عادل عامر

حالة من الإحباط في إسرائيل من سياسات الرئيس الأميركي ‏دونالد ترامب

كتب د/  عادل عامر

في ظل ‏التطورات الإقليمية المتسارعة في الشرق الأوسط ‏وتباين ‏المواقف الأميركية – الإسرائيلية تجاه الحرب في غزة والملف النووي ‏‏الإيراني والاتفاق مع الحوثيين، تشهد العلاقات بين واشنطن وتل أبيب ‏توتّراً ملحوظاً بعد ‏عقود من التحالف الاستراتيجي وبدأت الخلافات بين ‏الطرفين تظهر إلى العلن.‏

وتسود حالة من الإحباط في إسرائيل من سياسات الرئيس الأميركي ‏دونالد ترامب غير المستقرة، وفقاَ للإعلام العبري. ترافق ذلك، مع ‏تصريح ترامب للصحافيين في البيت الأبيض أنه لا يخطط لزيارة ‏إسرائيل في ختام جولته بالمنطقة التي تشمل السعودية ‏وقطر والإمارات. ولم يؤكد البيت الأبيض قط أن إسرائيل ستكون جزءاً ‏من جولة ترامب القادمة.‏

ووسط مؤشرات على تصاعد التوتر بين واشنطن وتل أبيب، حذّر ‏مسؤول ‏أميركي رفيع ‏من أن الولايات المتحدة “لن تنتظر إسرائيل بعد ‏‏الآن”، مؤكداً أن ترامب ‏عازم على المضي قدماً في صفقة ‏استراتيجية ‏كبرى مع السعودية حتى بدون ‏مشاركة إسرائيلية.‏ كما كشفت وسائل إعلام ‏عبرية أن وزير الدفاع الأميركي بيت هيغسيث ألغى زيارة كانت مقررة ‏إلى إسرائيل الأسبوع المقبل.  ‏على الأقل عندما يناسبه ذلك، فقد أمضى بالفعل أشهره القليلة الأولى في إحداث تحول جذري في دور الولايات المتحدة في العالم، وقد أبرزت رحلته التي استمرت أربعة أيام إلى السعودية وقطر والإمارات هذا الأسبوع مدى إعادة تصوره للتحالفات التقليدية وتدخله في الصراعات العالمية. ن المؤكد أن الضوابط والتوازنات التي ينص عليها الدستور الأميركي تنطبق أيضا على ترامب، لكن من المحتمل أن يتجاهلها الجمهوري ويسبب الفوضى في واشنطن وعلى الساحة الدولية”.

ما من شك فى أن الربح المادى حاضرٌ فى ذهن ترامب، ومبعوثه للمنطقة، ستيف ويتكوف، وصهره كوشنر، بوصفهم «رجال أعمال»، يفكرون بمنطق الصفقات، لكن لا ينبغى تجاهل البعد الأيديولوجى فى المسألة. إذ ينتمى ترامب إلى اليمين الأمريكى المحافظ، وقاعدته الانتخابية، وجُل حاشيته فى الإدارة الأمريكية، من الإنجليكانيين، المتحمسين لإقامة إسرائيل على ما يُسمّى «كامل أرض إسرائيل». وإذا دققنا النظر فى الإجراءات العملية، التى اتخذها خلال فترة ولايته الأولى، لوجدنا بُعدا صهيونيا واضحا بها. فقد نقل السفارة الأمريكية فى إسرائيل، خلال ولايته الأولى، من تل أبيب إلى القدس، واعترف بالقدس، كلها، بما فيها القدس الشرقية، التى تعد أرضا محتلة، طبقا للقانون الدولى، عاصمة موحَّدة لإسرائيل، واعترف بضم إسرائيل لهضبة الجولان، وبارك تمدد الاستيطان الإسرائيلى فى الضفة الغربية المحتلة، وأطلق ما يُسمَّى بـ«صفقة القرن»، التى تقضى على فكرة الدولة الفلسطينية المتواصلة جغرافيا وذات السيادة، وسعى لدمج إسرائيل فى المنطقة عبر ما يُسمَّى بـ«اتفاقيات أبراهام»، وصرح بأن إسرائيل دولة صغيرة المساحة، بما يؤشر إلى أن توسيع رقعتها أمر غير مستبعد.

جرى كل هذا خلال فترة ولايته الأولى (2017ـ 2021م). وما إن تسلم مهام الرئاسة فى ولايته الثانية (2025م ـ 2029)، حتى أصدر بعض الأوامر التنفيذية، التى تتسق مع التوجهات الصهيونية. فقد ألغى عقوبات فرضتها إدارة بايدن على مستوطنين مارسوا أعمالا إرهابية ضد فلسطينيين فى الضفة الغربية المحتلة، وقال ردا على سؤال بشأن ضم إسرائيل للضفة الغربية: «الأمر سينجح»، وفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، ورئيسها، كريم خان، بسبب إصدارها أوامر اعتقال بحق رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع المقال، يوآف جالانت، وصنَّف جماعة «أنصار الله» اليمنية، التى ساندت غزة خلال الحرب، منظمة إرهابية، واتخذ تدابير إضافية لمكافحة ما يُسمَّى بمعاداة السامية ـ أى حظر أى نشاط احتجاجى ضد السياسة الإسرائيلية ـ وأمر بمعالجة ما سمَّاه «الأفعال الفاضحة» لجنوب إفريقيا، بسبب رفعها دعوى ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، وانسحب من المنظمة الدولية لحقوق الإنسان بسبب إصدارها تقارير تدين إسرائيل وتتهمها بارتكاب جرائم حرب، ورفع الحظر الذى فرضته إدارة بايدن على بعض أنواع الأسلحة إلى إسرائيل، وعين مسئولين أمريكيين ذوى ميول صهيونية واضحة، ضمن إدارته، من أبرزهم سفير أمريكا لدى إسرائيل، مايك هكابى، الذى قال إنه لا يوجد شىء اسمه الضفة الغربية، وإنما «يهودا والسامرة»، وإنه لا يوجد شعب اسمه الشعب الفلسطينى، وأعاد التذكير بأن إسرائيل دولة صغيرة، مثل القلم على طاولة ضخمة.

درج دونالد ترامب على أن يحقق مراده بطريقته. ولكن هذا قد يتغير هذا الأسبوع حينما يواجه الفوضى التي تسبب فيها في الشرق الأوسط. ففيما يبدأ رحلة على مدى ثلاثة أيام إلى المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر، يتعهد رئيس الولايات المتحدة بأمور عظام. وهو كدأبه واهم. فالواقع هو أن سياسات الولايات المتحدة المتهورة المتعارضة المهملة في المنطقة تحقق فشلا عاما. ولا غنى عن تصحيح مسار جذري.

وقادة الخليج لديهم من القوة ما يتيح تقويم مسار ترامب، لو أنهم قرروا استعمال هذه القوة. فهو يعتمد عليهم اعتمادا غير مسبوق ـ يفوق كثيرا اعتماده على أوروبا ـ بوصفهم وسطاء دبلومسيين، وشركاء أمنيين، وداعمين ماليين. والنهج الذي يتبعه في فلسطين فيوشك أن يبلغ بها نكبة ثانية هو مزيج من الانحياز والقسوة والجهل المحض. ودونما عون من العرب، قد تبقى الولايات المتحدة وإسرائيل في شرك مأزق سياسي مدمر لا نهاية له.

يعرف ترامب أنه ليس بوسعه تجاهل رؤى ولي العهد السعودي محمد بن سلمان ونظرائه في الخليج بشأن غزة وسوريا واليمن. وهم يعارضون محاربة إيران التي سبق أن هددت بها الولايات المتحدة وإسرائيل. وترامب بحاجة إليهم حلفاء له في نزاعه التجاري والجمركي مع الصين. وقد استضاف دبلوماسيون خليجيون محادثات سلام أوكرانية روسية دعمها ترامب شخصيا. وهو حريص أشد الحرص على إبقاء أسعار النفط على انخفاضها. فضلا عن أنه طامع في صفقات استثمارية ومبيعات سلاح في الشرق الأوسط بمليارات الدولارات.

غير أن للدعم الخليجي ثمنا لا بد من دفعه. وانظروا على سبيل المثال إلى أمل ترامب في توسيع ما يعرف بالاتفاقات الإبراهيمية لتطبيع العلاقات السعودية الإسرائيلية. فمهما يكن ما يقوله ترامب، يتعهد محمد بن سلمان بأن هذا لن يحدث بدون ضمان تقدُّم نحو دولة فلسطينية مستقلة، وذلك احتمال تمقته حكومة إسرائيل. وقد وصف محمد بن سلمان ما وقع من قتل بعد السابع من أكتوبر لأكثر من اثنين وخمسين ألف فلسطيني في غزة بـ«الإبادة». وفي الرياض، سوف يلاقي ترامب ضغطا كبيرا لإنهاء الحصار الإسرائيلي وإعادة فرض وقف إطلاق النار.

تزداد العلاقات الأمريكية الإسرائيلية توترا، في ظل رفض ترامب حتى الآن الدعوات لإضافة العاصمة الإسرائيلية إلى جدول زيارته. وبغض النظر عن أثر الرهائن الإسرائيليين الذين لا يزالون محتجزين لدى حماس، فإن بنيامين نتنياهو وحلفاءه في اليمين المتطرف يخططون لاحتلال عسكري طويل الأمد لغزة ولعمليات طرد جماعي للفلسطينيين. وبرغم دعم ترامب قبل شهرين وحديثه الأهوج عن إقامة «رفييرا في الشرق الأوسط»، يبدو أنه قد أدرك متأخرا أن السلام لا يتحقق على هذا النحو.

ولقد فوجئ نتنياهو ـ المستمر في تحريضه للولايات المتحدة على الانضمام إلى إسرائيل في عمل عسكري ضد إيران هذا العام ـ بإعلان ترامب المفاجئ الشهر الماضي عن محادثات مع طهران حول البرنامج النووي. كما جاء تراجع ترامب الفجائي بالقدر نفسه الأسبوع الماضي بإنهاء الضربات الجوية الأمريكية لليمن بمثابة ضربة مفاجئة لإسرائيل المستمرة في قصف الحوثيين. ويأتي هذان التحولان في السياسة، بجانب تغير نبرة ترامب فيما يتعلق بغزة، نتيجة ضغط خليجي فعال.

كما يريد القادة العرب بدعم تركي أن يحجِّم ترامب عمليات إسرائيل العسكرية في لبنان، وفي سوريا بصفة خاصة التي تتعرض لضرباتها المتكررة منذ سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر. فجميع أعضاء مجلس التعاون الخليجي الستة يؤيدون التعامل مع رئيس سوريا المؤقت أحمد الشرع وحكومته الائتلافية.

ويقول الشرع: إنه لا يريد القتال مع إسرائيل وينصب تركيزه على إعادة توحيد بلده المحطم. وقد أسفرت زيارته المهمة إلى المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر عن عروض سخية بمساعدات في إعادة الإعمار. غير أن ترامب، خلافا لبريطانيا والاتحاد الأوروبي، يرفض تخفيف عقوبات حقبة الأسد. وهذا خطأ جسيم يعرقل آمال السوريين في بداية جديدة، وقد يسمح لإيران وروسيا بالرجوع إليها. صحيح أن تحول سوريا إلى بلد ديمقراطي موال للغرب مغنم عظيم، لكنه يبدو في الوقت الراهن أشبه بفرصة مهدرة.

لو أن ترامب يريد أن يضمن دعم الخليج لأجندته الأوسع، فعليه أن يعطي في المقابل شيئا ذا قيمة. وقد يكون ذلك إحياء للاتفاق النووي الأمريكي الأوروبي لعام 2015 مع إيران في عام (الذي تراجع عنه بحماقة في عام 2018)، مع ضمان ألا يشن نتنياهو والمتشددون في طهران حربا أخرى. ويحتمل جدا أن يقدم ترامب على هذه الخطوة. فهو يزعم أنه «رئيس السلام». وهذه فرصته ليثبت هذا.

يمكن لاتباع أمريكا نهجا أكثر استنارة تجاه غزة وسوريا أن ينقذ أهدافا أخرى لترامب، من قبيل: تخفيض أسعار الطاقة وتعزيز الاستثمار الخليجي في الشركات والوظائف بالولايات المتحدة. ومواقف المملكة العربية السعودية محورية في كلا الأمرين. فالتخفيضات المستدامة في أسعار الوقود بالنسبة للمستهلك قد تهدئ ناخبي ترامب المحبطين وتساعد في ترويض التضخم في الولايات المتحدة. وقد طرح محمد بن سلمان في يناير صفقة استثمارية أمريكية لمدة أربع سنوات بقيمة ستمئة مليار دولار. وقد يليها المزيد.

فهل بوسع هذه الجزرة البدينة أن تكون السبب الرئيسي لاختيار ترامب للسعودية لتكون أول زيارة رسمية له بعد تنصيبه مثلما فعل في 2017؟ وثمة إغراء إضافي يتمثل في الاتفاقية الأمنية الأمريكية السعودية التي تشمل حزمة أسلحة أولية للرياض بقيمة مائة مليار دولار يجري العمل عليها. وسوف تنشأ فرص كثيرة لشركات ترامب العائلية أيضا لو كان لنا مؤشر في منتجع الجولف الفاخر في قطر. فرغبة ترامب العارمة في تحقيق الأرباح لا تتأثر أوهى تأثر باحتمال تضارب المصالح.

إن تنامي قوة ونفوذ دول الخليج حقيقة لا مهرب منها في الحياة الجيوسياسية والاقتصادية في القرن الحادي والعشرين. لكن لو كان ترامب رجلا أكثر شجاعة، وأكثر استقامة، لذهب إلى غزة في الأسبوع القادم ليرى بنفسه الخراب الذي تسبب فيه هو وحلفاؤه في اليمين المتطرف. ولكنه لن يفعل هذا. فمعروف للكافة أن ترامب ليس هذا الرجل النبيل. ومعروف أيضا أنه ليس برجل دولة.

 

 

Recent Posts

x

‎قد يُعجبك أيضاً

محافظ الجيزة يوجّه بسرعة صرف التعويضات لأسر ضحايا حادث سقوط مدخنة مصنع الطوب بالصف

كتب / سيد رمضان في إطار المتابعة الفورية للحادث المؤسف الناتج عن سقوط مدخنة بأحد ...