية وتأمين احتياجات الأجيال الجديدة. ويشكل هذا المحور خط الدفاع الأمني الأول بأي مجتمع حيث يمثل استيعاب المواطنين والسكان في سوق العمل، التوجيه الرئيس للنوازع الإنسانية الداخلية نحو البناء والتطوير،
ومن ثم تنصرف بالكلية عن الانحراف، وتمنع ظهور الرغبات غير السوية، حيث تساعد الإنسان على السلوك القويم والتطوير الذاتي لتحسين الدخل وتحقيق جودة أفضل في حياته وحياة من يعول، وهو ما يعني أن هذا المجتمع يكتسب مناعة ضد أي محاولات التثوير والإغضاب وخلق حالات عدم الرضا.
ووفق التقديرات العالمية فإن التكنولوجيا الرقمية ستحل محل 75 مليون وظيفة بحلول عام 2022، وسيحتاج ما بين 40 مليون إلى 160 مليون في جميع أنحاء العالم بحلول عام 2030 إلى إعادة تأهيل والانتقال إلى وظائف مهارية أعلى، وهو الأمر الذي ينذر بتفاقم نسب البطالة خاصة في المجتمعات العربية ويحمل في طياته آثاراً مدمرة تبدأ من الاضطرابات السلوكية للأفراد وتنتهي إلى الجريمة.
المحور الاجتماعي
يركز هذا المحور على استيعاب الأنشطة الإنسانية بشكل عام، ومنها الأنشطة الثقافية والرعاية الإنسانية، واحتواء الفئات الضعيفة والتنمية البشرية. ويمثل هذا المحور مع المحور الاقتصادي خطوط الردع الأساسية، إلا أننا نضعه في المرتبة الثانية رغم أهميته القصوى، حيث إن كافة الخدمات المجتمعية وامتلاك القدرة على تطويرها سيحتاج في المقام الأول لقدرات اقتصادية لإنفاذها، وهو ما يعني بأن المجتمعات الأقل حظاً (الفقيرة)، سنجدها على الأغلب لديها مشكلات اجتماعية، مع صعوبة في علاجها على الصعيد الشخصي والمجتمعي، مما يجعل كثير من الفئات المهمشة ناقمة وتَكِّن مشاعر انتقامية أو يسهل تأجيج هذه المشاعر لديها استغلالاً للوضع الاقتصادي والاجتماعي. وقد كان لشبكات ومنصات التواصل الاجتماعي في الاقتصاد الرقمي دوراً كبيراً في إضافة بُعد لم يكن ليصل إلى خيال الإنسان قبل ظهور (الإنترنت)، بأن يجعل من العالم قرية كونية صغيرة تنصهر فيها المجتمعات والانتماءات القومية والحضارية والدينية، وتستبدل بالانتماء العالمي. وأصبح ذلك يجر معه مخاطر العولمة التي لم تعد تنحصر في الهوية الثقافية أو السلع والخدمات الرقمية بل تمثل تهديداً لمرتكزات الوحدة الوطنية والأمن والاستقرار في المجتمعات.
المحور الأمني
يمثل هذا المحور خط الدفاع الأخير لحفظ الأمن والاستقرار، حيث يساهم في خلق الردع اللازم لمنع الجريمة بالتوازي مع القانون والعدل. ويتجه هذا المحور لتأمين الجبهة الداخلية الوطنية، ويتكامل مع المنظومة العالمية لإقرار الأمن، وهو الهدف الذي يستوجب توفير الحماية اللازمة للداخل أمام أي اعتداءات أو تهديدات خارجية والتي قد تأتي في صور مختلفة بهدف الإضرار بثوابت الوطن وهي: المواطن والأرض والقدرات الاقتصادية والحالة المجتمعية.
ونجد بأن حروب اليوم لم تعد كحروب الماضي حيث تلتقي الجيوش على الحدود أو بالبحار لتتصارع نيابة عن مجتمعاتها، فهذا الشكل من التهديدات الأمنية أصبح تقريباً من الماضي، ولكن نجد بأن الجيل الرابع من الحروب – والتي مهدت لها ومكنتها تكنولوجيات الاقتصاد الرقمي والمعتمدة على (الإنترنت) والشبكات الرقمية – أضحى يستهدف اختراق الجبهة الداخلية وتنفيذ المعركة من خلال ضرب الداخل بالداخل، وخلق صراعات محلية لتستهلك القدرات الاقتصادية والإنسانية والمجتمعية بشكل كامل، وهو ما نراه أكثر ضرراً من الحروب المباشرة التي لا تخلف كل تلك الأضرار؛ إذ على الأقل، تبقى الجبهة الداخلية متماسكة في مواجهة العدو الخارجي المرئي.
أمن الإنترنت والشبكات الرقمية
اليوم أصبحت الشبكات الرقمية والذكية مهيمنة بصورة كبيرة على مظاهر الحياة مثل نقل الطاقة وحركة المرور والأنظمة الحكومية وتحصيل الضرائب والجمارك وأمن المطارات ورقابة المنافذ والحدود وما إلى ذلك من أمثلة تفوق الحصر، وهو ما يجعل تعريض تلك الشبكات للخطر ليس بالأمر المحتمل ولا الممكن أحيانا. فانهيار منظومة عمل ما قد تقود لكارثة لا تنتهي آثارها بسهولة وبسرعة، وقد تكلف المليارات بل التريليونات لعلاج تلك الآثار واستعادة الأعمال لطبيعتها. وتشير بعض التقارير أن التكلفة العالمية للأمن السيبراني والرقمي قد يصل إلى ستة تريليونات دولار في العام المقبل 2021، وتتوزع تلك التكاليف ما بين تكلفة الحماية والوقاية وتكلفة العلاج والخسائر الناجمة والمتسلسلة عن وقوع الأحداث.
ويمثل هذا النوع من التهديدات خطورة كبيرة نظراً لسهولة شنها وانخفاض التكلفة وجسامة النتائج المترتبة بحال نجاحها، وخاصة في ظل استخدام هذه الجهات المهاجمة لتكنولوجيات الاقتصاد الرقمي الاستراتيجية المتمثلة في الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة وقدرات الحاسوب المتسارعة في تكثيف تلك الهجمات وتعقيدها. لا تحمل شبكات (الإنترنت) والشبكات الرقمية فقط مخاطر الهجمات السيبرانية بل تحمل أيضاً هجمات الأفكار وصناعة البروباجاندا. فقد تضررت العديد من المجتمعات بالعقد الأخير من سيولة الأفكار الهدامة وسهولة وصولها للمجتمعات المختلفة ولا سيما المجتمعات العربية التي تم استهدافها من خلال مواقع التواصل الاجتماعي مثل الفيسبوك أو تويتر والتي تم استخدامها كمنصات لتجارة الأفكار وتبادلها بسهولة كبيرة وبلا رادع تقريباً.