كتب /د. عادل عامر
يعتبر الفساد في العادة خللاً وانحرافاً، أو اهتراءً في حواشي نظام ما، أو علامة على فشل النظام في أسوأ الأحوال. وبالتالي، تكلّف وكالات المعونة والجهات الفاعلة المحلية في المجتمع المدني بمهمة وضع الحلول، حيث تهدف جهودها المضنية إلى تحقيق نجاحات صغيرة وملموسة. تركّز هذه التدخّلات على معالجة أوجه القصور التقنية أو بناء القدرات.
يعتبر الفساد، في طائفة من البلدان في أنحاء العالم كافة، هو النظام بحد ذاته. فقد تم تغيير أغراض الحكومات لخدمة هدف ليس له علاقة تذكر بالإدارة العامة: الثراء الشخصي للشبكات الحاكمة.
وهي تحقّق هذا الهدف بشكل فعّال تماماً. وقد يكون عجز القدرات وأوجه القصور الأخرى جزءاً من الطريقة التي يعمل بها النظام، بدل أن تكون مؤشّراً على انهياره.
فتعثر نظام الدولة في ضبط الإجراءات القانونية التي تتعلق ببنية واقتصاد البلد، إضافة إلى ترك ثغرات كبيرة تشجع المستعدين لممارسة الفساد إلى الدخول فيها، من قبيل مثلاً قلة أجور الموظفين وعدم المركزية في القرار وغيرها من الثغرات الأخرى، جميعها تساعد على انتشار الفساد وغرس جذوره في المجتمع وممارسة دوره بإنهاك مؤسسات المجتمع المختلفة وتعطيل إمكانياتها.اضافة إلى هذه الأسباب يمكن إدراج سبب آخر وجوهري في تركز الفساد وحتى في انتشاره، وهو ما لعبته الثورة الثقافية من خلال وسائلها الإتصالاتية السريعة والمتعددة، حيث أن هذه الثورة قد فتحت عقول الكثير من الأفراد من مواطني الدول الفقيرة على مستويات ووضعيات معيشة عالية، ومن هنا تبدأ المقارنة بين أوضاعهم وأوضاع الآخرين ومحاولة الوصول إليها برغم ضعف الإمكانيات، والتي قد تؤدي بالتالي إلى حالات فساد متعددة لغرض الوصول إلى مستويات الرفاهية عند الآخرين. وهذه مسألة خطيرة إذ أن جل سلبيات الثورة المعرفية المعلوماتية تتمثل بأنها خلقت حالة من الانبهار بأوضاع الآخرين ومحاولة الوصول إلى مستويات معيشتهم، وحتى وان كان ذلك بالطرق غير ألمشروعة وعليه فممارسة البعض للفساد ربما يكون بدافع ما جاءت به هذه الثورة ألمعرفية وذلك كفيل بالاستخدام غير المناسب لآليات هذه الثورة وكيفية التعامل معها، فإن ما سبق لا يعني أن جميع من تأثر بثورة المعلومات ربما قد انحرف إلى جادة الفساد لردم الهوة بين واقعهم والواقع الآخر عبر هذه ألآليات فذلك رهن بمستوى التعامل المنطقي معها، إضافة إلى ضرورة امتلاك الفرد المتعامل مع ثورة المعلومات لخاصية التحكم بها دون أن تتحكم هي به وتدفعه إلى الانحراف في الفساد.
لعل مؤثرات الفساد التي تنخر في جسم المجتمع عديدة وسنحددها حسب تأثيرها في جوانب المجتمع المختلفة.
فمساوئ الفساد لا تقتصر على جانب معين وإنما تكاد تطال جميع جوانب المجتمع الاجتماعية والاقتصادية والقانونية والسياسية . فعلى الجانب الاجتماعي يكاد الفساد أن يشوه البنى الاجتماعية طبقية والنسيج ألاجتماعي لغرض أن تصعد النخب الأقلية ويجري دفع الأكثرية إلى القاع ألاجتماعي كما أن مواصلة إنتاج الفساد فهو انعكاس لسوء توزيع الثروة توزيعاً عادلاً وبقاء تطبيق القرارات أسير البيروقراطية وبقاؤها في إدراج المكاتب.
إن اقتصاد الفساد يؤدي إلى توزيع الدخول بشكل غير متكافئ ومشروع، ويحدث تحولات سريعة ومفاجئة في التركيبة ألاجتماعية الأمر الذي يكرس التفاوت الاجتماعي واحتمالات زيادة التوتر وعدم الاستقرار السياسي. فتركز الموارد بأيدي ممارسي الفساد يؤدي إلى اختلال التوازن في المجتمع وصعود هذه الفئة مع انخفاض فئة الأكثرية الفقيرة إلى مستوى التدهور.
إن الفساد يزيد من الإفقار وتراجع العدالة الاجتماعية نتيجة تركز الثروات والسلطات وسوء توزيع الدخول والقروض والخدمات في المجتمع وانعدام ظاهرة التكافؤ الاجتماعي والاقتصادي وتدني المستوى المعيشي لطبقات كثيرة في المجتمع ، وما قد ينجم عن ذلك الإفقار من ملابسات كثيرة قد تؤدي بهذه الفئات المسحوقة إلى ارتكاب الرذائل وبالتالي تعطيل قوة فاعلة في المجتمع ممكن الاستفادة منها لو احسن التعامل معها.
ولعل اخطر ما ينتج عن داء الفساد هو ذلك الخلل الذي يصيب أخلاقيات العمل والقيم الاجتماعية؛ الأمر الذي يؤدي إلى شيوع حالة ذهنية تسبغ على الفرد ما يبرر الفساد والقيام به ، حيث يغير الفساد من سلوك الفرد الذي يمارسه، ويجره للتعامل مع الآخرين بدافع المادية والمصلحة الذاتية، دون مراعاةٍ لقيم المجتمع والتي تتطلب منه النظر للمصلحة العامة، إضافة إلى الإخلال بكل قواعد العمل وقيمه.
وإضافة إلى تأثير الفساد بقيم العمل، فقد يؤدي إلى إلغاء أو أضعاف مفعول الحوافز الموضوعية العادلة، حيث انه بطبيعته الديناميكية القاتلة يثبط عزيمة المنتجين والعاملين الجادين، ويجعل اغلب الإدارات متثاقلة واقل فعالية في منح الحوافز، نتيجة تغلغل الفساد فيها والذي يلغي معه الجدية في العمل. ان إضرار الفساد بتوزيع الدخول وتهشيم النسيج الاجتماعي وخلق طبقة فقيرة جداً وطبقة غنية بالانتفاع من موارد الفقراء بالتأكيد سيكون له دوره في زعزعة أسس بناءات المجتمع وتفكيكه.
أما مؤثرات الفساد في الجانب ألاقتصادي فيمكن القول أن اكثر ما يغرسه الفساد من سموم هو في الجانب ألاقتصادي لان المحصلة النهائية للفساد هي الحصول على الأرباح ألمادية وما يمكن أن يلعبه الاقتصاد وبشكلٍ أساس من دورٍ فعال في حياة المجتمع واستقراره.
فالفساد يؤثر على أداء الاقتصاد الوطني ويضعف النمو ألاقتصادي حيث يؤثر في استقرار البيئة الاستثمارية ويؤدي إلى زيادة تكلفة المشاريع ويهدد نقل التكنولوجيا ويضعف الأثر الإيجابي لحوافز الاستثمار بالنسبة للمشاريع المحلية والأجنبية، وخاصةً عندما تطلب الرشاوى من أصحاب المشاريع لتسهيل قبول مشاريعهم، أو يطلب الموظفون المرتشون حصة من العائد الاستثماري
إن الفساد العقدي أبرز مظاهر هذا المجال وفساد الاعتقاد هو أساس كل فساد، فإن سعي الإنسان تبعٌ لمعتقده؛ فإذا كان المعتقد فاسدًا كان السعي فاسدًا، وإذا كان المعتقد صحيحًا صالحًا صلح السعي، قال تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [البقرة: 11، 12).
– ضعف الإيمان والوازع الديني، فالنفس الخاوية من الإيمان، التي لا تخشى الله ولا رسوله، لا تبالى بارتكاب المحرمات، ولا تخشى العقاب الرباني على الفساد في الأرض، ولا تشعر بالضيق أو بالهم الذى يشعر به المؤمن في حال اقترافه الفساد، بل يزين له الشيطان سوء عمله، ويسمى الأسماء بغير مسمياتها ، وكذلك اتباع الهوى وانتشار الأخلاق الفاسدة، مثل الكذب، والنفاق، والرياء، والغلظة، وسوء الظن، وعدم الوفاء بالعهود، والعقود، وخيانة الأمانة والرشوة والمحسوبية والاحتيال.
– ترك خلق الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر الذي يعدَ صمام أمان للمجتمع من الفساد، فإذا غاب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فشا الفساد وانتشر في المجتمع.
– ضعف الدور التربوي للأسرة، فكثير من الأسر تركت الحبل على الغارب للأبناء والبنات فلم يتربوا على مراقبة لله تعالى، ولم يقوموا بدورهم ومسؤوليتهم.
– ضعف التوجيه والتربية وعدم ترشيد وسائل الإعلام، فكثير من القنوات ووسائل الإعلام لم تقم بدورها في مجالات التوجيه والإرشاد والتربية على الوجه المطلوب؛ فساهمت في هدم القيم والمبادئ .
ثانيًا: المجال الاقتصادي
– ويضم مجموعة من الأسباب والمظاهر مثل: البطالة، وعدم تنظيم سوق العمل وفرص التشغيل، وقلة الأمانة والإخلاص، وعدم إعطاء الأجير أجره بما يكافئ الجهد، والاختلاس والتزوير، وانتشار الكذب والخيانة بين الناس، والحرص على الدنيا.
– ارتفاع الأسعار وزيادة الضرائب ونقص فرص العمل وما يشكله ذلك من ضغط على الدخول والأجور وسلوك الأفراد في المجتمع.
– التفاوت الكبير في الأجور بين كبار الموظفين والعامة منهم في الدولة والمؤسسات المختلفة بشكل يثير الحنق والغضب لدى البسطاء.
– سياسة الخصخصة وتحويل القطاع العام إلى القطاع الخاص وما يرافق تلك العملية من مجاملات ومحاولات للحصول على أكبر قدر من المكاسب.
ثالثًا: المجال السياسي
– ضعف السلطتين القضائية والتشريعية وخضوعها للسلطة التنفيذية.
– ضعف الحريات، وتطبيق نظم وقوانين لا تتواءم وحاجات المجتمع وتشبث الطبقة التي تحكم بالسلطة وانتشار الفساد بشكل أفقي في المؤسسات العامة والخاصة.
– استخدام المال السياسي في العمليات الانتخابية.
– قوة ترابط وتكاتف الفاسدين والمفسدين ودقة تنظيمهم واتساع نطاقهم في المؤسسات المختلفة.
– ضعف المجتمع المدني وتهميش دور مؤسساته في التصدي ومواجهة الفساد.
رابعًا: المجال الاجتماعي
– انتشار المادية بين الناس وضعف السلوك الإيجابي والسَوي بين أفراد المجتمع، وتفكُّك عرى التكافل والتضامن الاجتماعي، وانتشار الأنانية والحقد والكراهية.
– شعور عامة الناس بأنهم غرباء أو مواطنون من الدرجة الثانية لأنهم لا يتمتعون بأبسط حقوقهم الآدمية في المأكل والمسكن والعلاج والخدمات.
– انتشار مظاهر الجهل ونقص المعرفة بالحقوق والواجبات والدور الوطني لكل مواطن .
وانتشار الواسطة والمحسوبية والمحاباة في الوظائف والمعاملات – تغليب علاقة النسب والقربى الواجبات والالتزامات الوطنية.
خامسًا: المجال الإداري والتشريعي
الفساد الإداري الذي يعبَر عنه بأنه “سلوك بيروقراطي يستهدف تحقيق منافع ذاتية بطرق غير شرعية والتي تنتشر بعض مظاهره ومنها:
– ضعف الرقابة ومتابعة الأداء الوظيفي، وفي كثير من الأحيان يطال الفساد أجهزة الرقابة أيضًا،
– غياب التشريعات والأنظمة التي تكافح الفساد، أو وجود تشريعات قاصرة في تعريفها لمفهوم الفساد ورؤيتها الجزئية لوسائل محاربته.
– شعور الناس بأن القانون لا يطبق إلا على البسطاء منهم، بينما كبار الفاسدين لا يقترب أحد منهم وهم فوق القانون.
إن الفساد عمومًا ظاهرة مركبة ومعقدة، تشمل الاختلالات التي تمس الجانب السياسي والاقتصادي والاجتماعي والقيمي والأخلاقي في المجتمع والذي يحتاج إلى تضافر الجهود لمعالجته والتخلص منه، ويبقى الفساد بشتى أطيافه أحد معاول الهدم التي تواجه عمليات التنمية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية؛
وعليه فإن أحسن وسيلة لمحاربة الفساد تتمثل في إعداد خطة استراتيجية وطنية شاملة بمشاركة واسعة من قطاعات المجتمع وأطيافه لإعادة العدل بمختلف صوره في المجتمع من القمة إلى القاعدة، ومن القاعدة إلى القمة، وإنهاء الظلم وأشكال الاستغلال في كل المجتمعات عن طريق ربط المسؤولية بالمحاسبة وتحديث التشريعات وتغليظ العقوبات لردع كل من تسول له نفسه ممارسة أي شكل أو مظهر من مظاهر الفساد في الدولة والمجتمع.