من المؤكد أن الفن يسهم في تهذيب النفس وفي التوعية والتحذير من نماذج معينة ينبغي البحث عن حلول لأزماتها، فالفن يقوم بدوره وعلى باقي المعنين من أسر ومدارس القيام بدورهم أيضاً”. “الجرائم بأبشع صورها موجودة في أكثر المجتمعات تقدماً ورقياً، كما أن من يشاهد الأعمال الفنية بشكل عام يتكون لديه حس وذائقة وروحه تتهذب، وحتى لو هناك مشاهد عنيفة هو يعلم أنه استعراض لنماذج طبيعية في العالم كله، ولن يتشكل لديه دافع، ويتحول إلى مجرم بسببها، بل على العكس تماماً سيحاول أن يستفيد من تجربة المشاهدة بشكل إيجابي، بالطبع لكل حالة استثناءات،
تلعب الفترة الزمنية دورًا كذلك؛ فالفتراتُ التي يسودها الاضطراب الثقافي، والتقلب، وعدم اليقين تميل أيضا إلى إطلاق سلوكيات عدوانية تلعب على حبال خوف الآخرين. وسواءً ظهر في غرفة الاجتماع أو غرفة المعيشة، يُعرَف السلوك السام بذبذباتهِ. إنه يُفقِد الاستقرار ويُعرَف أثرهُ العاطفي السلبي على الفور. في اللكمة الأولى فإنه سيسبّب الارتباك،
أما في الثانية فإنه سيُشعرنا بانتقاص عميق واستصغار. لكن السلوك السام يُعتبَر مُنتجَ أنواعٍ معينة مِنَ البيئات، ابتداءً بالسخرية وانتهاءً بدفع الناس إلى التشكيك في دوافعهم الشخصية بالتلاعب بهم، لا سيما تلك البيئات التي تكون الإنتاجية فيها معيار النجاح الوحيد أو حيث يتخلل الأجواء غياب الثقة أو الشك، وبالأخص في تلك العلاقات الحميمة، حيث يسري انعدام الأمان أو القلق بكثافة.
إنه يستنفد طاقتنا. ويُعرف عندما يشعر المتضررون منه بالإعياء بسهولة دون القدرة على تحديد السبب. ولا يقتصر أذى السلوك السام على الناحية النفسية، إذ إنه ينال من أجسادنا أيضا. حيث يولد الضغط والإحباط عند الانتقاص الحاد من قيمتنا. ويُعزى الإرهاق العميق الذي يتسبب به عندما يُزعزِع استقرارنا، إلى كونه يدفعنا للتصديق، وإن كان للحظة، بأنه يعكس الطريقة التي يرانا بها كل الناس.
لكن كوننا بالقرب من سلوك سام، دون أن نُستهدَف بالضرورة، يبعث على الإعياء أيضا كما تورِد بوراث. فهو يتصل بالتوتر العصبي، والمرض القلبي الوعائي، والأرق، والمناعةِ المنخفضة، والإفراط في تناول الطعام. الأشخاص السامّون لا يؤذون الآخرين عاطفيا وحسب، إنهم أيضا خطر على الصحة.
وكما هو حال كل الظواهر السلبية، فإن له تأثيرًا كبيرًا على العقل حتى وإن شوهِد وحسب. إذ فور رؤية أحد الموظفين رئيسه في العمل يوبّخ موظفا آخر فإنه سرعان ما سيجد نفسه يكرر ذلك السلوك. وقد يتم توارث السلوك المسيء في العائلات من جيل لآخر كما يُتوارث لون الشعر. أما في العلاقات الشخصية يكون الأمر محبوكا بصورة أشد مكرًا ضمن أواصر الارتباط.
وقد تعاظم انتشار السلوك السام، على مدار العقدين الفائتين. حيث غذاه الاضطراب الثقافي وصاحبه ارتفاع عام في الوقاحة والجلافة. وأفصحت بوراث، في الإصدار الأخير من فصلية ماكينزي، أن نصف العمال الذين اُستطلعت آراؤهم في 1998 قالوا إنه قد تمت معاملتهم بأسلوب فظ على الأقل مرة شهريا. وبحلول عام 2016 قفز الرقم إلى 62%. هكذا أصبحت الأفاعي سكنا للحدائق إلا أن الثابت عند الأشخاص السامّين، أنه مهما كانت الإهانة، أو الارتباك أو الجراح التي ألحقوها بك فإنه إما أن يكون ذنبك أنت وإما أنك تضخم الأمر. إنهم لا يتحمّلون بتاتًا مسؤولية تصرفاتهم. حتى أنهم قد يرون أنهم كانوا يحاولون تقديم العون.
إن هذه المواجهات تعطل بشكل خفي الإحساس بقيمة الذات، لكن، إلى درجة تبدأ معها بالبحث عن سبل لتفادي تلك المواجهات مع الإساءات ومرتكبيها. إن الشخصيات المحبوبة والمشهورة رغم فوائدها في المجتمع، إلا أنها أكثر عرضة للتورط مع الشخصيات السامة، الشخص المحبوب والسلس في التعامل هو ميزة نادرة وتجذب إليك الكثير من الناس، والمشكلة أنها تجذب الشخصيات السامة أيضاً
لأن الشخص المرن والسلس يستطيع تحويل المواقف الاجتماعية المحرجة للبعض إلى مواقف مرحة وطبيعية، ويساعد الناس على التخلص من الضغط النفسي في المناسبات الاجتماعية رغم محاسن وإيجابيات هذه الصفات، إلا أنها تجعلك هدف للشخصيات السامة هؤلاء الأشخاص يفسروا اهتمامك بسعادة الآخرين على أنه نقاط ضعف لديك، وبالتالي يستغلوا هذا الأمر للسيطرة عليك.
مثال: قد يمثّل عليك الشخص السام أنك مرتبك وقلق وغير مرتاح في مناسبة اجتماعية، كي تضطر تعط إن المستمع الجيد عادة شخص هادئ ومتفهم جداً للآخرين، عادة يكون شخص مسالم التي تبتعد عن المشاكل، مع الأسف هذه الصفة تجذب بشكل كبير الشخصيات السامة،
فالأشخاص الخبيثين يستغلوا صبرك وقوتك ليرموا عليك كل مشاكل حياتهم، فتجد نفسك في محادثة من طرف واحد، شخص يتحدث مواضيع ليس لها أهمية وتجد وقتك ضاع من غير أي فائدة، وقد تتعبك المحادثة لدرجة الشعور بالحاجة إلى النوم دون أي شيء آخر،
لذلك حدد الوقت الذي تريد أن تمضيه معه في المحادثة، وخطط بطريقة واضحة لإنهاء الحديث مع انتهاء الوقت الذي خصصته. يه اهتمام أكبر وكل هدفه أن يخلق علاقة سامة معك.
تعطينا الدراما فرصة لمشاهدة حيوات موازية تمنحنا عالماً آخر يجعلنا نفكر في معضلات تبدو بعيدة كل البُعد عن تفاصيل يومنا، وإذا كانت جلسات العلاج النفسي تعطي للمشاركين بها إشارات للتعرف على الشخصيات السامة، وطلب المساعدة بشكل واضح لعدم الوقع ضحيتها، فإن القصص التي تعرضها الشاشات أيضاً تقربنا بصورة أوضح من ظروف وجد بعض الأفراد أنفسهم فيها، ووصل بهم الحال إلى العيش تحت وطأة الأذى بحجة الحب!
فالحب المرضي توابعه في بعض الأوقات تكون أشد ضراوةً من الكراهية الخالصة، وهو أمر انتبهت إليه الأفلام والمسلسلات العربية والعالمية مبكراً، وباتت هناك قائمة طويلة من الأعمال التي تركز على نفسيات الأبطال لمحاولة تحليل وتفسير تصرفاتهم غير السوية.
حب التملك خلف أقنعة الرومانسية
البعض يرى أن الغوص في حياة البشر الذين نتوحد معهم على الشاشة يمكن أن يسهم في التنبيه من الأخطار، حيث إن المشاهد الذي يتابع القصة من كل الجوانب، يجد نفسه متعاطفاً مع الضحية، ويتابع تطورات أفكار الجاني الذي يتخفى تحت ستار العواطف الجياشة، بخاصة أن الدراما لم تخترع العجلة، إنها فقط محاولات لتوثيق تجارب شرسة، ليس بهدف تخليدها أو تمجيد شرورها، إنما لأنها نموذج حياتي موجود، فلا هي خلقت دوافع للمتلقي، ولا هي وسيلة للتعليم أو منبر لبث الرسائل.
إذن، الاتزان العقلي ليس أمراً مسلماً به، بل قد يوضع في مواضع اختبار عدة، تجعل صاحبه يقوم بتصرف صادم غير متوقع، فأكثر الأشخاص عقلانية “ظاهرياً” قد يصبحون من عُتاة الإجرام، وهي نماذج صورتها الدراما كثيراً مثلما حدث في المسلسل الإنجليزي the fall”، 2013″، فرب الأسرة المثالية نموذج في التفاني والسوية النفسية، لكن عُقد الصغر تختبئ خلف طبقات وطبقات، وتخرج في شكل هنات صغيرة لا يلتفت إليها كثيرون، وتجعل صاحبها يعيش حياة سرية موازية يخرج فيها طاقته الإجرامية، ويصبح قاتلاً متسلسلاً، وينتقم من النساء اللاتي يختارهن بمواصفات معنية،
بالتالي فإن الأمور تكون معقدة إلى حد كبير فيما يتعلق بكشف الشخصيات المترصدة التي تعاني اضطرابات نفسية حادة تجيد إخفاءها، وهو أمر كان قد ناقشه المؤلف محمد هشام عبية في مسلسلين له، هما “60 قيقة”، حيث الطبيب النفسي الذي يعالج من يشتكون الأزمات فيما هو نفسه يعاني تعقيدات جمة، حيث كان يقتل القطط في صغره، ويحاول إيذاء الغير بأي شكل، وتطورت الأمور ليصبح مغتصباً متسلسلاً ومعنفاً بغيضاً، يؤذي حتى زوجته التي عاش معها قصة حب قبل زفافهما.
كانت التصرفات غير السوية أيضاً هي محرك أحداث مسلسل “بطلوع الروح”، فالحبيب المرفوض والمهان، جر حبيبته التي تزوجت بغيره إلى براثن “داعش”، وعذبها انتقاماً منها بغية امتلاكها، حيث يبدو أن تلك الشخصيات تشكل هاجساً ما لدى المؤلف، وهو بدوره يؤكد ذلك في تعليقه على الأمر، مشيراً إلى أنه مشغول بالفعل بالشخصيات التي تبدو طبيعية ومتحققة ظاهرياً، لكنَّ لديها “شذوذاً نفسياً لا يكشف عن نفسه بسهولة”، لافتاً إلى أن “أزمات الحب دوماً تكون تربة خصبة تغذي الاضطرابات وتعمقها“.
وتابع عبية، “هناك أناس يظهرون بشكل طبيعي للغاية، لكنهم لديهم القدرة لممارسة الوحشية بلا سقف، وينتظرون فقط أي تبرير للكشف عن سلوكهم”. واعتبر أنهم أكثر خطراً من المجرم الصريح، بالتالي “حرصت على تسليط الضوء على تلك النوعيات”، وخلال أحداث تلك الأعمال أيضاً نجد أن هناك بعض الفئات من المجتمع “تشجع تلك الشخصيات بقصد ودون قصد، فالنموذجان البارزان بالعملين كانا لرجلين لم يتقبلا بشكل أو بآخر فكرة أن تكون هناك أنثى قادرة على الرفض أمامهما“.
ويلفت عبية هنا النظر إلى أن هناك بعض الأسر “تزكي هذا الإحساس لدى أبنائها الذكور، وتركز على فكرة أنه من الرجولة أن لا يتعرض للرفض من أي فتاة التي يعتبرونها هم في مرتبة أقل منه، بالتالي فهي كائن يمكن سحقه ببساطة”.