كتب/ الدكتور عادل عامر
إنَّ الفكر من صفة المؤمن، بحيث يستحثّه كي يعتبر من الحياة وما فيها من مظاهر وآثار وعبر، بحيث يكون الإنسان المتفاني في خطِّ الإيمان، والمتعلّق بطاعة الله، كما يدفعه الفكر كي يـتأمّل في نظام الطبيعة والحياة والخلق، ليعتبر بما يراه، بما يجعله يأمن العثرات والمشاكل، فيبتعد عن الانغماس السّلبي في أهواء الدّنيا وزينتها، ويأخذ منها ما يحتاجه، وبما ينسجم مع حدود الله تعالى.
إنَّ الفكر أيضاً يورث المؤمن مزيداً من الإعانة على الحقّ والتزامه عن وعيٍ وقناعةٍ وحكمةٍ ومسؤوليّة، فالمؤمن يثمر الفكر في نفسه مزيداً من الاستعداد للمواجهة، ويجعله محتاطاً ومتجنّباً الزلّات والعثرات ونقاط الضّعف، بحيث يكون في حماية من كلّ ما يؤثّر سلباً في أخلاقه، فلا ينحرف بها، وفي عقله ومشاعره، فلا يجعلهما مرتعاً للشّيطان.
فلنفكّر ونتأمّل، ونعتبر ونتّعظ، ونعوّد أنفسنا على ذلك، كي نخرج من السطحيّة والسّذاجة، وندخل في دائرة الفعل الإنساني الواعي والفاعل والمنتج.
لا يمكن أن نفكّر ونتّعظ ونطلب العون على الحقّ من أنفسنا، ونحن نكره بعضنا بعضاً، ويتحامل بعضنا على بعض، ويحقد بعضنا على بعض، ونسعى بالفتنة والغيبة والنّميمة، فهذا لا يعقل، ولا يمكن لإنسان مؤمن أن يتَّصف به ويبقى على إيمانه.
والإنسان بحاجة لأن يقف مع أول همه، فإن كان لله أمضاه وإن كان لغيره توقف، والروية في كل أمر خير إلا ما كان من أمر الآخرة.. قال الشافعي: فكر قبل أن تعزم، وتدبر قبل أن تقدم. وكان ابن مسعود – رضى الله عنه – يقول لأصحابه: أنتم في زمان خيركم المسارع في الأمر وسيأتي على الناس زمان خيرهم المتوقف المتثبت لكثرة الشبهات.
وبعد أن علمت قيمة التفكر وما ورد بشان ذلك من آيات وسنن وأثار حري بك أيها الغادي أن تقف ساعة وتتفكر، من أنت، ومن خلقك، وإلى أين المصير، أراحل أنت أم مقيم، وإذا كنت مرتحلاً، فإلى أين أإلى جنة أم إلى نار؟ فالحياة بغير الله سراب، يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب.
تفكر في الموت والقبور والآخرة وبعض هؤلاء يقضى عمره فى النضال ضد الظلم والفساد فى مؤسسته الصغيرة، وبعضهم يترك مثل هذه المؤسسات ليقيم مؤسسته الخاصة، أو يتحول هو فى حد ذاته إلى مؤسسة متنقلة، أينما حل صاحبها حلت المؤسسة،
يحقق فيها كل ما عجز عن إنجازه في الوظيفة الحكومية، أيا كان نوعها، ولا يعنى هذا تخلى أمثال هؤلاء عن النضال من أجل مجتمع أفضل، لكنهم يوسعون دائرة الكفاح بعد أن يتخففوا من الأعباء البيروقراطية المعوقة، ويبتعدوا عن مصادر الإزعاج والنكد الوظيفى، التى تستنفد جزءا كبيرا من جهد المبدعين وتبدد طاقاتهم الخلاقة فى أمور تافهة، لا تسمن ولا تغنى من جوع. يتلخص فكر الكفر والتكفير وتحليل دماء الآخرين الذي يتبناه الإسلاميون المتشددون الذين ينتشرون في أرجاء العالم اليوم بعد أن كانوا محصورين في جبال أفغانستان وفي بعض “أراضي الجهاد”, يتلخص في أنه من الممنوع أن يفكر أي إنسان في غير ما يفكر فيه “المتشددون”, وإن فكر في غير ما يفكرون فيه فهو كفر. وإن كفر, فقد أحل دمه وذنبه على جنبه ولا يلوم إلا نفسه!
يفترض أننا نعيش في زمن نقبل فيه جميع الآراء, ولكن هؤلاء القوم لم يعد لديهم متسع من الوقت للاستماع إلى الآخر, ويعتقدون أنهم ليسوا بحاجة لمحاورة من يختلفون معه, فحكم الإعدام قد أصدروه ضده ولسان حالهم لا يختلف عن لسان حال أي ديكتاتور قاتل عندما يسأل, لماذا أمر بإعدام المعارضين دون محاكمة؟ فتكون إجابته: لأنهم مذنبون ولا حاجة لإضاعة الوقت في محاكمتهم. أولئك المتطرفون هم نتاج طبيعي لعصر جاء بعد القرون الوسطى التي تميزت بفكرها الديني المتشدد, وفي زمن صار فيه الإحباط والهزائم العسكرية والسياسية والاقتصادية بل وحتى النفسية تتوالى على أجيال بأكملها, فوصل الشباب إلى اليأس, واختاروا إلغاء الآخر بكل الطرق, ولم يترددوا في لي عنق الآيات والأحاديث, وانتقوا من القرآن ما يبرر لهم ما يقومون به.
لقد حرّم فقهاء القرون الوسطى ومؤلفو الكتب الصفراء الرسم والفلسفة وحتى المنطق. قالوا: “من تمنطق فقد تزندق”. وقالوا أيضا: المنطق يؤدي إلى الفلسفة وما يؤدي إلى الكفر كفر”… قد لا أختلف كثيرا مع من يرى أن بعض العلماء المسلمين ضحايا لفكر قديم. فكثير منهم لقنوا منذ نعومة أظفارهم تعليماً دينياً قديماً لم يمزج بعلوم حديثة, وغرس في تفكيرهم كراهية الحياة والأحياء والانغلاق على الذات ومقاومة كل ما هو جديد وعصري, فصاروا أعداء لعصرهم ولأبناء يومهم واستمروا في العيش في زمان غيرهم. زمان قد مضى وولى ولن يعود.
هؤلاء الذين يرهبون الفكر والثقافة ويحاربون الإبداع والتفكير هم في حقيقة الحال مجرمون في حق أنفسهم وحق أوطانهم وحق أمتهم. فهم باسم الشريعة والدين يلغون كل ما يتعارض مع تفكيرهم ولا يترددون في أن يكون القتل والإحراق, وسيلتهم لإلغاء الآخر.
لقد اضطهد التطرف الديني والإرهاب الفكري المفكرين والمثقفين بأساليب عديدة ابتداء بمصادرة كتبهم، ومطاردتهم، وإصدار الفتاوى بقتلهم، وانتهاء بإعدامهم واغتيالهم. والسؤال هو, لماذا يفعل الإسلاميون ذلك؟ قد يكون الأمر عائد إلى اعتقادهم بأنهم يمتلكون المعرفة الدينية التي لا يمتلكها غيرهم, وربما لأنهم مهووسون بتوجيه البشر وهدايتهم على طريقتهم التي لا تخلو من النرجسية والسادية, التي تجعلهم يصرون على فرض وجهة نظرهم بأي شكل من الأشكال.
منذ أيام أعلن الكاتب المصري سيد القمني وهو باحث في مجال الإنسانيات عموماً، وفي التاريخ والتراث والأديان والإسلاميات بشكل خاص, أعلن براءته من كل أفكاره السابقة وكل ما قام بنشره, وقرر عدم الكتابة والحديث لوسائل الإعلام والصحافة, وكذلك عدم المشاركة في الندوات واللقاءات الفكرية, والسبب هو أنه تلقى تهديدا جادا بالقتل عبر بريده الالكتروني من جماعة تطلق على نفسها “الجهاد في مصر”. جاء في التهديد انه… وإذا لم يتوقف عن نشر أفكاره التي تعارض أفكارهم وليست على هواهم فيكون قد حكم على نفسه بالموت. ونتيجة لهذا التهديد اختار القمني التراجع والامتثال, لأنه لا يريد أن يموت بتلك الطريقة التي مات بها فرج فودة ولأن لديه أبناء يريد أن يربيهم ويخشى عليهم مصير أبناء فودة.
وسواء كانت هذه التهديدات حقيقية أو مفبركة كما يحاول أن يصورها البعض, على أنها تهدف إلى الارتزاق والتسول, إلا أننا لا يمكن أن ننكر حقيقة, وهي أن المثقفين والمفكرين ليسوا بمنأى عن رصاصات وخناجر المتشددين, وان القمني ليس أول ولا آخر من يهدد بالقتل, ولكنه ربما ينجو بسبب موقفه المتراجع هذا. والتاريخ حافل بتهديدات وجهت لأهل الفكر والثقافة, ولا يمكن أن ننسى محاولة اغتيال نجيب محفوظ على يد إسكافي, لمجرد أنه سمع خطبة تتهم عملاق الأدب العربي والعالمي بالكفر وتدعو إلى استتابته أو قتله.
وفي محاكمة قاتل الدكتور فرج فودة, وهو سباك سبق له دخول السجن عدة مرات متهما بالنشل والسرقة, برر القاتل جريمته بأنه احتسب لله, بعد أن سمع شريطا “دعويا” لأحد الشيوخ يتهم الدكتور فرج فودة بالردة والطعن في الأحاديث النبوية وسب الصالحين. عندما سأل القاضي الجاني, لماذا اغتاله؟ أجاب: لأنه علماني. ولما سأله مرة أخرى: ما معنى علماني؟ أجاب: لا أعرف! وأصدر الإسلاميون حكما بردة نصر حامد ابوزيد, وفي السودان شنق الفيلسوف المتصوف محمد محمود طه عام 1985 بتهمة “الردة”… والأغرب من ذلك أن إسلاميين رفعوا دعوى الردة على محمد عبد الوهاب من أجل أغنية “من غير ليه”؟!
وقبل كل هؤلاء دفع العالم “جاليليو” حياته ثمنا لنظرية علمية, واتهم بالزندقة وأعدم لأنه اكتشف أن الأرض مكورة وتدور حول الشمس، وليست مركز الكون – عكس ما في الكتاب المقدس – بل قال إن الأرض قد لا تساوي حجم حبة