إذا حُق لنا اعتبار القرية المصرية مرآة مُصغرة تعكس أوضاع وأحوال مصر، فإننا إذن نملك ما يربو على أربعة آلاف جزء من هذه المرآة؛ وهو العدد المقدر للقرى المتناثرة فى أنحاء مصر الأربعة. صحيح أن هذه الآلاف المؤلفة من المرايا ليست متجانسة فى تفاصيلها ومكوناتها، أو متناظرة فى أبعادها ودقتها فى الانعكاس؛ إذ أنها تمثل واقع قرى متباينة فى مراحل التطور الحضرى والاجتماعى والاقتصادى. لكن ذلك لن يحول بيننا وبين استخراج قدر من التشابه فيما بينها، ولن يمنعنا كذلك من إصدار بعض التعميمات والملاحظات عن التغيرات التى شهدتها القرى المصرية فى العقود التالية لتأسيس الجمهورية فى مصر.
إن أولى ملاحظاتنا حول الواقع الذى تعيشه قرانا المصرية، هى أنها لم تعد مركز توليد الدخول لقاطنيها. إذ بتحول الأنشطة المولدة لدخول القرويين من القطاع الزراعى للقطاعات المحلية غير الزراعية (الصناعية والتجارية والخدمية)، تحول جل القرويين عن الزراعة، وخرجوا من القرية للمدينة بحثا عن المصادر الجديدة للدخل. وكان لهذا التحول أسبابه المنطقية، وكانت له تكاليفه الباهظة على التنمية الإقليمية فى مصر.
ذلك أن الأراضى المنزرعة قد تآكلت انتاجيتها، ثم ضاقت بعمالتها، فانخفضت، فى غمار التضخم، قدرة نشاط الزراعة على توليد الدخل الكافى لحياة كريمة للمزارع القروى. وإذا كانت العوامل الطاردة من القرية قد لعبت دورا محوريا فى تحول مراكز توليد الدخل خارجها، فإن العوامل الجاذبة من المدن المجاورة لها كرست من هذا التحول. فتفوق دخول الوظائف فى المدينة، والطبيعة المنتظمة لهذه الدخول، وتوافر مظاهر الضمان الاجتماعى فى هذه الوظائف، جعل منها جاذبا لعمالة القرية المصرية. وفى أحيان كثيرة، تسبب غياب التنظيم عن النشاط الزراعى القروى، وانتشار «الملكية القزمية» للأراضى الزراعية بها، أن سنحت للمزارع الفرصة بأن يجمع بين عمله فى وظائف المدينة وبين الأعمال الفلاحية البسيطة.
ولم يقف الأمر عند سحب المدن المجاورة للقرى لمراكز توليد دخل سكان هذه القرى. فلقد انتقل جزء من هذه المراكز لأبعد من ذلك بكثير، حتى خرجت خارج حدود الدولة المصرية ذاتها. فبعدما سيطرت «الهجرة للنفط» على الأحلام الاقتصادية لعمال القرى، وبعدما انتشرت ظاهرة «الهجرة لأوروبا» فى عدد متنامى من قرى الوجهين القبلى والبحرى، أصبحنا أمام نموذج جديد للقرية المصرية، ويحمل ملامح اقتصادية ومالية واجتماعية جديدة، ويختلف بالكلية عن القرية ما قبل هذه الهجرات الخارجية.على أن قضية التحول فى مراكز الدخول المولدة فى القرية المصرية، كانت لها عظيم الأثر على طبيعة الاستهلاك فيها. فالانتقال من الموسمية إلى الشهرية، والارتقاء من أسفل سلم الدخل لأوسطه، والتنوع من دخل العمل إلى دخل الملكية، كلها عوامل ساهمت فى إخراج صورة قاتمة لتيارات الاستهلاك داخل القرية المصرية. فتيارات الدخل المتدفقة للقرية من مراكزه الجديدة قد مولت «هرم الاستهلاك» من قاعه لقمته؛ بداية من إشباع الحاجات الأساسية (المأكل والملبس والمسكن)، ومرورا بإشباع الحاجات الاجتماعية (التعليم والصحة)، ووصولا حتى لمظاهر الاستهلاك الترفى الدخيل على حياة القرى فى مصر. وفى ظل سيطرة هذا النمط الاستهلاكى على الدخل القروى، ستكون فرص الأنشطة الإنتاجية فى الحصول على حصة من هذا الدخل قريبة من الصفر. فالادخار لا يجد له مكانا فى غالبية قرانا المصرية.
وإذا استثنينا نسبة محدودة من القرويين من أصحاب الدخول المرتفعة المولدة من المراكز الجديدة للدخل، سنجد أن غالبية دخول القرية يُقتطَع منها، بشق الأنفس، جزء يوجه للادخار التعاونى (يسمى فى اللغة الدارجة بالجمعيات). وفوق أن هذا النوع من المدخرات لا يدخل ضمن دائرة البنوك، ولا يتجه صوب تمويل الاستثمارات المنتجة، فإن المستهدف من هذه المدخرات هو، بالأساس، زيادة قدرة القرويين على استهلاك واكتناز السلع المعمرة (لاحظ أنها سلع عالية المكون الأجنبي) فى مناسبات اجتماعية متنوعة، كمناسبة بناء الأسر الجديدة. ولذلك نستحسن تسميتها بالمدخرات الاستهلاكية.
وإذا عرجنا على ثانى ملاحظاتنا عن الصورة الحالية لقرى مصر، فإن اللون الأحمر قد أمسى بديلا كئيبا عن لونها الأخضر، ذلك اللون الذى كان قد طبع صورتها الزاهية فى الماضى. فزحف المبانى الحمراء على أراضينا الخصبة لا يضاهيه فى الكآبة غير تردى منظومة البناء وتخصيص الأراضى فى عموم مصر. فما الأولى إلا انعكاس شبه كامل للثانية. وحتى إذا استطعنا تجاوز قضية الجور على الأراضى الخصبة فى القرى المصريةــ رغم يقيننا الكامل بأنه أمر لا يستسيغه عقلــ فإن زحف المبانى فى القرى المصرية يتم بعشوائية شديدة، ولا يخضع لتنظيمات صارمة. وتكون محصلة هذه العشوائية هى مضاعفة كلفة هذا الزحف الجائر؛ إذ تتعقد به مشاكل البنية الأساسية، وتزداد به المشكلات الاجتماعية والأمنية، وتقل به جودة الحياة فى القرية على إطلاقها.
إننا نستطيع بكل ثقة الآن أن ندعى وجود علاقة دائرية قوية بين ما لاحظناه من انتقال لمراكز توليد الدخل خارج القرى المصرية، وعما لاحظناه من عشوائية البناء فيها. فغياب التنظيم عن الأنشطة الاقتصادية القروية، وانتقال مراكز الدخل للمدن القريبة من القرية، وقوة الروابط الاجتماعية، مع استمرار ظاهرة «العائلة الممتدة»، كل ذلك لم ينتج عنه خلخلة حادة فى حجم القرية، ولم يتمخض عنه هجرة كثيفة باتجاه المدن القريبة. ولعوامل ثقافية، استمرت القرى فى التضخم السكانى، وهو ما خلق الحاجة للتوسع العمرانى داخلها.
ثم لعبت البنية الأساسية المتردية، وضعف أنظمة الحكم المحلى، دورها الحاسم فى بروز ملاحظتنا الثانية عن عشوائية البناء فى غالبية هذه القرى.فإن استمرار تقدم الزراعة والسكان المستقرين والغنى والثروة بأقدار مختلفة في نواحي الوادي والدلتا — أدى إلى نشأة نظام سياسي محلي، سرعان ما أصبح إقليميًّا بجهود أفراد ذوي قدرة تنظيمية أعلى إلى أن وصلنا إلى مصر المتحدة سياسيًّا من خلال مجهودات الملك نارمر أو مينا أول فرعون معروف لأول أسرة حاكمة لكل مصر، وكان ذلك نحو ٣٢٠٠ق.م.
وقدر كارل بوتزر٢ أن سكان مصر في ذلك الوقت كانوا بين مائة ومائتي ألف، وقد يبدو هذا رقمًا شديد التواضع، لكنه في الحقيقة رقم كبير وضخم باعتبار شكل الظروف الحياتية الصعبة في هذا الزمن السحيق، والذي يهمنا من كل هذا أن عاصمة مصر الموحدة كانت في مدينة «منف» أو ممفيس كما عرفها الإغريق القدماء،
ومن ثم فإن إقليم القاهرة الكبرى كان يضم أول عاصمة لمصر استمرت نحو ألف عام من الزمان.٣٤ ثم تجولت العاصمة شمالًا وجنوبًا في أنحاء مصر حسب مقتضيات الظروف السياسية والعسكرية والدينية لمدة نحو ٢٨٠٠ سنة، ثم عادت مرة أخرى ببناء الفسطاط في مصر الإسلامية منذ نحو ١٤ قرنًا من الزمان.
الارتقاء بالريف المصري، حلم الجمهورية الجديدة الذي يخطو أن يصبح واقعا ملموساً من خلال “حياة كريمة”، وهي المبادرة الرئاسية الأكبر والأهم لتطوير الريف المصري الذي طالما عانى من انعدام المقومات الأساسية، حيث يستهدف تغيير حياة أكثر من58 مليون مواطن، من إحداث طفرة شاملة للبنية التحتية والخدمات الأساسية والارتقاء بجودة حياة المواطنين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وإحداث تغيير إيجابي في مستوى معيشتهم، وخلق واقع جديد من التنمية الشاملة المستدامة لهذه التجمعات الريفية المحلية.