كتب / د.عادل عامر
يتفاوت الناس في قدراتهم العقلية والنفسية ، وفي حال ارتكابهم الجرائم الجنائية فإن تسويتهم في إيقاع العقوبة مع تفاوتهم في قدراتهم العقلية أو النفسية هو الظلم الذي نهت عنه الشرائع ، ولهذا يهدف البحث إلى توضيح حكم مؤاخذة المرضى النفسيين في حال ارتكابهم جرائم جنائية كالاعتداء على النفس أو على الأطراف سواء كان هذا الاعتداء على أنفسهم أو على الآخرين.
يتسم المجرم عادة بصفات نفسية معينة، منها ضعف الوازع الديني وانعدام القيم الأخلاقية، والاندفاع، والتهور، والمزاج الحاد، وعدم الإحساس بالغير والقسوة، لكن ماذا لو كان يعاني مرضاً نفسياً فعلياً يؤثر في عقله وإدراكه، ودرجة ارتباط ذلك بمسؤوليته الجنائية عن أفعاله الإجرامية؟ خصوصاً إذا كان يخفي حقيقة مرضه ويتواصل بشكل طبيعي مع المجتمع إلى أن يتورط في جريمة ما،
وهو الأمر الذي يثير فضول كثيرين، خصوصاً في ظل الصورة الذهنية المرتبطة بالأعمال الأدبية والفنية التي تتناول هذا الجانب. هناك العديد من الجرائم التي تحدث بشكل يومي ثم تصبح حديث الرأي العام من مواطنين وإعلام إلا أنها في نهاية المطاف يسدل الستار فيها
وتنتهى لأن المتهم فيها «مريض نفسى»، ويتم إيداعه مستشفى الأمراض العقلية، هذه الحوادث في حقيقة الأمر تحدث كثيرًا، ودائمًا ما يكون مصيرها إلى طي النسيان حيث تمثل مثل هذه الوقائع قنابل موقوتة وليس قنبلة واحدة في المجتمع يمكن أن تنفجر في أي وقت، فلا يجب عليك أن تندهش بعد الآن إذا كنت تسير في الشارع وفوجئت بشخصًا يضربك على رأسك، أو آخر يأتي بغتة ويفاجئك بضربة صوب صدرك، وهذا يحدث كثيرًا.
ولكن السؤال الذى يطرح نفسه هنا إذا كان هذا المجرم يعاني من مرض نفسي أصلاً فهل هذا المرض النفسي له تـأثير على عقله وإدراكه؟ وما مقدار هذا التأثير؟.
أن الجريمة ظاهرة تقع في المجتمعات الإنسانية، وهي حـصيلة عوامـل ومـؤثرات داخليـة وخارجية اجتماعية ونفسية واقتصادية وغيرها من هذه العوامـل والمـؤثرات المختلفـة، والمجرم يتصف بصفات نفسية عديدة ومتنوعة تبدو في ضعف الوازع الـديني، وانعـدام القيم الأخلاقية، والاندفاع والتهور، والمزاج الحاد والغرور، وضعف الإحساس بآلام الغير وانعدام الشفقة والرحمة في قلبه، وفقدان الثقة في نفسه.
لما كان القانون يشترط أن يكون الفاعل مدركاً لفعله مختاراً له ليكون محـلاً للمسئولية الجنائية على فعله، لذا يستوجب أن يكون المسئول عاقلاً بالغاً مختاراً فإن لم يكن كذلك فلا مسئولية عليه؛ لأن غير العاقل لا يكون مدركاً؛ لأنه لا يعي ما يفعله، وكذا من لم يبلغ سن التكليف لا يكون تام الاختيار، وعلى هذا لا مسئولية علـى طفـل أو مجنـون أو معتوه أو فاقد الإدراك بأي سبب من الأسباب.
واليوم وقد انتشرت الأمراض النفسية وتنوعت، نتيجة للظروف التـي نعيـشها والتـي لا تخفى على أحد، من أمنية واجتماعية وسياسية واقتصادية إلى غير ذلك من هذه الظروف، تُطرح مسألة مهمة تحتاج إلى بيان وتوضيح، تتمثل في مسئولية المريض النفـسي عـن أفعاله الجنائية، سواء كانت على النفس أو الأعضاء أو الممتلكات والأموال، والجواب عـن هذه المسألة يحتاج إلى معرفة مدى إدراك المريض النفسي لما يقوم به من أفعال وأقوال .
فهل المريض نفسياً يكون مدركاً لما يفعله مختاراً له فتلحقه المسئولية الجنائية عـن أفعالـه إذا ما اعتدى على غيره؟ أم أنه لا يدرك ما يفعل من المسئولية الجنائية؟ أم أن لديـه بعض الإدراك فيتحمل جزءاً من هذه المسئولية؟ ثم أي يعيب من هذه الأمراض النفـسية الـذي لا يؤثر على الإدراك فيتحمل كامل المسئولية؟ وأيها الذي يؤثر وما مقدار هذا التأثير؟
وما أثره على المسئولية؟ خاصة أن المريض نفسياً غالباً ما يخفي حقيقـة مرضـه، خـشيةَ أن يوصف بالجنون، فيبقى متصلاً بمجتمعه متفاعلاً معه ويكون قادراً على مواصـلة عملـه بخلاف المريض عقلياً الذي يعيش في عالم خاص به وتنقطع صلته بمجتمعـه ولا يتفاعـل معهم ولا يكون قادراً على ممارسة أي عمل لعدم إدراكه ووعيه بما يدور حوله.
فكثيراً من الناس يتساءل: ما مدى مسؤولية المريض النفسي عن أفعاله وما يصدر عنه من اعتداء على الآخرين بالقتل أو الضرب أو السرقة أو غيرها؟ وهل كل مريض نفسي يمكن أن يفلت من العقوبة بالكامل لمجرد إصابته بمرض نفسي؟
لا شك أن الحالة العقلية للمتهم تجعل المحكمة تعامله معاملة تختلف عن الشخص كامل الأدراك، وذلك بعد التثبت من وجود مرض عقلي، فالحالة العقلية المعتلة بلا شك من أحد موانع المسؤولية الجنائية إذ لا مسؤولية على من أرتكب الفعل المكون للجريمة من غير إدراك أو اختيار، وهناك نص قانوني آخر يخفف العقوبة على ناقص الإدراك أو الاختيار بسبب حالة مرضية، إذ بعد أن تتثبت المحكمة من وجود الحالة قد تحكم بعقوبة مخففة لنقص الإدراك، وربما تحكم بإيداع المتهم مأوى علاجياً.
خلاصة القول أن المرض العقلي يصلح أن يكون دفاعاً لصالح المتهم قد يؤدي لبراءته مما اقترف من جرم، ويتوقف الحكم بمدي المسئولية الجنائية بالنسبة للمصابين بالأمراض النفسية والعقلية علي مدي ما تحدثه هذه الأمراض من تأثير علي الوعي أو الإدراك أو الإرادة، يصاحب اضطراب الوعي اضطرابات في الانفعالات وخلل في السلوك، كما يصاحبها هلاوس سمعيه وبصرية وينتج عن هذه الاضطرابات حالة هياج مصحوبة عادة بمخاوف وتصرفات غير سوية وغير صحيحة مبنية علي هذه المخاوف والهلاوس، ونجد اضطراب الوعي في حالات الاختلاط العقلي وحالات الاضطرابات العضوية، كما أنها تحدث نتيجة الأرق الشديد أو نقص التغذية أو اضطراب الوظائف الميثابولية التي قد تصاحب حالات الاضطراب العقلية الأخرى .
ويقصد بالإدراك هنا الدراية أو الفطنة، بمعني فهم ما يدور حوله من أحداث وربط الأمور والأحوال التي تجري في محيطه ربطاً صحيحاً واستخلاص النتائج الصحيحة، و من الواضح أن اضطراب الوعي لابد أن يصاحبه اضطراب الإدراك – كما انه قد يحدث نتيجة لكثير من أعراض الأمراض العقلية مثل التفكير الاجتراري و الاستجابة للهلاوس والضلالات وكذلك حالات التخلف العقلي و العته بأنواعه، أما الإرادة فهي تعني الإرادة الحرة النابعة من وعي و إدراك صحيح ، أو الإرادة التي لا تسيطر عليها هلاوس أو ضلالات مرضية تجعل المريض في الحقيقة مسلوب الإرادة .
ولقد شاع استخدام وصف «المرض النفسي» وإطلاقه على كل شخص يظهر عليه علامات عدم الإدراك، والعجز عن التكيف مع المجتمع والقدرة على التفاهم والتواصل مع الناس. بل يطلق الناس غالباً على من يتصف بهذه الصفات وصف «الجنون» ولا يفرق الناس غالباً بين الأمراض النفسية أو الأمراض العقلية، وهذا ما جعل كثيرين يتحرجون من مراجعة عيادات الطب النفسي، والاستعانة بالأطباء النفسيين، وذلك خشية أن يوصفوا بـ«الجنون».
بينما الصحيح أن هناك فرقاً كبيراً بين الأمراض العقلية، والأمراض النفسية؛ فالمرض النفسي ينشأ عن عوامل نفسية، بينما المرض العقلي ينشأ عن اختلال عضوي أو وظيفي في الجهاز العصبي، والمرض العقلي هو: «اختلال العقل» وهو ما يسمى بـ «الجنون»، أما المرض النفسي فهو: اضطراب في السلوك، تزيد وتنقص درجته من حالة لأخرى، ولا يفقد العقل بالكامل، بل يبقى الإنسان أحياناً قادراً على العمل والتواصل مع الناس، ولكن مع وجود بعض الاضطرابات والانحراف في سلوكه.
ففي الأمراض العقلية التي توصف بـ «الجنون» لا شك أن المصاب بها لا يؤاخذ بتصرفاته، لأن من شروط المسؤولية الجنائية في القانون أن يرتكب الإنسان الفعل المحرم، أو الجريمة، وهو مدرك لحقيقة فعله، ومختار غير مكره، أما في الأمراض النفسية فإنها تختلف درجاتها وشدة حالاتها، من شخص لآخر، ويترتب على هذا الاختلاف اختلاف المسؤولية عن الأفعال التي يرتكبها المريض النفسي.
فإن كان المرض النفسي الذي أصيب به الإنسان يفقده عقله وإدراكه، فإنه تنتفي عنه المسؤولية الجنائية، ولا يمكن معاقبته عن الجرائم التي يرتكبها، أما إن كان مرضه النفسي لم يؤثر على عقله، ولا إدراكه وقدرته الحكم على الأشياء، فإنه يؤاخذ بأفعاله، ولا يؤثر مرضه على مسؤوليته الجنائية، إلا أن المرض قد يكون سبباً لتخفيف العقوبة عنه.
ولذا يجب التفرقة بين الأمراض العقلية «الجنون بالمعنى الواسع» التي تعدم المسؤولية الجنائية و بين الأمراض النفسية التي لا تعدم كلية الإدراك و حرية الاختيار، مثل الأشخاص المصابين بالشخصية السيكوباتية والمصابين بأمراض الهستيريا والنورستانيا وللقاضي الاستعانة بطبيب مختص لإرشاده عن نوع مرض الفاعل وعما إذا كان مرضا عقليا أم نفسيا، وإذا ثبت أن المتهم مصاب بمرض نفسي لا يمكن إعفاءه من المسؤولية الجنائية.
ومع ذلك يمكن للقاضي استعمالا لسلطته التقديرية أن يعتبر المرض النفسي المصاب به المتهم من الظروف المخففة للعقوبة و من أهم الأمراض العقلية التي تعدم المسؤولية الجزائية نذكر:- العته و البله الشديد: يولد المريض مصابا به فيتوقف نحوه العقلي عند سن الطفولة، فيظل فاقدا الإدراك و التمييز- جنون الشيخوخة: مرض يصيب بعض الأشخاص في سن الشيخوخة نتيجة تصلب الشرايين، وضعف خلايا المخ، ويبدوا فيه المريض غير مهتم بأي شيء حوله- الفصام العقلي: تسيطر علي المريض أفكار معينة تجعله يعاني من الشعور بالاضطهاد و عدم تناسق أفكاره، وهو مرض نفسي في الأصل يصل إلى مرتبة الأمراض العقلية في مراحله المتقدمة،
وقد يسمع المريض أصواتا ويرى أشباحا لا وجود لها، فتصبح الملكات الذهنية للمريض معطلة لا يستطيع استعمالها لتأثير الضغوط النفسية و الأفكار الوهمية عليه.- الصرع: يأتي المرض نوبات يفقد فيها وعيه وذاكرته، ولا يسيطر على الحركات الإرادية لأعضائه، و يرافق ذلك حركات تشنجية. أو أن تأتي النوبة الصرعية دون حركات تشنجية ويقتصر تأثيرها على النشاط الذهني، فتعطله وتفقده الاتصال بالمحيط الذي يكون فيه مما يدفع المريض إلى ارتكاب الجريمة دون شعور .
خلاصة القول هناك بعض الأمور التي قد تطرأ على الإنسان، فتزيل أهليته أو تُنقصها أو تغير بعـض الأحكام لمن عرضت له، وهي ما تُسمى بعوارض الأهليـة، كـالجنون والعتـه والمـرض والنسيان والصغر وغيرها، ويختلف أثر هذه العوارض على أهلية الأداء للإنسان بـاختلاف نوع العارض، فمنها ما يزيلها كالجنون، ومنها ما ينقصها كالعته، ومنهـا لا يـؤثر عليهـا بالإزالة ولا بالنقصان وإنما يغير بعض الأحكام كالسفه.
فالمرض النفسي حالة غير طبيعية تصيب الإنسان فتؤثر على عقله وبدنه، وتسبب لـه اضطراباً في تفكيره وإدراكه، فتزيل أهليته أو تنقصها أو تغير بعض الأحكام الشرعية لمـن عرضت له، ويختلف المرض النفسي عن المرض العقلي، فالمرض النفسي ينشأ من عوامـل نفـسية، بينما المرض العقلي فينشأ من اختلالات عضوية أو وظيفية في الجهاز العصبي، كما يقتصر أثر المرض النفسي على اختلال جزئي في بعض عناصر شخصية المـريض.
أما أثر المرض العقلي فيبدو في اختلال جميع أو معظم عناصر شخصية المريض، كمـا أن المريض النفسي لا يفقد الإدراك والإرادة ويبقى متصلاً بمجتمعه، قادراً على مواصلة عملـه في أغلب الأحوال، بينما المريض العقلي يفقد الإدراك والإرادة، وتنقطع صـلته بمجتمعـه ويعيش في عالم خاص به حيث أن صلاحية الإنسان لتحمل نتائج ما يصدر عنـه مـن أقـوال أو أفعـال رتـب الـشرع عليها عقوبة ما دامت قد توفرت فيه شروط التكليف، وهو ما يسمى بالمسئولية الجنائية.
وعليه يختلف تأثير المرض النفسي على المسئولية الجنائية باختلاف درجة تأثير المرض علـى عقل الإنسان وإدراكه، وتبعاً لذلك تختلف الأحكام الجنائية للمريض النفسي حـسب حـالات تأثير المرض النفسي على المسئولية الجنائية، فمنها ما يرفع المسئولية الجنائية بالكلية، ومنها ما يرفعها بصورة جزئية، ومنها ليس لها أي تأثير على المسئولية الجنائية، وبناءً على ذلك فإن تحديد التشخيص الصحيح لحالة الشخص الذي يرتكب الجريمة وهو يعاني أياً من هذه الأمراض، لا بد أن يكون على يد أطباء مختصين موثوقين، يستعين بهم القضاء.
ففي ظل تكاثر جرائم المصابين بالأمراض العقلية أو النفسية، تصبح المسؤولية أكبر على الجهات المختصة في اتخاذ التدابير الواقية، التي تكفل حماية الناس من اعتداء هؤلاء المرضى على أرواح الناس وأموالهم، خصوصاً اعتداء المريض النفسي على أفراد أسرته، أو على الضعفاء مثل الأطفال والنساء، فكم هي الحالات التي كان بالإمكان تلافي ما وقع فيها من جرائم بشعة، لو أن الجهات المختصة قامت بواجبها تجاه التحفظ على المرضى النفسيين، وعلاج من يمكن علاجه منهم، وعدم تركهم يعيثون في الناس وأرواحهم فساداً؟
وكم من حالة تمر على مراكز الشرطة، أو المحاكم لأشخاص قاموا بالاعتداء بالضرب على أسرهم وزوجاتهم وأطفالهم، بطريقة يظهر معها أن المعتدي شخص غير سوي، ومع ذلك يكتفى بأخذ التعهد عليه وإطلاقه حتى تقع الفأس في الرأس، ونصحو على خبر ارتكابه لجريمة من أبشع الجرائم في حق أقرب الناس إليه! من المسؤول عن هؤلاء الضحايا؟ يجب محاسبة كل مقصر، كما يجب تدارك المستقبل وعدم التأخر في اتخاذ التدابير الواقية من هذه الجرائم.
في القانون الجنائي المصري
فقد جرى في أحكام محكمة النقض المصرية : ما كان الحكم حصل دفع الطاعن الأول بانتفاء مسئوليته لإصابته بمرض نفسي وقت اقتراف الجريمة ورد عليه في قوله : ” وحيث إنه عن الدفع بعدم مسئولية المتهم الأول عن أفعاله لإصابته بحالة ذهول متقطع واكتئاب وجداني ….. فمردود بأن من المقرر أن تقدير حالة المتهم العقلية هي من الأمور التي تستقل بها هذه المحكمة وهي غير مُلزمة بالالتجاء إلى أهل الخبرة في هذا الشأن ما دامت قد وضحت لديها الدعوى ، وكان المرض العقلي الذي يوصف بأنه جنون أو عاهة عقلية وتنعدم به المسئولية قانوناً على مقتضى المادة ٦٢ من قانون العقوبات هو المرض الذي من شأنه أن يُعدم الشعور والإدراك أما سائر الأحوال النفسية التي تفقد الشخص شعوره وإدراكه لا تعد سبباً لانعدام المسئولية ” رد الحكم على طلب الدفاع بعرض المتهم على مستشفى الأمراض النفسية والعصبية بقوله : ” إن اعتراف المتهم يتفق وماديات الدعوى، وأن مسلكه قبل وأثناء المحاكمة يدل على سلامة قواه العقلية ، فضلاً على أنه لم يقدم شهادة طبية دالة على المرض “. لما كان ذلك ، وكان قد صدر القانون رقم ٧١ لسنة ٢٠٠٩ بإصدار قانون رعاية المريض النفسي وتعديل بعض أحكام قانوني العقوبات والإجراءات الجنائية ونُشر في الجريدة الرسمية بتاريخ ١٤ من مايو سنة ٢٠٠٩ ، والذي استبدل بنص المادة ٦٢ من قانون العقوبات النص الآتي : ” لا يُسأل جنائياً الشخص الذي يُعاني وقت ارتكاب الجريمة من اضطراب نفسي أو عقلي أفقده الإدراك أو الاختيار أو الذي يعاني من غيبوبة ناشئة عن عقاقير مخدرة أياً كان نوعها إذا أخذها قهراً عنه أو على غير علم منه ، ويظل مسئولاً جنائياً الشخص الذي يُعاني وقت ارتكاب الجريمة من اضطراب نفسي أو عقلي أدى إلى إنقاص إدراكه أو اختياره ، وتأخذ المحكمة في اعتبارها هذا الظرف عند تحديد مدة العقوبة ” ، ومن ثم فإن القانون رقم ٧١ لسنة ٢٠٠٩ سالف البيان والذي أضاف إلى موانع المسئولية ” الاضطراب النفسي للمتهم ” إذا أفقده الاختيار أو الإدراك – هو الساري وقت اقتراف المتهم للواقعة . لما كان ذلك ، فإن دفاع الطاعن بأنه كان في حالة اضطراب نفسي وقت الجريمة يكون دفاعاً جوهرياً في خصوص هذه الدعوى ، إذا صح امتنع عقابه عن الفعل المسند إليه ، وإذ أسست المحكمة قضاءها برفض هذا الدفع على سريان المادة ٦٢ عقوبات – غير المنطبقة على الواقعة – فإن حكمها يكون قد تعيب بالخطأ في تطبيق القانون والقصور في البيان .
في القانون الجنائي الإماراتي
أن المرض النفسي في حد ذاته ليس من موانع المسؤولية الجنائية بشكل مطلق، وإنما تحدد المسؤولية بقدر ما يترتب على الجاني من عجز على إدراك طبيعة الفعل ونتائجه، ففي حال فقد الإنسان الإدراك والقدرة على الاختيار، فإنه لا يُعد مسؤولاً عن أفعاله، كون العقل مناطاً بالتكليف.
ودرجة تأثير الأمراض النفسية في عقل الإنسان تتفاوت من مرض إلى آخر، لذا من الطبيعي أن تتفاوت معها المسؤولية الجنائية، فمنها الذي يؤثر في العقل جزئياً بإضعافه أو إصابته باضطراب، مع بقاء مساحة للتمييز، وفي هذه الحالة يكون الشخص مسؤولاً بقدر هذه المساحة.
وحدّدت المادة (60) من قانون العقوبات الاتحادي رقم (3) لسنة 1987 المسؤولية الجنائية المترتبة على المرض النفسي بالنص على أنه «لا يُسأل جنائياً من كان وقت ارتكاب الجريمة فاقداً للإدراك أو الإرادة لجنون أو عاهة في العقل.. أو لأي سبب آخر يقرّر العلم أنه يفقد الإدراك والإرادة، أما إذا ترتب على الجنون أو العاهة العقلية أو غيرها نقص أو ضعف في الإدراك والإرادة وقت ارتكاب الجريمة عُد ذلك عذراً مخففاً».
ورجوعاً إلى نص المادة سالفة الذكر نجد أنها قسمت الأمراض النفسية من حيث درجة تأثيرها في عقل الإنسان إلى نوعين.
الأول، تلك الأمراض التي تؤثر في عقل الفرد فيفقد درايته بما حوله وتضعف كفاءته وإنتاجيته وقدرته في الحكم على الأمور، ومثل هذه الأمراض لها تأثير في المسؤولية الجنائية.
أمّا النوع الثاني، فيتمثل في الأمراض التي لا تؤثر في عقل الفرد ولا يفقد معها قدرته في الحكم على الأمور، ومثل هذه الأمراض ليس لها تأثير في المسؤولية الجنائية، ولكن تكون سبباً في تخفيف العقوبة حسب تقدير القاضي.
وتجدر الإشارة، أخيراً، إلى أن القول الفصل في ما إذا كان المتهم وقت ارتكابه الجريمة المنسوبة إليه يعاني مرضاً نفسياً يسلبه الإرادة والتمييز كلياً أو جزئياً، هو التقارير الطبية الصادرة عن أهل الاختصاص بتكليف صادر من النيابة العامة أو المحكمة المختصة.