الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
فإن من العقل والدين، وسلوك سبيل المؤمنين أن تجعل قضايا الأمة المصيرية فرصة للمراجعة والمحاسبة، والتأني والتدقيق في المسار، وإصابة الهدف بتلمس مواطن العلل، وسماع الحق ولو كان مراً، وتقبل النصح ولو كان مؤلماً، وديننا مبناه على النصيحة بمعناها الشامل، نصيحة لله في دينه وكتابه ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم كما صح الخبر بذلك عن المعصوم
وإن من القضايا قضية أقضت المضاجع، وآلمت النفوس، وأثارت المكنون، ونتج عنها ما يتسامع الناس به بين الفينة والفينة التي تتمثل في التكفير، وما يقود إليه من التفجير والتدمير والفساد وقتل الأنفس المعصومة وإراقة الدماء، وترويع الآمنين، ومطاردات تستنزف فيها الطاقات، وتهدر فيها الأموال والمقدرات، واختزان لوسائل القتل والتدمير، صور مؤلمة تتسارع في الذهن، ويقف فيها العاقل متحيراً، وتدل دلالة أكيدة على فتنة استشرت، ومحنة استمرت، وشر يجب على عقلاء الأمة التعاون على اجتثاثه واستئصاله كما يجب منع أسبابه وبواعثه،
فلا يكفي أن تلتقي المشاعر المؤمنة، والرؤى المتزنة على رفض هذه الصور الشنيعة، والأفعال المنكرة والبراءة منها ومن أصحابها، ولا تعالج المسألة ببيان العموميات الشرعية أو استهداد تلك الإدانة من أساليب الإثارة والتهويل التي يقع فيها بعض من كتب وطرح،
وإنما يجب أن تتضافر الجهود وتتكامل الأدوار، وكل منا مطالب بمشاركة وبتحمل المسؤولية أمام الله عز وجل ثم أمام مجتمعة وأمته، ويجب أن نتجرد في نظرتنا وننطلق من معالجتنا لهذا الانحراف المستشري من أصول ديننا، ومبادئ عقيدتنا، ومن هنا يجب أن يكون الأثر الأكبر في الطرح المؤصل، والجهد المؤسس، والتفاعل المثمر، مشاركة في ضبط المسار،
وتصحيح الأفكار وترشيد التوجهات، والبعد عن المغالطات .موضوعُ التكفيرِ من القضايا الراهنة في المنطقة التي تضغط بقوة على وعي المثقف وتدفعه إلى العمل على التحليل والنقد، وفي النتيجة لابدَّ أن يعمل على مراجعة الأحداث عاملا على كشف الأُطروحة الكامنة وراءها، سواء كانت واعية، أم غير واعية، ولكن في الأحوال كلها تظهر في توجيه ما يدور في المنطقة من أعمال عنف مرتبطة بإطار عقائديّ لتلك التنظيمات التي تحاول أن تعيد توجيه مسار المنطقة، انطلاقا من تصوراتها العقائديَّة وعلاقاتها الدولية.
وإنَّ هذا لا يعني عدم الاعتراف بأن هذا الفكر إنَّما يستمد قراءاته للدين وشؤون الناس من نصوص دينيّة، وتراث دينيّ عقيديّ وفقهيّ قد يؤسس للتشدد إذا ما قُرئ قراءة مغلقة، لا تعترف بحركة الحياة وتطورها وتخلط بين الدين والتدين، وبين ما هو اجتماعي في التراث الديني، وما هو متعال على الاجتماع في النصوص المقدّسة، ويمثل روح الدين ومبادئه الأبديّة.
فهذه الأحداث تمثل راهنًا يشغل المثقف، وتؤطِّر تفكيرَه ورهاناته الوجوديَّة، ولكن لا يمكن فهم رد الفعل لأيّ إنسان من دون الرجوع إلى التجارب المشاركة لأولئك الذين اتبعوا تلك الأطر الثقافيَّة؛ لأنَّ الفرد محدد داخل الثقافة المفروضة والمسيطرة، التي تعمل على قولبة الفرد عبر التربية والتثقيف في العائلة والمجتمع وعبر فرض سماتها الثقافيَّة؛ فثقافة التكفير لا يمكن فهمها بمعزل عن الراهن الثقافيّ والسياسيّ.
يبدو أنَّ حال أغلب تلك الجماعات التكفيريَّة متماثلًا، فهي تحاول أن تحقق ما تعتقده إصلاحًا عبر السيطرة السياسيَّة، والنزوع العسكريّ الذي يمكنها من تهديد الدول، والعمل على إقامة النظام الإسلاميّ، وهذا يتحقق من خلال إزالة أنظمة الردة الطاغوتيَّة، وإزالة مظاهر الفساد الخُلقيّ والسياسيّ والاقتصاديّ والثقافيّ… وإقامة الشريعة الإسلاميَّة.
وبهذا توسَّع ذلك التنظيم، حتى غلب على غيره وصبغ المجتمع بلونه، فهو لم يكن نتيجة حراك مجتمع متنوع الوجوه السياسيَّة والاجتماعيَّة، بل هو تنظيم توسَّع بمغالبة خصومه والتفوق على منافسيه أو احتوائهم، ولعل هذا واضح في ما سبق عرضه عن تعامل الأفغان العرب مع بقية الحركات الإسلاميَّة، وهو “ما يخصُّ الجماعات الإسلاميَّة المسلحة؛
لكسب تأييدهم أو تبنيهم للمبادئ الجهاديَّة والتكتيكيَّة أو تعاطفهم، أو على الأقل ضمان عدم تعاونهم مع العدو؛ وذلك بالتهديد أو الترغيب. إنَّ أيَّ إنجازٍ ميداني يجب أن يصُبَّ في نهاية المطاف في المصلحة الشرعيَّة للطائفة المقاتلة، وإن كانت سياسية”
. وبهذا المنطق، تمَّ التغلب أو احتواء المنافسين حتى بات المجتمع خاضعًا في توجهاته إلى إرادة التنظيم وأهدافه البعيدة عن الحرية الفرديَّة، وهذا ما يحصل في المدن والقرى الخاضعة إلى تلك التنظيمات على اختلافها، بعيدًا عن الحرية والتنوع والاختلاف التي يتمتع بها الأفراد بإرادتهم الحرة. وأيُّ خروج عن إرادة التنظيم يُعرِّض المجتمع إلى العنف والقتل “هكذا تقتل القاعدة الناس، أو هكذا تحاكم دولتها الإسلامية في الشام والعراق مواطنيها.
تسألهم أسئلة، ولا توجه تهما. فإذا عرفوا الجواب ربما أفرجت عنهم، وإذا لم يعرفوا تقوم بإعدامهم، لا عقوبة غير الإعدام، ولا محاكمات أصولية. ولا تهم موجهة، ولا محامي دفاع… لكن هذا القاتل إياه يغطي كل هذا بتلاوة آيات قرآنية لكي يبدو للناس أنه إنما يطبق أحكام القرآن على الناس…
هذه هي دولة القاعدة الإسلامية التي تريد إقامتها في العراق والشام، والتي يسقط الآن آلاف الضحايا من المدنيين المسالمين بسببها. من منكم يتمنى أن يعيش في ظل هكذا دولة؟”
وفي ظلِّ هذه الخطابات الشموليَّة التي تعتمد رؤيةً كونيَّةً تحتكر الحقيقة، وتعتمد العنف الوسيلة المتمثلة في الوصول إلى الهدف حتى لو كان على حساب مصائر الناس، وهي تنثرهم عبر التفخيخ والأحزمة الناسفة؛ لإشاعة رؤيتهم الشمولية القائمة على أنَّها الحقيقة وأنَّ الآخر شطط وانحراف شيطانيّ.
وإذا أردنا في ضوء هذه الملامح العامة أن نتتبع مظاهر الغلو على مرّ التأريخ لم نقف على حصر، لأن مظاهر الانحراف لا تحصر، وإنما الحق هو الذي تعلم معالمه، فكما أن التفريط لا حد لصوره، فكذلك الإفراط. ولكن المعيار في تحديد المظهر من مظاهر الغلو إنما هو إلى الشريعة فإن الغلو تجاوز لحدودها فما لم تعلم تلك الحدود؛ فإن المعيار سيكون مختلاً.
إن مشكلة الغلو في الدين متعلقة بالشرع والدين، فالمرجع فيها هو الشرع، وفي الحكم على عمل من الأعمال أو قول أو اعتقاد بأنه مظهر من مظاهر الغلو لا بد من دراسة الأمر، والنظر في النصوص مع النظر في الواقع؛ للخروج بأن هذا المظهر من مظاهر الغلو.
إن أول المنطلقات الشرعية التأصيلية لمعالجة هذا الأمر هو إظهار عظمة هذا الدين، وشمولية أسسه التي أنبنى عليها وإبراز ما تضمنته من محاسن ومزايا:
فأولها: أنه دين الهي، صادر من حكيم عليم، رؤوف رحيم، عليم بما يصلح العباد ويصلح لهم في عاجلهم وآجلهم، مراعياً أحوالهم، موافقاً للعقول السليمة، والفطر المستقيمة، يقول الله سبحانه وتعالى عن أساس هذا الدين، وهو القرآن المجيد “ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً“.
يقول ابن كثير – رحمه الله – : يأمر الله عباده بتدبر القرآن وينهاهم عن الإعراض عنه، وعن تفهم معانيه المحكمة، وألفاظه البليغة، ويخبرهم أنه لا اختلاف فيه ولا اضطراب، ولا تضاد ولا تعارض؛ لأنه من حكيم حميد فهو حق من حق
وثاني تلك الميزات: أنه دين الفطرة قال تعالى: “فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها” فالفطرة البشرية تقبل التوحيد، وجميع ما جاء به الإسلام.
وثالثها: الكمال والتمام، يقول الله تعالى “اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا” وفي الحديث الصحيح: أن رجلاً من اليهود جاء إلى عمر رضي الله عنه فقال له: آية في كتابكم لو نزلت علينا معشر اليهود لاتخذنا ذلك اليوم عيداً قال: وماهي؟ قال: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) وقال ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية: أخبر الله نبيهأنه أكمل لهم الإيمان فلا يحتاجون إلى زيادة أبداً، وقد أتمه فلا ينقصه أبداً، وقد رضيه فلا يسخطه أبداً. فمن ادعى نقص الشريعة أو قصورها عن مسايرة الإعصار، وعدم وفائها بمتطلبات وحوائج أهل الأمصار فهو على ضلال مبين، وخطر عظيم.
ورابعها: الاستمرارية والصلاحية لكل زمان ومكان وأمة، فالرسول e خاتم الأنبياء والمرسلين، وإمامهم، ودينه خاتم الأديان فلا يقبل الله من أحد ديناً سواه، قال تعالى :(ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين(
يقول ابن القيم رحمه الله محذراً من الإعراض عن الكتاب والسنة وتحكيم آراء الرجال، والتعصب للآراء: ماعذر من نبذ الوحيين وراء ظهره في يوم لا تنفع الظالمين فيه المعاذر، أفيظن المعرض عن كتاب الله وسنة رسوله
أن ينجو من ربه بآراء الرجال؟ أو يتخلص من بأس الله بكثرة البحوث والجدال، وضروب الأقيسة وتنوع الأشكال؟ أو بالإشارات والشطحات وأنواع الخيال؟ هيهات والله لقد ظن أكذب الظن، ومنته نفسه أبين المحال، وإنما ضمنت النجاة لمن حكَّم هدى الله على غيره،
وتزود التقوى، وأئتم الدليل، وسلك الطريق المستقيم، واستمسك من الوحي بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها والله سميع عليم.
وخامسها: اليسر ورفع الحرج والمشقة، يقول الله سبحانه وتعالى: “يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر” وقال سبحانه “مايريد الله ليجعل عليكم من حرج“.
قال ابن عباس – رضي الله عنهما – : إنما ذلك سمة الإسلام، وما جعل الله فيه من التوبة والكفارات، فليس هناك ضيق إلا ومنه مخرج ومخلص، فمنه ما يكون بالتوبة، ومنه ما يكون برد المظالم.
وسادسها: الاجتماع والاتفاق والائتلاف قال الله تعالى: “واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا” وقال جل شأنه: “إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شئ إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون” وقد بين الله في كتابه أن من أكبر أسباب الفشل وذهاب القوة الاختلاف، فقال سبحانه: ( ولاتنازعو فتفشلوا وتذهب ريحكم) وفي عهد رسول
وقع نزاع في مسألة من أمهات مسائل الدين، فكان من رسول الله e موقف واضح يمثل منهجاً شرعياً في التعامل مع الاختلاف، ورد النزاع إلى كتاب الله وسنة رسوله e ، والصدور عن رأي معتبر من العلماء يمثل حكم الله في الواقعة المعنية، أخرج الإمام أحمد وابن ماجه وغيرهما بسند صحيح عن عبدالله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – قال: خرج رسول
على أصحابه ذات يوم وهم يتنازعون في القدر، هذا ينزع بآية، وهذا ينزع بآية، فغضب حتى كأنما فقئ في وجهه حب الرمان، فقال: أبهذا أمرتم؟ أم بهذا وكلتم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟ انظروا ما أمرتم به فاتبعوه، ومانهيتكم عنه فانتهوا.
وسابع تلك الميزات: الوسطية والاعتدال في العبادات والطاعات والأحكام، قال الله تعالى: “وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً” وقد كان رسول الله e قدوة يتأسى به ومثالاً يحتذى لكل طالب حجة، فما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، وحث أمته على الاعتدال والاقتصاد في جميع الأمور، حتى في المأكل والمشرب والمنام
وقال: “أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة”، ولما بعث أبا موسى الأشعري ومعاذاً إلى اليمن أوصاهما فقال: “يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا” ودين الله سبحانه وسط بين الغالي فيه والجافي عنه.وقد روي عن رسولمن وجوه متعدده أنه قال: “يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.
فتحريف الغالين: هو التعصب والتشدد بغير دليل.
وانتحال المبطلين: هو تحسين الظن بالعقل في الشرعيات ومتابعة الهوى.
وتأويل الجاهلين: الجهل بمصادر الأحكام، وبدلالتها على ما استدل بها عليه.
وثامنها: العدل فشريعة الله مبينة على العدل، قال الله تعالى: “إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى“.
فأمر بالعدل والقسط في جميع المعاملات، وأداء الحقوق المتنوعة الواقعة بين الناس، ونهى عن الظلم في الدماء والأموال والأعراض والحقوق كلها، وهل يمكن صلاح هذه الأمور إلا بالعدل والقسط الذي هو روح وقوامه، وفي معاملة الكافر يقول الله سبحانه وتعالى: ( ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) أي: لا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل.
وتاسعها: أنه دين الرحمة: لأنه شَرع الله الرحيم العليم الحكيم، فلا عجب أن تكون الرحمة من أهم ميزاته وخصائصه، وشواهدها في الشرع والقدر ظاهرة، فالرسول e بعثه الله هدى ورحمة للعالمين، ووصفه بالرحمة فقال سبحانه: “لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم” فإذا كانت الرحمة صفة لازمة لله، ووصف بها أكرم الخلق عليه، فإن هذا يوضح أن دين الإسلام دين الرحمة ولذلك ورد في الحديث الأمر بالرحمة، وأن القيام بها سبب لرحمته، قال النبي : “الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء” أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي.
وعاشرها: الوفاء بالعهود والمواثيق، وهي من أعظم الميزات التي تظهر بها عدالة الإسلام ورحمته وحكمته وشموليته، وتعد أصلاً من الأصول التي أمر الله بها فقال: “يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود” يقول الشيخ السعدي _رحمه الله _: وهذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين بما يقتضيه الإيمان بالوفاء بالعقود، أي: بإكمالها وإتمامها، وعدم نقضها ونقصها، وهذا شامل للعقود التي بين العبد وربه، والتي بينه وبين الرسول
بطاعته واتباعه، والتي بينه وبين سائر الناس، ومن أكبر أصول الدين ومصالحه التي يتحقق بها انتشاره القيام بالقسط والوفاء بالعهود والمعاقدات، وبها يتم الدين، ويستقيم طريق الجهاد الحقيقي، وتحصل الهداية من الله والإعانة. وكان النبييوصي أمراءه ونوابه على الجيوش بقوله: “اغزوا باسم الله في سبيل الله‘ قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا
إن طريق الإصلاح يجب أن يبدأ بنقد الذات، ومراجعة النفس، ومراجعة المنهج لا بد فيه من اجتناب الخلط بين الإسلام الحق ومفاهيم التنطع والغلو، فذلك أمر لا بد من معالجته على ضوء كلام الله وكلام رسوله
وفهم السلف الصالح وبهذا تندفع هذه الرؤى الخاطئة والأفكار المنحرفة بإذن الله عز وجل، ويعود المجتمع إلى صفائه ونقائه متمسكاً بثوابته بحول الله وقوته.
وبهذا يتبين أن الإسلام جاء لحفظ الضروريات الخمس: «الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال»، وكل ما من شأنه حفظ الحقوق وتوافر الأمن واستتبابه، مشرعاً كل ما يضمن تحقيقه ذلك، ويكفل سلامته في جميع الأحوال، وبين أفراد المجتمع صغاراً وكباراً، ذكوراً وإناثاً، قريبين كانوا أو بعيدين مسلمين، أو غير مسلمين، بصورة فريدة ومنقطعة النظير لا يعرف لها في تاريخ البشرية مثيلاً.
ومن هنا أعطى الإسلام الأمن الرعاية الفائقة والاهتمام البالغ على اختلاف أنواعه عقدياً وفكرياً أو مادياً محسوساً يقول الله سبحانه وتعالى: +وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لسيتخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً.
وقال تعالى: أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون“.ويؤكد هذا المعنى رسول الله عندما يقول في الحديث الصحيح: «من أصبح معافاً في بدنه، واجداً قوت يومه، أمناً في سربه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها».ويُذكِّر الله سبحانه عباده بنعمة امتن بها عليهم، ويبين لهم حقيقتها وفضلها، وأنها عائدة إليه سبحانه لا إلى غيره، وأن الأساس في وجودها هو القيام بحقها من العبودية له، والالتزام بأوامره واجتناب نواهيه، قال الله تعالى في قريش: +فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف“.
وقال سبحانه مذكراً أهل هذه البلاد المقدسة التي حوت أول بيت وضع للناس، منبع الرسالة ومهاجر النبي: أولم نمكن لهم حرماً آمناً يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقاً من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون” فبين سبحانه أن هذا الأمن منه سبحانه، وبسب الأمن يحصل الرغد في العيش، ولهذا جلبت إليه ثمرات كل شيء؛ لأنه إذا أمن المكان فإن الناس يطمئنون فيه على أموالهم، وبيعهم وشرائهم وسائر أنماط حياتهم.إن الأمن إذا شاع وتم حصل به الخير كله، فبه تتحقق مصالح دينهم ودنياهم، وينالون الخيرات، ويسعون في الأرض بطلب الرزق وتحصيل المعيشة، وبالأمن تقوم الحضارات،
وتعمر الأوطان، ويتعارف الناس، وتنتشر مظاهر الرزق والحياة، ولهذا لما أكمل الخليل عليه السلام بناء البيت العتيق بأمر الله كان أول ما دعا به، وأهم ما طلبه من ربه لهذا البقاع الطاهرة هو تحقيق الأمن، قال تعالى: وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلداً آمنا وارزق أهله من الثمرات“.
فدعا بأمرين: بدأهما بالأمن، وثنى بالرزق؛ لأن الأمن أساس الرزق، ولو حصل رزق بلا أمن لم يهنأ الإنسان به، ولم يتنعم فيه، ولذلك فإنه من المتصور أن يعيش الإنسان قليل ذات اليد فقيراً وهو مطمئن آمن، ولكن من غير المتصور أن يعيش وهو خائف مفتور ولو كانت عنده الأموال الطائلة، وإذا تقرر هذا فإن الأمن مطلب شرعي، ومنة إلهية، ونفحة ربانية، وتحقيقه مسؤولية الجميع حكاماً ومحكومين رجالاً ونساءً، كباراً وصغاراً.
والأمن ليس هو الأمن الحسي فقط، بل هو معنى شامل منتظم، لأمن العقول، وأمن الأفكار والثقافات، وأمن الثوابت والمعتقدات، وأمن الاقتصاد، وأمن الأبدان، وأعظم سبب لحفظ الأمن هو الإيمان بالله، والعمل بشريعته، وعمدة ذلك هو تحقيق التوحيد، ونبذ كل طريق يوصل إلى الشرك ووسائله، وترك كل ما يضاد هذا التوحيد، فإن من حقوق الإيمان والتوحيد تحقق له الأمن التام في الدنيا والآخرة، قال تعالى: +الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون“.
وقال سبحانه: وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر” فخص الدعاء بالأمن لمن آمن، وهذا يدل على أنهم أرسلوا بذلك، وأنهم يرون أن من دعائم قيام الشريعة الأمن المبني على الإيمان.
إن المحافظة على الأمن من الجميع عبودية لله، فكما نتقرب إلى الله بأنواع القرب، فإنه يجب أن نعلم أن حماية الأمن والتفاعل مع مؤسساته ورجاله قربة إلى الله وطاعة، ثم إن نفعه عائد إلينا، ففي وجود الأمن وظله تعمر المساجد، وتقام الصلوات، وتحفظ الأنفس والأعراض والأموال، وتأمن السبل، فالكل يجب أن يكونوا جنود لحفظ الأمن، وبداية الأمن والحماية تكون من الحفاظ على الشريعة، والبعد عن المخالفات التي هي من أكبر أسباب الإخلال بالأمن وفقدانه.
إن النظرة الشرعية جزء من معالجة الواقع الذي نعيشه، ومواجهة الفتنة التي استشرت وذهب ضحيتها فئات من أبناء المسلمين من قبل فئة منحرفة وجماعة ضالة تنكبت الطريق واستهوتها الشياطين، واتبعت سبيل غير المؤمنين، فإن النظر إلى ما وقع يتطلب البحث في السبب، والنظر إلى ما جرى، وإن من أعظم الأسباب التي سلط بها هؤلاء علينا وقوعنا في المخالفة، وتفشي المنكرات، وظهور ألوان الانحرافات، ومن القصور في معالجة الأمر أن يتجه الخطاب إلى تجريم الحدث وتأصيله دون معالجة أسبابه ودوافعه، فلابد للناظر في هذا الأمر أن يعلم السنن الجارية، والنواميس الإلهية، قال الله تعالى: ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم“.
ولذلك لابد أن يواجه الجميع هذه الفتنة بمحاسبة النفس وتقويمها، ثم بنشر الوعي بهذا الضلال المبين، والجرائم المنكرة التي لا يمكن لمسلم مهما شذ فكره وانتكست مفاهيمه أن يجد لها مبرراً في شريعة أو عقل أو فطرة، وأي تبرير يمكن أن يجده من يعلم عظم حرمة الدماء المعصومة ثم يقدم على هتك هذه الحرمة ليلقى الله قاتلاً منتحراً، كيف يسمع المسلم بقوله الله سبحانه: +ومن يقتل مؤمناً متعمداً” وبقول الرسول ×: «لزوال الدنيا أهون من قتل امرئ مسلم بغير حق» وبقوله فيما أخرجه البخاري: «ومن استطاع أن لا يحال بينه وبين الجنة بملء كفه من دم أهراقه فليفعل»
وقوله فيما أخرجه البخاري أيضاً: «لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً»، وقوله في حجة الوداع: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا» يعيدها مراراً ويقول: «ألا هل بلغت» أَبَعَدْ هذه النصوص يستخف مسلم في قلبه تعظيم الله ورسوله ولنصوص الشرع بدماء الشرع بدماء المسلمين.
إن الأفكار المنحرفة التي ينطلق منها من يريدون بالأمة سوءاً وتتجه أفعالهم إلى زعزعة الأمن والإخلال به لا يمكن وضع حد لتداعياتها، ولا تصور لمآلاتها، فهي فتنة استشرت، وبداية من الشر يمكن أن تتسع لتشمل من كان يظن في وقت أنه بمنأى عنها فيكون هو مستهدفاً، وهذا ما اتضحت معالمه من خلال ضلال هذه الفئة حيث تطورت تطوراً خطيراً، وتحولت إلى منحى مظلم، وسلكت طرقاً بغيضة مشينة، وأساليب موغولة في الحقد والكراهية والعداء.
وقد كتبت قبل ما يزيد عن عقد ونصف من الزمن عن بعض الأسباب التي تجعل بعض الناس شباباً كانوا أو غير ذلك يقعون في الفتن والشبهه والانحراف الفكري، ثم يدفعهم ذلك على الانغماس في الأعمال الإفسادية والأجرامية دون وازع أو رادع ظانين أنهم بفعلهم ذلك يُصلحون، أو أنهم ينصرون الإسلام وأهله، وما علم أولئك المساكين الظالمين الضالين المُضللين أن أفعالهم هذه هي أبعد ما يكون عن دعوة الإسلام الحقة ومبادئ الشريعة السمحة الغراء، وأنها ضربة قوية في ظهر الإسلام وأهله، وطعنة قاتلة لكل عمل إسلامي خيِّر في مشارق الأرض ومغاربها.
مع بياني للدواء الناجح والعلاج الشافي النابع من كتاب الله وسنة رسوله × وما كان عليه السلف الصالح وعلماء الأمة لكل ما يطرأ على أولئك، وما يعن لهم من مشاكل وأقضيات، وما ينزل بهم من نوازل، وما يلبس عليهم به من الأفكار المنحرفة، والمبادئ الضالة، والعوادي المعادية،
والتأكيد على أنهم بصفة خاصة، وبلدهم (المملكة العربية السعودية) بعامة مقصودون بالشر، مستهدفون بكل ما يكدر صفو حياتهم واجتماعهم وائتلافهم، وما يشيع بينهم من المحبة والتعاون على الخير والتقوى حكاماً ومحكومين، رعاة ورعية، علماء وطلاب علم، كباراً وصغاراً ذكوراً وإناثاً، وما ذاك إلا حسداً وحقداً وحنقاً على بلاد التوحيد والعقيدة الصحيحة والمنهاج السليم، قبلة المسلمين، ومهوى أفئدتهم، ومتطلعهم، مهبط الوحي ومنبع الرسالة، التي تنطلق في أحكامها وجميع تصرفاتهم من أسس وأصول الشريعة الإسلامية حتى أصبحت مضرب المثل ومحط النظر في إيمانها وأمانها وأمنها وطمأنيتها واستقرارها، ورغد العيش فيها.وبعد أن توالت الأيام، وتفاعلت الأحداث، وظهرت الآثار الخطيرة والأهداف المشينة، والمقاصد السيئة الخبيثة لتلك المذاهب الهدامة، وخصوصاً بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م، وما تخمض عنها وولدته من ضغوط واضحة، واستهداف صريح صارخ للإسلام والمسلمين على مختلف المستويات وتباين الرؤى والمجالات، والأبعد من هذا وذاك ما وقع من التفجيرات والأعمال الإرهابية الإجرامية عبر السنتين الماضيتين في وطننا الغالي وبلدنا الحبيب.
صار واجباً عينياًن ولزاماً حتمياً على كل فرد من أفراد هذا المجتمع الطيب الآمن أن يسهم إسهاماً فاعلاً ويشارك مشاركة واضحة وصريحة وصادقة بقدر جهده واستطاعته في رأب الصدع، ورد الفتنة ووأدها، ودحر الأعداء ظاهرين كانوا أو مستترين، والوقوف صفاً واحداً، ودرعاً واقياً، وجبلاً صلداً، في مواجهة من يعبث بأمن بلادنا، أو يريد تكدير صفو حياتنا، أو المساس من قريب أو بعيد بعقيدتنا ومبادئنا وعادتنا وتقاليدنا كائناً من كان، ولا يعذر أحد في هذا الأمر مهما كانت الأسباب أو المبررات أو التعللات؛ لأنه يجب أن نعلم علم اليقين ونعتقد اعتقاداً جازماً بأن الدين ديننا والأمن أمننا والوطن وطننا، وأنه (لا قدر الله)
لو حصل أي أمر فإن آثاره السيئة ونتائجه السلبية ستطال الجميع، ولن تفرق بين مؤيد مخدوع مغرر به، وبين معارض لها مدافع عن دينه ووطنه، والسعيد من وعظ بغيره، فما علينا إلا أن نمعن النظر ونتأمل بمن حولنا، بل من هم جيراننا وحدودهم مع حدودنا ماذا حصل لهم وحل بهم من المصائب والحروب الطاحنة المهلكة، والفتن العمياء؟ وما ذاك إلا لأنهم تنكبوا الصراط المستقيم، وابتعدوا عن منهج الله فسلط عليهم الأعداء، ودب فيهم الخلاف والاختلاف،
وسيطرت عليهم الأحزاب والتحزبات التي تفرق ولا تجمع، وتنتج الفرقة والتشاحن والتطاحن التي أول ضحاياها هم المتلبسون بها الناعقون لخرافاتها، الداعون لظلماتها.فلنحذر كل الحذر ولنكن يقظين مدركين لكل ما يخطط له شياطين الإنس والجن، وما يدبره مردة الضلال والانحراف الفكري والسلوكي ولا ننخدع بزخارف أقوالهم، ومعسول السنتهم، وأباطيل دعاويهم، وما يحسنونه من القبيح، وما يقبحونه من الحسن، وما يقومون به من التلبيس والتدليس، ودس السم في العسل، فيحرمون الحلال، ويحللون الحرام، ويلوون أعناق النصوص ويبترونها، مقدمين الهوى على الشرع، مما يجعلهم يعتقدون ما يريدون قبل الاستدلال، ويعلقون الحق بالرجال فيغتر بهم من لا خلاق له من عديمي الإيمان، وناقصي العقول وقليلي الإدراك والفهم فيقعون في شراكهم، ويصبحوا أدوات يستغلونها لتحقيق مطامعهم المشينة، أمّا هم فتجدهم معززين مكرمين آمنين إما بين ظهراني الأعداء، أو بين أبناء المجتمع يضحكون على أولئك المساكين الواقعين في حبالهم نسأل الله العافية والسلامة.
وأداءً للأمانة ونصحاً لكل مسلم وقياماً بالواجب الذي أشرت إليه سابقاً عزمت متوكلاً على الله بالإسهام في إخراج مؤلف يعالج قضيتين خطرتين ومهمتين يلتبس أمرهما على بعض أبناء المسلمين فيروحون ضحية لعدم إدراك الحكم الشرعي لهما، وما قرره الله ورسوله × بشأنهما، وما سطره علماء المسلمين في مواجهتهما والتحذير منهما وهما (التكفير والتفجير)،لذلك كان كتاب معالجة الكفر والتفكير عبر القتل والتفجير للدكتور سعد الدين البرزة من سوريا الحبيبة