كتب د/ عادل عامر
تأتي أسباب ارتفاع نسب الجريمة إلى انتشار الأسلحة النارية والإفراج عن عدد كبير من العناصر الإجرامية، وشيوع ظاهرة العنف الاجتماعي والتأثيرات الناجمة عن الأعمال الفنية من الأفلام والمسلسلات وانعكاسها على المواطنين بتقليدهم لها، والظروف الاقتصادية والمتغيرات المحيطة بالدولة، موضحاً أن “وراء زيادة معدل الجرائم ظهور أنماط جديدة لها وتكوين تشكيلات عصابية من الشباب العاطلين، وسهولة تنفيذ بعضهم جرائم السرقات بسبب قصور المواطنين في تأمين ممتلكاتهم وغياب الوعي الاجتماعي والثقافي“.القتل ممارسةٌ شاملةٌ لا تستلزم دوافع دقيقة مذمومة دائمًا؛ بل أحيانًا يندرج فعل القتل تحت سلوكيات الحقّ والنُبلِ والمجد، وأحيانًا الكرَم
إن جرائم القتل العائلي وحدها باتت تشكل نسبة الربع إلى الثلث من إجمالي جرائم القتل”، في وقت يرجح المركز القومي للبحوث الجنائية والاجتماعية (حكومي)، “أن نسبة 92 في المئة من هذه الجرائم ترتكب بدافع العرض والشرف، فضلاً عن العوامل الاقتصادية التي أصبحت من بين أبرز أسباب تضاعف معدلات القتل العائلي”.
وزادت معدلات الجريمة في مصر بشكل لافت خلال السنوات الأخيرة، إذ باتت مصر تحتل المركز الرابع عربياً والـ 16 من القارة الأفريقية والـ 24 عالمياً في جرائم القتل، بحسب تصنيف “ناميبو” لقياس معدلات الجرائم بين الدول. وفي إحصاء سابق لوزارة الداخلية المصرية عام 2019،
فإن عدد جرائم القتل العمد عام 2010 سجل 774 جريمة، لكنها تضاعفت ثلاث مرات عام 2012 لتسجل 2144 حالة، وارتفعت عام 2014 لتصل إلى 2890، ثم بدأت بالانخفاض في الأعوام الثالثة المتتالية لتقل عن حاجز الـ 2000، إذ بلغت عام 2015 نحو 1711، و1532 عام 2016، أما في عام 2017 فكان عددها 1360.
أما عن ذبحِ الإنسان للإنسان، فإنّك تجدُه في النصوص القرآنية المذكورة توًّا، في موضعين، موضعٌ إجراميٌ منفّر مكروهٌ مذمومٌ، ارتبط بفعل فرعون وجنوده. وموضعٌ اجتهاديٌ من إبراهيم –عليه السلام- اختار الله تعالي له بديلاً عنه (وفدَيناه بذِبحٍ عظيم)
. في جميع الأحوال، أنت واصلٌ إلى هذه الحقيقة = ذبحُ الإنسان للإنسان ليس هو اختيارُ الله الأمثل. إنما هو اختيارٌ بشريٌّ خاضعٌ لسُلطان الوحش الكامن في كلّ إنسان. لماذا يذبحُ الإنسانُ جَنيسَه الإنسانَ إذًا؟! البشر لا يحتاجون إلى أيديولوجية شريرة أو سيئة لدفعهم لارتكاب سلوك غير إنساني؛ لأن هذه المشاعر تسيطر علينا بسهولة وبدون أي أيديولوجية
والحقيقة أن شخصياتٍ كـ”أبو مصعب الزرقاوي”، وهو أحد الآباء المؤسّسين لممارسات الذبح الصادِمة، وهو -كما ذكر شفيق شقير في “الجذور الأيديولوجية لتنظيم الدولة الإسلامية”- الذي عزَّز من “سُنَّة” القتل ذبحًا للمخطوفين والأسرى وبثها للإعلام بقصد الترويع، بل ربما قد يكون أول من جعلها طريقة متبعة في التيارات الجهادية. و”أبو عبد الله المهاجر” أستاذ الزرقاوي وصاحب كتاب “مسائل في فقه الجهاد” الذي قرّر فيه أنّ “ما في القتل بقطع الرأس من الغلظة والشدة أمرٌ مقصود، بل محبوب لله ورسوله”!، وأبو بكر ناجي” صاحب كتاب “إدارة التوحّش” الذي قرّر فيه: “نحن الآن في أوضاع شبيهة بأوضاع حوادث الردة أو بداية الجهاد فنحتاج إلى الإثخان ونحتاج لأعمال مثلما تم تجاه بني قريظة” وضرورة “اتباع سياسة الشدة بحيث إذا لم يتم تنفيذ المطالب يتم تصفية الرهائن بصورة مروعة تقذفُ الرعب”..
ثلاثتهم لم ينَالوا حقّهم من البحث في سيكولوجيتهم وبنائهم النفسي، وهو ما سنحاول بحثه في مقالات قادمة ما أمكن. إذ الأمر لا يتوقّف عند بحث المستوى والنتاج العِلمي، ولا ينبغي له أن يتوقف عند هذا الحدّ.
هذا على الرغم من أنّ دَحض ما تستندُ إليهم تنظيراتهم وممارساتهم في القتل والذبح، قريبٌ جدًا لكلّ مُريدٍ للصواب. فعِند الفقهاء والمتشرّعة، غايةُ ما يقال في (قتل) أسرى الكُفار –باختزالٍ شديد-، بعد تفصيلٍ موسّع منهم في مَن يصحّ أسره، وضوابط دقيقة في أسباب استحقاق القتل التي لا تتوقّف على كون الأسير أسيرًا وفقط…
أنّ قتلَ الأسرى يكون من قبيل المُعامَلة بالمثل، ولا يُقدِم عليه المسلمون إلا إذا مارسه العدوّ في أسرى المسلمين، وتكون صورة قتل الأسير ضرب العنق (وهي أسهل وأسرع وفقًا لما كان متاحًا حينها من أنواع السلاح)، وليس ذبحه أو حزّ عنقه بإمعان؛ فالصورتان مختلفتان اختلافا دقيقًا لدخول الذبح في باب التمثيل بالجُثث.
على مستوى توجّه التنظيم إجمالاً، يدخُل سلوكُ الذّبح في سياق الحرب النفسية/الدعائية، بهدفٍ رئيسٍ يتمثّل في تحسين جهود التجنيد وحشدِ النفسيات الثأرية وبناء قوة عسكرية أكبر للتنظيم لمحاربة أعدائه القريبين في العراق ومن بعدها سوريا، وبهدفٍ ثانوي يتمثّل في تحدّي وترهيب العدو البعيد في الغرب.
لكنّ استخدام مقاربة نفسية لتفسير سلوك الذبح الذي يمارسه أفراد التنظيم، ليس بهذا الوضوح والبساطة، بل ينطوي على تعقيدٍ وتركيب.
أنتَ تمثّل بالنسبة له نموذجًا من الضعف والانبطاح، نموذجًا لما كان عليه سابقًا وتخلّص منه، وبالتالي فهو يريد أن يتخلّص منكَ كما لو كُنتَ مجسّدًا لهذا الضعف والانبطاح. هنا تقدّم نظرية (الإحباط– العدوان) تفسيرًا مباشرًا للأمر.أنت عائقٌ أمامَ هدفه المقدّس، وهو قد تجاوز ما يكفي من العوائق التي كان يستسلم لها قَبلاً ويرفض تكرارها، ولن يطيق صبرًا على وجودك بهذه الصفة؛ سيفعل بكَ ما يفعلُه الإنسان عادةً مع الفراخ المستسلمة والنّعاج المنبطحة للذبح.. سيذبحُك لأن قانون “طبيعة التوحّش” يقتضي هذا = القويّ يأكُل الضعيف أو ينهش سِرّ حياته.
يدخُل سلوكُ الذّبح في سياق الحرب النفسية/الدعائية، بهدفٍ رئيسٍ يتمثّل في تحسين جهود التجنيد وحشدِ النفسيات الثأرية وبناء قوة عسكرية أكبر أمّا عن عملية الذبح نفسَها، فيمكنك أن تتأمّل فعلَ أحدِهم وقد جثم فوق ظهر مذبوحه وشدّ رأسه، ليحُزّ الجلد فالحنجرة فاللحم فالعظم، ذهابًا وإيابًا من الأذن إلى الأذن، وجسدُه متصلّبٌ في لحظةِ شبقٍ شديدة الخصوصية، يُنصِت بدقّة لحنجرة مذبوحه وهي تشخب (صوت خروج الدم من الجريح)، بل ربّما يتلمّس صوتَ حزّ حدّ سلاحِه الحاد على اللحم والعظم.. هناك ذلك الإحساس الفريد بالإصرار والقوة؛ أنّ ما بدأه توًا لابدّ أن ينهيه، أنّه ينتزعُ روحًا بطريقةٍ إمعانية، أنه بالفعل يُنجز جُزءًا ممّا لا يستطيعه كاملاً إلا إله. يرى أنّه يتقرّب إلى الإله بتقليد عملِ الإله، ولو جزئيًا، وعلى قدر إمكاناته البشرية.
وثمّة سؤالٌ: لماذا يستمر الذي ذبحَ إنسانًا مرّةً، ويُصِرّ، على ممارسة الأمر ذاته مرةً من بعد مرّة؟! الواضح أنه إلى جانب إحساسِ الذابح بدرجاتٍ من القوّة والسّطوةِ والإشباع والأداء الرّسالي، ثمّة تفسير يستحقّ الاعتناء: أنّ الفاعلَ في الفترة البينية بين ذبحةٍ وأخرى، يغزوه شعورٌ مُبهَمٌ بعقاب الذات،
ولكن بطريقة مركّبة، ففي اللحظة التي يعاقب فيها نفسَه على فِعلته السابقة، لا يلبث العقاب أن يتحوّل -تحت ضغط اللحظة- إلى “انشقاقية تحويلية” تجعله يوجّه فعل العقاب إلى الضحية التالية فيذبحه، وهكذا دواليك. والأكثر إثارة للدهشة حين يتسابق ويتنازع مع الرفاق كي يكون الذبح هذه المرة من نصيبه، كلاعبي كرة يتنازعون ركلة الجزاء!
هنا، تجدُ الرّفاق يقفون حوله يشجعّونه -وهو يذبح مذبوحه- بالتكبير والتهليل، تمامًا كما كان يقف الجنود يشجعون زميلَهم بالتصفيق والتصفير وهو يغتصبُ أسيرةً في ذلك المعسكر الشهير.
يحكي بعضُ الشهود عن زملاء لهم، تونسيين تحديدًا، كانوا يجمعون رؤوس مَن يذبحونهم ويأخذونها معهم كي يتسلّوا في المساء باللعب بها أو بالتقاط الصور “السيلفي” معها. هذه الحكاية يمكننا أن نستشهد بها في استخدام مقاربة نفسية/اجتماعية لتفسير فِعل الذّبح؛
إذ المُلاحَظ في كثيرٍ من منتسبي داعش بدرجة واضحة، أنّه كلّما زادَت درجة القمعُ الذي تعرّض له المجتمع، زادت وحشية هذا المُنضوي الهارب من هذا القمع. وهو ما ينطبق على حالة مثل تونس. وتناظرها ليبيا، غير أنّ الليبيين يتهكّمون على ممارسات داعش المُفرِطة بأنها “لعب عيال” مقارنةً بما يفعله الليبيون أنفسهم داخل ليبيا، كما نقل لي صديقٌ كان هناك.
الوحوش نفسها لن ترتكب مثل هذه البشاعة، لكن توحّش الإنسان لا حدود له ولأن الحرب النفسية تعتمد في أحد أهم ركائزها على “التكرار مع التنوع”، ولأن “طبيعة التوحّش” الإنساني إذا سيطَرت لا تتوقّف عند نقطةٍ بعينِها، ولأن الخبرات القادمة مع الأجناس المختلفة لم تُطبّق كلّها بعدُ… فمِن المتوقّع بقوّة أن نرى أفكارًا وأساليبَ إبداعية جديدة يمارسُها تنظيمُ “الدولة الإسلامية” في القتل.
—