د. عادل عامر

طموحات الشعب في الحياة الكريمة

 كتب /الدكتور عادل عامر                                                                                                                                 

أن الحصاد التاريخي للتجربة المصرية الوطنية بما تملكه من رصيد حضاري فريد، وما تتمتـع به شخصيتها القومية من سمات خاصة وقبول على الصعيد الدولي، ألقى على عاتق مصر مسئوليات هامة على الصعيد الدولي والإقليمي والعربي، وقد أدى ذلك إلى حتمية مشاركتها بفاعلية في كافة مناحي الجهود الدولية مما جعل لها وضعاً خاصاً إزاء الدول وبصفة خاصة على الصعيد العربي والأفريقي باعتبارها مثلاً سيقتدي به في هذا المضمار.

 تحتل الوثيقة الدستورية لدى المصريين مكانة خاصة باعتبارها كانت مطلباً وطنيـاً تسعي إليه الحركة الوطنية لحقبة طويلة من الزمن، وتمحورت حولها حركة الكفاح الوطني منذ بدء العهد الحديث لمصر سنة 1805 حتى صدور أول دستور للبلاد عام 1882، والذي ألغى نتيجة للاحتلال البريطاني – واستمرت حركة الكفاح الوطني في مسارها حتى صدور دستور الاستقلال عام 1923 ثم تعاقبت بعد ذلك الدساتير الوطنية لتواكب الظروف السياسية التي عاشتها البلاد، إلى أن صدر دستور عام 1971، والذي جاء بعد استفتاء الشعب عليه في 11سبتمبر1971 ، وجرى تعديله في مايو1980 بإضافة مجلس الشورى وسلطة الصحافة كما تم تعديله في مايو 2005 بجعل انتخاب رئيس الجمهورية بالاقتراع المباشر بين أكثر من مرشح بدلاً من الاستفتاء كما تم في مارس 2007 تعديل عدد كبير من مواد الدستور بهدف تعزيز سلطات المجالس النيابية ورئيس مجلس الوزراء وحذف الإشارات الواردة في مواد الدستور بشأن الاشتراكية وإضافة الحق في البيئة إلى قائمة حقوق المواطنين.

وقد كان من الطبيعي والمنطقي في ظل الظروف والمستجدات الدولية المتعلقة بموضوعات وقضايا حقوق الإنسان المعاصرة لتوقيت إعداد دستور عام 1971، أن يضع القائمون على إعداده نصب أعينهم، فضلاً عما هو مستقر ومتعارف عليه عالمياً في إعداد الدساتير وما ورد بالدساتير السابقة لمصر، كافة المبادئ المتعلقة بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية والمستجدات الحاصلة عليها والتي كانت تموج بها الساحة الدولية آنذاك بما صدر عن المجتمع الدولي من مواثيق واتفاقيات وإعلانات وقرارات – وأن يحرصوا على أن تتناولها نصوص الدستور من منظور الرؤية المصرية القومية والحفاظ علي ثوابت وسمات الهوية الوطنية المصرية،

 وذلك كله في إطار من الوعي والإدراك الكامل بدور مصر الحيوي والمحوري على الساحة الدولية وتأكيد احترامها لالتزاماتها الدولية والإقليمية الناشئة عن انضمامها للعديد من المواثيق الدولية المعنية. وعقب ثورة الشعب المصري في 25 يناير 2011 مرت البلاد بتطورات وأحداث سياسية هامة – حيث شهدت البلاد مرحلة انتقالية صدرت خلالها عدة إعلانات دستورية ثم صدر دستور في 25 ديسمبر2012 ولم يحظ بعد إصداره بتوافق وطني لما شابه من ابتعاد عن ثوابت الهوية المصرية وخصوصيتها – ثم قامت ثورة 30 يونيو 2013 حيث أقرت القوى الوطنية في 3 يوليو خارطة الطريق والتي تم بموجبها تعطيل العمل بدستور عام 2012، وتولى رئيس المحكمة الدستورية العليا رئاسة البلاد كرئيس مؤقت للبلاد وتشكيل لجنة وطنية لإعداد الدستور الجديد للبلاد – وقد قامت اللجنة بإعداد الدستور الجديد وطرح في استفتاء شعبي حظي فيه بموافقة الشعب المصري بأغلبية كبيرة جاوزت 98 % وصدر في يناير 2014.

وقد تضمنت نصوص الدستور مستجدات جوهرية وهامة علي الهيكل السياسي للبلاد وعلى أوضاع وصلاحيات السلطات الوطنية فيها من أجل تلبية طموحات الشعب المصري بما يتناسب مع التضحيات التي قدمها وتتماشي مع الأهداف التي قامت من أجلها ثورتيه في يناير 2011 ويونيو 2013 ولتحقيق آمال المستقبل من خلال إرساء دعائم الديمقراطية والحكم الرشيد وتعزيز احترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية ووضع الحلول الدستورية المناسبة لتلافي الظروف والمعوقات والسلبيات التي عانت منها البلاد وأدت إلى قيام ثورتيه المشار إليهما وضمان عدم تكرارها.

ويمكن بإيجاز استخلاص أسس ودعائم التزام وحرص مصر على إدراج مبادئ حقوق الإنسان وحرياته الأسـاسية بالدستور الجديد وإعلاء شأنها على الصعيدين الوطني والدولي، فيما يلي:

• أن مصر بحكم تكوينها الحضاري الفريد وتاريخها المتميز والممتد عبر آلاف السنين والذي صنع وصاغ هويتها الوطنية التي أمتزجت بقيم الأنبياء وما سطرته الكتب والرسالات السماوية الثلاثة، ونتيجة لعضويتها في الأمم المتحدة منذ إنشائها وعضويتها كذلك بجامعة الدول العربية آنذاك ( عام 1945 )، كانت مؤهلة حضارياً وقومياً ودينياً وثقافياً وسياسياً، لكي تكون من الدول التي شـاركت بجدية في إعداد وصياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والصـادر عـن الأمم المتحدة في 10 ديسمبر 1948 ووقعت عليه وقت صدوره.

• أن الشريعـة الإسـلامية الغراء باعتبارها المصدر الرئيسي للتشريع على نحـو ما نصـت عليـه المادة الثانية من دستور 1971 وما تلاه من دساتير حتى الدستور الأخير، أتت سواء بالقرآن الكريم أو السنة النبوية الشريفة بقيـم ومبادئ وأحكام تشكل نظاماً اجتماعياً متكاملاً يضمن للإنسان في كل زمان ومكان وأياً كانت عقيدته وبدون تمييز أو تفرقة، حقوقه وحرياتـه في كافـة مناحي الحياة وهى بذلك تسبق من أربعة عشر قرناً جميع ما استقرت عليه المجتمعات الإنسانية وما توافق عليه المجتمع الدولي الآن من مبادئ في هذا الصدد، وقد ساعد ذلك مصر وبغير شك على خلق مناخ موات وضاغط للوقوف بقوة إلى جانب كل الجهود الدولية أو الإقليمية الداعية إلى تكريم التواجد الإنساني على الأرض ونبذ كل صور التفرقة والتمييز والعنف والقهر والدعوة إلى القضاء عليها ونشر قيم الخير والمحبة والتسامح واحترام الآخر والعدالة والسلام.

• أن مصر وقت إعداد دستور عام 1971 كانت موقعة بالفعل في 4 أغسطس1967 على العهدين الدوليين للحقـوق المدنية والسياسية(1) والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (2) والصادرين عن الأمم المتحدة في عام 1966، ويعتبر كل من العهدين سألفي الذكر بمثابة الاتفاقيتين الأم لمبادئ حقوق الإنسان وحرياته، والإفراغ القانوني الأممي الأول لمبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في قواعد قانونية دولية ملزمة تشكل الأساس للشرعية الدولية لتلك المبادئ، ويؤكد ذلك أن مصر كانت حريصة على سرعة إقرار الشرعية الدولية لمبادئ حقوق الإنسان وحرياته الأساسية وداعمة لتناولها من خلال القواعد القانونية الدولية الملزمة على الصعيد الدولي.

• أن مصر اتساقاً مع رؤيتها القومية ونظمها القانونية وتقاليد وأعراف شعبها وتكوينها الثقافي والحضاري المتمثل في سعيها وجهودها عبر تاريخها لمساندة قضايا حقوق الإنسان – كانت منضمة بالفعل لعدد من الاتفاقيات الدولية المعنية بحقوق الإنسان والتي كانت قائمة ونافذة المفعول آنذاك مثل اتفاقيات جنيف الأربعة(3) الخاصة بالقانون الإنساني الدولي، واتفاقية مكافحة إبادة الجنس البشرى والمعاقبة عليها (4) والاتفاقية الدولية للاجئين (5) واتفاقيتي منظمة العمل الدولية لمكافحة السـخرة (1930 ، 1957) (6) واتفاقية مكافحة الرق والاتفاقيات المكملة لـها(7) والاتفاقية الدولية لمكافحة الإتجار في الأشخاص واستغلال دعارة الغير(8) أو الاتفاقيات الدولية والتي كانت معدة للنفاذ مثل اتفاقية التفرقة العنصرية.

وقد عبرت ديباجة دستور 2014، والتي تشكل مع جميع نصوصه عملا بالمادة (227) نسيجاً مترابطاً، وكلاً لا يتجزأ، وتتكامل أحكامه في وحدة عضوية متماسكة – عن الاتجاهات والمرتكزات الرئيسية التي سار على هديها المشرع الدستوري في هذا المجال والتي جاءت مؤكدة للمنزلة الرفيعة لكافة مبادئ حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، حيث أوردت “نحن نؤمن بأن لكل مواطن الحق بالعيش على أرض هذا الوطن في أمن وأمان، وأن لكل مواطن حقاً في يومه وفى غده – نحن نؤمن بالديمقراطية طريقاً ومستقبلاً وأسلوب حياة، وبالتعددية السياسية، وبالتداول السلمي للسلطة،

ونؤكد على حق الشعب في صنع مستقبله، هو وحده مصدر السلطات، الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية حق لكل مواطن، ولنا ولأجيالنا القادمة السيادة في وطن سيد – نحن الآن نكتب دستوراً يجسد حلم الأجيال بمجتمع مزدهر متلاحم، ودولة عادلة تحقق طموحات اليوم والغد للفرد نحن الآن نكتب دستوراً يستكمل بناء دولة ديمقراطية حديثة، حكومتها مدنية نكتب دستوراً نغلق به الباب أمام أي فساد وأي استبداد، ونعالج فيه جراح الماضي مزمن الفلاح الفصيح القديم، وحتى ضحايا الإهمال وشهداء الثورة في زماننا، ونرفع الظلم عن شعبنا الذي عانى طويلاً – نكتب دستوراً يؤكد أن مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع،

 وأن المرجع كلمة الدستورية العليا في ذلك الشأن في تفسيرها هو ما تضمنه مجموع أحكامها نكتب دستوراً يفتح أمامنا طريق المستقبل، ويتسق مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي شاركنا في صياغته ووافقنا عليه – نكتب دستوراً يصون حرياتنا، ويحمى الوطن من كل ما يهدده أو يهدد وحدتنا الوطنية نكتب دستوراً يحقق المساواة بيننا في الحقوق والواجبات دون أي تمييز“.

من خلال هذه المرتكزات العملية والمنطلقات الفكرية والمقدمات المنطقية تبلورت الرؤية الوطنية المصرية لمبادئ حقوق الإنسان في الحرص على النص عليها بالدستور ومنحها ضمانات خاصة في حالة المساس بها تكفل معاقبة المسئولين عن ذلك، وكفالة الدولة لتعويض الضحية عنها، فضلاً عن توفير الملاذات الآمنة للمدافعين عن حقوق الإنسان في جميع أرجاء المعمورة بمنح من تعرض منهم للاضطهاد حق الالتجاء السياسي لمصر.

البند الثاني: المبادئ الواردة بالدستور الجديد بشأن حقوق الإنسان وحرياته الأساسية بالمقارنة مع الوثائق الدولية المنضمة لها مصر:

باستعراض مبادئ حقوق الإنسان وحرياته الأساسية التي تناولها الدستور المصري الجديد وبالترتيب الوارد في مواد الدستور باعتباره المصدر الرئيسي لهذه الدراسة – سنشير إلى المادة حسبما وردت بالنص الدستوري الجديد ثم إلى المواد المقابلة لها بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان ثم المواثيق الإقليمية الصادرة عن التجمعات الإقليمية التي تضم مصر ثم الاتفاقيات الدولية المعنية وهى بشكل أساسي كل من العهدين الأم والاتفاقيات المنبثقة عنهما أو السابقة عليها أو صدرت تعزيزاً لهما والتي عنيت بمبادئ حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، وكذا إلى الاتفاقيات الدولية والإقليمية ذات الصلة مع الإشارة في موضعها لما استحدثه الدستور الجديد على مواد دستور 1971 المعدل.

وهذه المقابلة مع النصوص الدولية والتي سيتم إيضاحها من خلال 40 مبدأ تم استخلاصها من الدستور، لا تعنى بطبيعة الحال التطابق الحرفي واللفظي بين نصوص الدستور المصري والنصوص الدولية محل المقابلة، وإنما تأتى بهدف إثبات أن النصوص الدولية السابقة على صدور الدستور وبصفة خاصة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان المشار إليه في ديباجة الدستور على نحو ما سلف بيانه كانت هي المصدر الرئيسي للنصوص الدستورية المصرية ذات الصلة والتي أفرزتها الصياغات الوطنية لتلك المبادئ في إطار الهوية المصرية والرؤية القومية لها.

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

Recent Posts

x

‎قد يُعجبك أيضاً

الرئيس السيسي يؤكد دعمه الكامل لحقوق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة

كتبت مني جودت أكد الرئيس عبدالفتاح السيسي دعمه الكامل لحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة، وفي مقدمتها حقه في ...