كتب د/ عادل عامر
إن كل فرد إنساني وُلِد عادة في أحضان أسرته، تلك التي تبذل قدراً من العناية والاهتمام، كي يستطيع وليدها أن يتجاوز مرحلة العجز والاعتماد على الآخرين. ويأتي اهتمامه الأسرة ورعايتها في ضوء ظروفها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وهنا تصبح وظيفة المدرسة استكمالاً واضحاً لتلك الجهود في الاتجاه الإيجابي العام، لكن من الوارد كذلك أن تنشئ بعض الأسر أفرادها على مسلك العنف على نحو غير مقصود غالباً، ولذلك أسبابه الموضوعية المكتسبة من وحي معاناة الأسرة في أغلبية مجتمعاتنا. فغياب العدالة الاجتماعية، واستئثار فئة من ذوي النفوذ في المجتمع بالمال والثروة والتسلط السياسي والاجتماعي، وضعف أو انعدام تكافؤ الفرص في المشاريع والحقوق الاجتماعية الطبيعية والمدنية المتمثلة في التعليم الجيد، والعمل المناسب، والعلاج الصحي السليم، والسكن الملائم، والزواج الشرعي. هذا مع انتشار ظواهر التمييز الطبقي الاجتماعي، وبروز العنصرية بألوانها المختلفة، وغلاء المهور، في مقابل ازدياد طابور العزاب، وغلاء الأسعار على نحو مضطرد، وانتشار صور التعصب بين الأفراد والجماعات والأحزاب والقبائل وبعضها، وما يستتبع ذلك من ظواهر الكراهية والثأر والحسد والانتقام، والخلافات الداخلية بين الآباء والأبناء والأزواج وزوجاتهم والأقارب وبعضهم.
أضف إلى ذلك مظاهر البطالة الصريحة، وتفشي ظاهرة التسول، في مقابل نهب المال العام والخاص أحيانا- من قِبَل بعض ذوي النفوذ السياسي والاجتماعي- مع قلة في الدخل، أو انعدامه أحيانا لدى فئة واسعة من أبناء المجتمع.
ومع تعقد الحياة الاجتماعية المعاصرة، وتزايد أعبائها، وارتفاع تكاليف المعيشة، وكثرة الالتزامات المادية تجاه جهات عدة حكومية (ضرائب – أجور مياه وكهرباء وهاتف – ورسوم أخرى لا نهاية لها) وغير حكومية (التزامات أسرية وعائلية وقرابية عدة) فإن تربة العنف تجد خصوبتها في نفسية ربّ الأسرة الذي يواجه وحده –غالباُ- كل هذه الألوان من المصاعب، وهو ما ينعكس على نفسيته أولاُ، ثم ينتقل إلى الزوجة وبقية أفراد الأسرة شيئاً فشيئاً. ذلك كله يمثل مُناخاً ملائماً لتجذّر أفكار العنف وتبنّي ثقافتها، في نفوس الكبار، ومن ثمّ ينتقل تلقائياً عبر أساليب التنشئة الاجتماعية إلى الناشئة الصغار .
وهنا يبرز تأثير البيئة الاجتماعية السلبي في أوضح صوره، حيث ينعكس على الأساليب التربوية القاسية، ويغدو العقاب البدني هو الأسلوب المفضّل في حالات كثيرة، لا فرق في ذلك بين الأولاد والبنات، فطبيعة الصنف الأول تفرض فيهم الاخشوشان والجَلَد الذي قد يخرج عن طوره الطبيعي إلى ضرب من الاسترقاق والإذلال، سرعان ما يتحول إلى مركّب نقص في شخصية الناشئ، فيزرع فيه الاعتقاد أن إثبات الفحولة لا يتحقق إلا بممارسته للدور ذاته الذي نُشِّئ عليه في طفولته، وهو ممارسة العنف بشقيه المادي والمعنوي تجاه أسرته ابتداءً، وتجاه من اؤتمن على تنشئتهم ورعايتهم في أي موقع بعد ذلك، وتلك هي نفسية العبيد وطبيعة القطيع التي وصف بها الجاحظ مجتمعه منذ القرن الثالث الهجري.
أما الفتاة أو البنت فالاتجاه القاسي في تنشئتها يجد له من المسوّغات أضعاف ما يجده مع الولد، حيث المحافظة المفرِطة أحياناً؛ تقتضي اتخاذ الأساليب الوقائية العنيفة المادية أو المعنوية، بما يضمن عدم وقوعها في المحظور الأخلاقي أو الاجتماعي، ومن ثم فإن قائمة الممنوعات لا تنتهي، وأساليب العنف في تزايد مستمر، تحت تأثير ثقافة العيب! التي قد تتلبس أحياناً بدثار الدين وتعاليمه وتوجيهاته.
وإذا كان ذلك كلّه انعكاساً تلقائياً لتأثير البيئة الاجتماعية فإن للبيئة الطبيعية تأثيرها الآخر في تعميق مسلك العنف،بفارق جوهري فحواه، أن لا علاقة للقصد والتوجيه في ذلك، إذ إن للتضاريس والمُناخ، والموقع الجغرافي، ونحو ذلك من العوامل البيئية أثرها المباشر وغير المباشر في تشكيل ثقافة النشء ومسلكياتهم من الجنسين. وهنا يقل التركيز على الفوارق العضوية بينهما، إذ الخشونة والمجالدة للبيئة القاسية بكل مفرداتها متطلبات ضرورية للتكيّف معها بصرف النظر- إلى حد ما- عن الطبيعة العضوية للولد أو البنت. وهذا هو المعنى العام الذي أشار إليه ابن خلدون في القرن الثامن الهجري في مقدّمته الشهيرة( مقدِّمة ابن خلدون)، حيث عنون في المقدِّمة الثالثة بقوله:”
في المعتدل من الأقاليم والمنحرف، وتأثير الهواء في ألوان البشر والكثير من أحوالهم”. وأوضح فيها مدى التأثير السلوكي المباشر لذلك . ولا غرابة أن يؤثر سلوك أبناء البيئة الجبلية الوعرة في سلوكهم خشونة وقسوة، لكثرة معاناتهم في الصعود والهبوط، وهو ما قد يستحيل إلى ضرب من العنف المسلكي في نمط الحياة، أكلا وشرباً وتخاطباً، ولبساً وغيره، مع تقادم السنين، وتطاول الآماد. هذا مع ما يُعلم من مظاهر إيجابية تسهم فيها أمثال هذه البيئات من مثل حدّة الذكاء، والتخلص من مظاهر الضعف والعجز والاتكالية. وذلك بخلاف البيئة السهلية أو الساحلية، حيث البساطة في المسلك الحياتي، أكلا وشرباً وتخاطباً ولبساً كذلك، نظراً لتعاملهم المباشر التلقائي مع الطبيعة الممتدة السهلة، حيث الجهد أقل وفق المنطق الطبيعي للبيئة، لكن مع ضعف وعجز وتكاسل وتواكل كسمت عام في مثل تلك البيئات، وفق المنطق ذاته.
وهنا يكمن الدور التصحيحي للمدرسة فيما يتصل بالبيئة الاجتماعية، في ضرورة تضمين مناهج التربية الإسلامية والتربية الاجتماعية- على وجه الخصوص- تلك المشكلات صراحة حيناً وضمناً حيناً آخر، بحسب حضورها وتفشيها في المجتمع المحلي أو العام، مع الاستناد إلى النصوص الصحيحة الصريحة ذات الصلة بها. ولا شك أن الإسلام جاء وبعض من تلك المشكلات قائم، وعمل على معالجته بالجملة. وقد أسهمت عصور الانحطاط الثقافي في إعادة بعضها جذعاً اليوم، كما تضخّمت بعض تلك المشكلات مع تقادم الزمن،، وتطاول الآماد. ولعل مناهج التربية الاجتماعية هي الأنسب في سرد قائمة من تلك المشكلات، مع تقديم معالجات مناسبة لها، عبر جميع المراحل والتخصصات، بما ينسجم وسن المتعلّم وواقعه البيئي .
أما بالنسبة للبيئة الطبيعية فإن بسط مناهج التربية الإسلامية – على وجه الخصوص- القيم الإسلامية المتمثلة في فضائل الاحتساب والابتلاء والصبر والتسامح والتواضع ولين الجانب، في مقابل التنفير القرآني والنبوي من مسلكيات الجزع والغلظة، والتهوّر والعنف، وكذا الاتكالية والعجز من شأنه أن يسهم إلى حدّ مقدّر في التخفيف من حدّة تلك التأثيرات السلبية.
تنسيق الجهود بين المدرسة ومؤسسات التنشئة الاجتماعية الأخرى
و تمثل هذه الوظيفة مرحلة أشبه بمرحلة الإشراف والمتابعة للتأكّد من مخرجات المدرسة، وفي هذه المرحلة تعمل المدرسة على متابعة أداء مؤسسات التنشئة الاجتماعية الأخرى ولا سيما الأسرة والمسجد والإعلام وسواها، من حيث مدى الانسجام والتناغم بينها، ولا شك أن التنسيق والتكامل بين المدرسة وبقية المؤسسات الأخرى يُعدّ صمام أمان نجاح العملية التربوية بصورة عامة، كما أن تحقق ذلك التنسيق والتكامل المأمولين رهن بمدى تفعيل ذلك الدور الإشرافي للمدرسة ومتابعته، حتى يؤتي ثماره. ومن المؤكّد أن دور المدرسة فيما يتصل بمشكلة العنف ليس بالأمر الهيّن، فالأسرة – كما سبق القول- قد تمارس من مسالك العنف تجاه أفرادها أو بعضهم-نظراً للأسباب المشار إلى بعضها فيما تقدّم-؛ ما يستدعي التواصل معها، للبحث عن أسباب ذلك المسلك في سلوك الناشئ لتغيير ذلك المسلك، أو تعديله على الأقل، عبر الرسائل المكتوبة والزيارات المتبادلة، مع ما يتطلبه ذلك من إيلاء جانب الزيارات، ما يستحق من حسن الترتيب شكلاً وموضوعاً، وانتظام انعقاد مجالس الآباء، ومجالس الأمهات، شريطة أن تُعدِّل المدرسة في بعض مجتمعاتنا من سياستها، التي أحالت الوظيفة الأساس لهذه المجالس إلى (الجباية) بالدرجة الأولى، ولعلّ ذلك أحد الأسباب الرئيسة لفشل انتظامها، فضلاً عن تحقيق أدوارها المأمولة في تلك المجتمعات!
وإذا سلطنا الضوء على علاقة مؤسسة المدرسة بمؤسسة المسجد؛ فإن المفترض أن تكون علاقة تنسيق وتكامل على نحو يميزها عن بقية مؤسسات التنشئة الأخرى، ذلك أن ظاهرة العنف التي باتت اليوم مؤرقة للمسجد قبل المدرسة! لا يمكن عزل بعض من يتولى شئون التوعية والخطابة والوعظ والتدريس المسجدي عن الإسهام أحياناً في صناعتها؛ حين يعتلي المنبر بعض من يؤمن بسلامة منهج العنف، وإن لم تكن تداعيات ذلك المنهج ومآلاته الخطرة حاضرة -بالضرورة- في ذهنه؛ وذلك حين ظل لسنوات -وربما عقود- يشحن أفئدة الجمهور ونفسياتهم – ولاسيما الناشئة منهم- بضرورة استعمال العنف في تغيير المنكرات الظاهرة والباطنة، و خاصة حين تُغلق في وجوه الدعاة والمصلحين السبل السلمية في التغيير. ومن هنا كانت عملية التواصل بين مؤسستي المدرسة والمسجد في غاية الأهمية والضرورة، بحيث لا تعمل أي منهما ، وكأنها في جزيرة نائية معزولة عن الأخرى، بل إن آليات التواصل خصبة ومثمرة، إذا أحسن إدارة ذلك، عن طريق دعوة خطباء المساجد- مثلاً- إلى المدرسة لأداء محاضرات، والإسهام في أنشطة، تُحدّدها المدرسة، بناء على إدراكها للموضوعات ذات الصلة بظاهرة العنف وملابساتها.
كما أن الخطباء والوعاظ والدعاة الواعين لابد أن يتفاعلوا مع المدرسة في تقويم مسارها فيما يتصل بهذه الظاهرة- على سبيل المثال- عن طريق تبصير القائمين عليها بالتوجيهات والأساليب الدعوية والتربوية الناجحة، وأن يعرضوا خبراتهم عليها، بحيث يغدون أشبه بأعضاء- غير رسميين- في الهيئة التدريسية للمدرسة، من حيث تقديم المشورة، والإسهام مع جهود الإدارة والموجّهين والمدرسين في حل مشكلات النشء -ومنها مشكلة العنف-.
أما فيما يتعلق بعلاقة المدرسة بمؤسسة الإعلام بقنواته الثلاث، فيبدو الأمر أعقد مما يتصور، تجاه ظاهرة العنف- على وجه التحديد-. ولابد من التصريح في هذا السياق أن
الوسيط الإعلامي الذي يفترض أن يكون الرديف والرافد القوي للمدرسة يعمل في الغالب،
–وخاصة عبر قنواته الرسمية- في الاتجاه المضاد، حيث يشايع التنشئة المنحرفة من خلال عرضه لأفلام العنف، حين يركز على الرجل الحديدي والخارق والآلي، والسوبرمان الذي لا يهزم.. إلخ وكذا بعض المسلسلات المتلفزة فإن بعضها لا يخلو من إيحاء وربما سفور بأن البطولة إنما هي لمن درج على العنف وسلك مسلك “القبضايات“!
أما ما يسمى بأفلام الكرتون التي تشغل الحيز الأكبر من فراغ الأطفال وحتى الناشئة الكبار فإن سوقها رائجة في الوسائل المرئية. وتهتم هذه الأفلام غالبا بحكايات المغامرات، وزرع الخرافة في نفوس الناشئة، إلى جانب غرس مسلك العنف كنمط سلوكي يرمز إلى معاني العظمة والتفوق والنجومية. وذلك كله يعني تنشئة مبكرة على تقبل هذه الظاهرة وسلوك مسلكها.