أن هذا القرار قانوني ومنصف تمت صياغته بدقة شديدة وبتوزان كبير، فإن “أمر المحكمة يُلزم إسرائيل من ناحية قانونية، باعتبارها دولة موقعة على اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها”.أن المحكمة لا تتمتع بصلاحيات تنفيذية، “إلا أن إجراء مثل الأمر بوقف الحرب فورا، من شأنه أن يُثبت أن إسرائيل ارتكبت إبادة جماعية، مما يتسبب في عزلتها ومقاطعتها وفرض عقوبات عليها أو ضد الشركات الإسرائيلية“.أن التحدي الحقيقي سيتمثل في مدى التزام إسرائيل بتنفيذ ما سيصدر بحقها من أحكام، خاصة في ظل الدعم الأمريكي غير المحدود لها، والذي قد يدفعها نحو تجاهل تلك الأحكام كما حدث من قبل.
الحقيقة التي يجب ألا تغيب عن أذهاننا، أن الإدارة الأمريكية لا تريد للكيان الصهيوني أن يسقط وينهار، أو يضعف وينكسر، ولا أن تتراجع قدرته ويفقد هيبته، ويخسر تفوقه ويتلاشى نفوذه، فهذا يعني انتصار المقاومة ومحورها، وعلو رايتها وسيادة فكرها، ونجاح سياستها وتوسع قوتها، وانتقال تجربتها وتكرار فعلتها، وتشجيع الآخرين مثلها وتضامنهم جميعاً معها، وهو ما لا تريده الإدارة الأمريكية أبداً، وما لا تريده أنظمةٌ أخرى كثيرة، دولية وإقليمية، ممن يستشعرون الخطر من انتصار المقاومة الفلسطينية، وثباتها أمام الغارات الإسرائيلية الأمريكية المهولة، فقد يهدد انتصارها أنظمتها الحاكمة، ويعرضها للفوضى أو الثورة عليها من جديد.
أن قرار محكمة العدل الدولية انتصار للقانون الدولي الإنساني، لأن مضمونه يضع إسرائيل في وضع الإدانة بارتكاب إبادة جماعية بحق الشعب الفلسطيني، خاصة أن المحكمة تضم ممثلين عن الأمم المتحدة التي ستكون ملزمة في وقف هذه الممارسات الوحشية التي يرتكبها قوات الاحتلال.“تنص المادة 41 من النظام الأساسي للمحكمة على أن للمحكمة الحق في اتخاذ ما تراه ضرورياً من تدابير مؤقتة لحماية الحقوق ومنع تفاقم الأضرار بشكل لا رجعة فيه، وهو ما ينطبق تمامًا على حالة غزة”.
أن هذه القرارات الصادرة تضع إسرائيل في مأزق دولي ويزيد من الضغوط الدولية التي تمارسها عليها من قبل القوى الحليفة لها، وهو ما سيغير المشهد كثيرا.
وأكدت المحكمة أن «15 من مجموع 17 قاضياً في هيئتها صوتوا لاتخاذ إسرائيل تدابير لمنع أي أفعال تتعلق بالإبادة الجماعية». كما صوّت 15 قاضياً مقابل اثنين، لصالح إلزام إسرائيل بمنع تدمير الأدلة المتعلقة بالإبادة الجماعية. وفي الحالتين صوّت القاضي الإسرائيلي باراك ضد الأكثرية. وصوّت 16 قاضياً مقابل صوت واحد أيدوا إلزام إسرائيل باتخاذ تدابير لمنع التحريض على الإبادة الجماعية، وقد أيد القاضي الإسرائيلي ذلك. ورحّبت حكومة جنوب أفريقيا «بالإجراءات المؤقتة التي فرضتها محكمة العدل الدولية على إسرائيل».
سوف يجتمع مجلس الأمن الدولي يوم الأربعاء للنظر في قرار محكمة العدل الدولية الذي دعا إسرائيل أمس (الجمعة) إلى منع أي عمل «إبادة جماعية» محتمل في قطاع غزة،إن “قرارات المحكمة نهائية وملزمة قانونا، لكنها لا تملك صلاحية لتنفيذها، ومع ذلك فإن التأثير سيكون كبيرا جدا، على المستوى الرمزي والقانوني، على مكانة إسرائيل في المعركة الدبلوماسية والاتصالات”.
ويخطئ كثيراً من يظن أن الإدارة الأمريكية تدعو إلى وقف الحرب كلياً، وإنهاء كافة العمليات الحربية ضد الفلسطينيين، والسماح لهم بالعودة إلى مناطقهم وبيوتهم، واستئناف حياتهم، وفتح طريقي الشمال والجنوب على طول القطاع، وعدم تهديد حركة المواطنين أو عرقلة انتقالهم، وإعادة إعمار ما دمرته الحرب وخربه العدوان، وعدم التدخل في شؤونهم الداخلية وحياتهم اليومية، والسماح لهم بمباشرة التفكير والحوار الوطني الداخلي المستقل في كيفية إدارة شؤونهم وتنظيم أمور حياتهم، واختيار شكل وهيئة حكومتهم.
أن اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية لعام 1948 تنص في المادة الأولى منها على أن الأطراف المتعاقدة تؤكد أن الإبادة جريمة بمقتضى القانون الدولي، وتتعهد بمنع ارتكابها والمعاقبة عليها، كما حددت المادة الثانية من الاتفاقية أفعال الإبادة الجماعية بأنها الأفعال المرتكبة بقصد إهلاك جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية، وهو ما تنطبق عليه بوضوح أفعال إسرائيل بحق الفلسطينيين.
وندعو للوقوف صفًا واحداً ضد محاولات إسرائيل تفادي العقاب، وإجبارها على احترام أحكام القانون الدولي والكف فورًا عن سياسة التطهير العرقي والإبادة بحق الشعب الفلسطيني، مناشداً المجتمع الدولي بأسره إلى ممارسة المزيد من الضغوط على إسرائيل للالتزام بقرارات الشرعية الدولية ووقف جرائمها المستمرة ضد شعبنا الفلسطيني.
مخطئ من يظن أن الإدارة الأمريكية تريد وقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، أو أن ضميرها قد استيقظ من سباته واستفاق من غفلته، ولم يعد منحازاً كما كان، أو متواطئاً كما عرفنا، أو شريكاً كما ظننا، وأنها أصبحت إنسانية عاقلة تشعر بالآخرين وتحترمهم، وتعترف بالأعراف والقوانين، وتلتزم العهود والمواثيق، وترفض الظلم وتنشد العدل، وتسعى جادةً ومخلصةً لإنهاء الحرب التي يشنها الكيان الصهيوني على الفلسطينيين في غزة والضفة والقدس، وتعتبرها حرباً ظالمةً تستهدف حياتهم، وتنتهك سيادتهم، وتنتقص حقوقهم، وتهدد مستقبلهم، وتحرمهم من الحياة الآمنة المستقرة.
الإدارة الأمريكية لا تفكر في الشعب الفلسطيني ولا تعبأ به، ولا يعنيها أبداً ما أصابه وما لحق به، وهي غير باكية أو آسفة على الضحايا الذين يسقطون، واللاجئين الذين امتلأت بهم الشوارع والمدارس ومقار الإيواء، ولا يحرك ضميرها أطفالهم الرضع والخدج والصغار، الذين يقتلون قصفاً أو تحت الأنقاض، أو جوعاً وعجزاً عن العلاج، وهي لا تأسف لجوعهم وعطشهم، ولا لتدمير بيوتهم ومؤسساتهم، ونسف مدارسهم وجامعاتهم، وأسواقهم ومساجدهم، وهي لا تشعر بتأنيب ضميرٍ لتدمير مستشفياتهم، وحرمانهم من العلاج والدواء، وفرض الحصار المشدد عليهم ليموتوا خنقاً وجوعاً وعطشاً ومرضاً وبرداً وقهراً.
والآن لدينا طريقة مؤثرة للغاية في ملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين وهي تصوير الحملة العسكرية الإسرائيلية الحالية ضد غزة وقت وقوعها منذ لحظة التحضير حتى الانسحاب الحتمي. نتحدث بالطبع عن “حملة” بينما ما يجري هو سياسة للتدمير المنظم لغزة جزئياً عن طريق الحملات مثل الحملة الحالية, وجزئياً عن طريق العدوان اليومي عن بعد.
ولا أعلم ما إذا كانت تلك العمليات اليومية يتم تصويرها بدقة أم لا. وثمة بالقطع ما يكفي من الصور الحية لتشكيل عمل توثيقي كامل للجرائم ضد الإنسانية التي تقوم بها إسرائيل في غزة. ويجب أن نعمل على أن يرى كل شخص في العالم عملاً كاملاً يوثق هذه الجرائم ويحمي وقائعها من الضياع.
والكفاءة في تقديم هذه الجرائم لا تقتصر على الأبعاد التوثيقية والفنية في التسجيل الفيلمي لجرائم إسرائيل, بل إنها تكمن في الحقيقة في الأبعاد الفكرية والسياسية. ويمكننا هنا أن نركز على هذه الأبعاد. فأولاً يجب أن يمثل توثيق الجرائم الإسرائيلية ضد الإنسانية أيضاً طريقة للرد على استفسارات الرأي العام العالمي بخصوص العمليات العسكرية الفلسطينية وعلى رأسها العمليات الاستشهادية. والرد البسيط هو أن الفلسطينيين يقومون بهذه العمليات رداً على سلسلة لا تنتهي من جرائم الحرب الإسرائيلية كما تظهر بصورة حية في الوثائق الفيلمية التي نتحدث عنها.
بل ويجب أن نقول للعالم الحقيقة, وهي أن العمليات العسكرية بما فيها الاستشهادية التي يقوم بها الفلسطينيون أقل بما لا يقاس حجماً ونوعاً من حالات معروفة للنضال ضد الاحتلال (لنذكر العالم بحرب “الماو ماو” في كينيا, مثلاً), بما فيها الحالات التي حظيت بدعم مدني وسياسي قوي في العالم الغربي (حجم الأعمال الانتحارية التي قام بها الفيتناميون). يجب أن يكون من الواضح أننا أمام حالة من الدفاع الشرعي والحتمي عن النفس, وليس فقط ممارسة لحق الكفاح المسلح ضد الاحتلال. وثانياً يجب أن يظهر واضحاً أن الجرائم الإسرائيلية ليست رداً على عمليات فلسطينية كما تحاول إسرائيل أن تفعل بل هي سياسة دائمة للعدوان هدفها هو تثبيت الاحتلال وابتلاع الأراضي المحتلة.
يجب أن يتم فضح الطبيعة العدوانية والاستعمارية لجرائم الحرب الإسرائيلية وتجريدها تماماً من الادعاءات الدفاعية. ويجب تصوير وتوثيق وعرض الطريقة التي يتم بها بناء المستوطنات الإسرائيلية على أشلاء الفلسطينيين وبعد سلاسل من جرائم العدوان والجرائم ضد الإنسانية. وثالثاً يجب أن تقدم هذه العروض الموثقة لجرائم الحرب الإسرائيلية قضية الصراع باعتبارها مسؤولية عالمية.
فالصراع ليس عربياً إسرائيلياً وليس فلسطينياً إسرائيلياً, بل هو صراع عالمي ضد السياسات الإسرائيلية التي تدمر السلام العالمي عن سبق إصرار وترصد. يجب أن يعرف العالم أن مصيره هو القضية, وأن إسرائيل وحلفاءها الأميركيين يدمرون العالم ويخونون مصالح شعوبهم ذاتها.