كتب د/ عادل عامر
الملخص: –
العروبة ليست فقط وطنا، فهي تمثل أيضًا الهوية الثقافية واللغوية لشعوب عربية تاريخية منتشرة في جميع أنحاء العالم العربي. وتتضمن هذه الهوية القيم والتقاليد والتراث والتعاليم والأدب والفن العربي، والتي تجمع بين عدة عوامل من بينها الدين الإسلامي الذي يشكل جزءاً هاماً من هذه الهوية العربية. لذلك، لا يمكن تقليل العروبة إلى مجرد وطن فحسب، بل هي مفهوم أشمل يمثل ارتباطاً ثقافياً وتاريخياً بشعوب وبلدان العالم العربي.
العروبة المنشودة ليست دعوةً لتكرار التجارب السياسية والحزبية التي جرت بأسماء قومية في مراحل مختلفة من القرن العشرين، بل عودة إلى أصالة هذه الأمَّة ودورها الحضاري والثقافي الرافض للتعصّب وللعنصرية. ومن دون عروبةٍ جامعة لن تكون هناك أوطان عربية واحدة.
إنّ «الكلّ العربي» مكوَّن أصلاً من «أجزاء» مترابطة ومتكاملة فالعروبة لا تلغي، ولا تتناقض، مع الانتماءات العائلية أو القبلية أو الوطنية أو الأصول الأثنية، بل تحدّدها في إطار علاقة الجزء بالكل.
إنّ القومية تعبير يرتبط بمسألة الهويّة لجماعات وأوطان وأمم، وتحمل سمات ومضامين ثقافية تميّز جماعة أو أمّة عن أخرى، ولكنّها (أي القومية) لا تعني نهجاً سياسياً أو نظاماً للحكم أو مضموناً عَقَديّاً/أيديولوجياً ولذلك من الخطأ مثلاً الحديث عن «فكر قومي» مقابل «فكر ديني»، بل يمكن القول «فكر علماني» مقابل «فكر ديني»، تماماً كالمقابلة بين «فكر محافظ» و«فكر ليبرالي»، و«فكر اشتراكي» مقابل «فكر رأسمالي».. وكلّها عناوين لمسائل ترتبط بنمط فكري وسياسي تصلح الدعوة إليه في أيِّ بلدٍ أو أمّة،
في حين يجب أن يختصّ تعبير «الفكر القومي» فقط بمسألة الهويّة كإطار أو كوعاء ثقافي ولذلك أيضاً، يكون تعبير «العروبة» هو الأدقّ والأشمل حينما يتمّ الحديث عن القومية العربية حتّى لا تختلط مسألة الهويّة الثقافية المشتركة بين العرب بقضايا المناهج والأيديولوجيات المتنوّعة داخل الفكر العربي ووسط المفكّرين العرب.
إنّ الشخص العربي هو الإنسان المنتمي للثقافة العربية أو لأصول ثقافية عربية فالهويّة العربية لا ترتبط بعرق أو دين، ولا بموقف سياسي أو منظور أيديولوجي.
والعروبة تعبير عن الانتماء إلى أمّة لها خصائص تختلف عن القوميات والأمم الأخرى حتّى في دائرة العالم الإسلامي فالانتماء إلى العروبة يعني الانتماء إلى أمّة واحدة قد تعبّر مستقبلاً عن نفسها بشكل من أشكال التكامل أو الاتّحاد بين بلدانها. إنّ «الهويّة الثقافية العربية»، لغةً وثقافةً، سبقت وجود الدعوة الإسلامية قبل 15 قرناً من الزمن، ولكنّها كانت محصورة في القبائل العربية في شبه الجزيرة العربية، وفي الأصول العرقية للقبائل، وفي مواقع جغرافية محدّدة.. بينما العروبة – هويةَ انتماء حضاري ثقافي – بدأت مع ظهور الإسلام ومع ارتباط اللغة العربية بالقرآن الكريم وبنشر الدعوة بوساطة روّاد عرب
فهكذا أصبحت «العروبة الحضارية» هي الثقافة العربية ذات المضمون الحضاري الذي أخرج الثقافة العربية من الدائرتين: العرقية والجغرافية إلى الأفق الحضاري الواسع الذي اشترك في صيانته ونشره مسيحيون عرب ومسلمون من غير العرب،
وبذلك خرجت الهويّة الثقافية العربية من دائرة العنصر القبلي أو الاثني، ومن محدودية البقعة الجغرافية (شبه الجزيرة العربية) إلى دائرة تتّسع في تعريفها لـ«العربي»، لتشمل كل من يندمج في الثقافة العربية بغضّ النظر عن أصوله الأثنية.
المقدمة:
العروبة المنشودة ليست دعوة لتكرار التجارب السياسية والحزبية التي جرت بأسماء قومية في مراحل مختلفة من القرن العشرين، بل عودة إلى أصالة هذه الأمة ودورها الحضاري والثقافي الرافض للتعصب وللعنصرية. ومن دون عروبة جامعة لن تكون هناك أوطان عربية واحدة. تزعم هذه الدراسة أن البحث والتنقيب والتحليل في حال الوطن العربي تستوجب اعتماد علم المستقبل، أي منهجه،
لأنه الأقدر على استيعاب هذه الحالة، ومن ثم الغوص في إشكالاتها تمهيدًا لتقديم المشاهد البديلة. أي الحالة الوطنية والقومية التي يجب أن يكون عليها الوطن العربي. ويعتبر رسم المشاهد التي تشكل المؤشرات المستخلصة من الواقع المعاش قاعدة لها من أهم آليات علم المستقبل في رصد هذا الواقع،
ومن ثم استشرافه، والتنبؤ بأحداثه ووقائعه، أي بما سيكون عليه خلال فترة محددة من سياقه التاريخي. وهي الفترة التي ستشكل مجال أو ميدان الاستشراف.
بناء على ما تقدم، فثمة فرضية تقول أن المشهد الحالي أو الراهن للوطن العربي ينذر بالخطر. والمقصود بالمشهد الحالة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والعسكرية، والثقافية التي تعيشها الأقطار العربية منفردة ومجتمعة في الوقت الراهن. وتزعم الفرضية أنها تملك أسبابها ومبرراتها عندما تعلن أن الوطن العربي في خطر. وتباشر بإشهار أسبابها اعتمادًا على السؤال ـ التساؤل، هل هناك مؤشرات تشخص الحالة العربية الراهنة
وتقرر أن الخطر يتهددها من كل جانب؟ وإذ يتم السؤال – التساؤل على هذا النحو، أي على ضوء المؤشرات فإن قصده أن يبعد عن الفرضية منطق الرغبة، وأن يجعل من المؤشرات دلائل خاضعة للاستنطاق لمعرفة مستويات الدقة والصدق فيها، اعتمادًا على جبلتها المركبة من الأحداث والوقائع التي تجري على الساحتين الوطنية والقومية، وما فيها من مخاطر وتحديات.
إذًا ثمة مشهد عربي قائم يعيد علم المستقبل تشكيلها اعتمادًا على مؤشر أساس يفرض نفسه بوصفه القاسم المشترك لكلى المؤشرات الباقية بحكم دلالاته المنطقية الموجودة في جوانيّته.
ما هو مفهوم العروبة؟
القومية العربية أو العروبة في مفهومها المعاصر هي الإيمان بأن الشعب العربي شعب واحد تجمعه اللغة والثقافة والتاريخ والجغرافيا والمصالح وبأن دولة عربية واحدة ستقوم لتجمع العرب ضمن حدودها من المحيط إلى الخليج.
متى بدأت العروبة؟
سنة 1963 مصر و العراق و سوريا وقعوا على اتفاقيه لتأسيس “جمهوريه عربيه متحدة” جديده في شكل اتحاد فيدرالي بيدي كل إقليم صلاحيات التشريع , لكن المشروع ماكملش. في نفس السياق كان فيه محاوله لضم اليمن للجمهورية العربية المتحدة الجديدة في نفس الاطار الكونفدرالي بس باسم جديد هو الدول العربية المتحدة
القومية العربية أو العروبة في مفهومها المعاصر هي الإيمان بأن الشعب العربي شعب واحد تجمعه اللغة والثقافة والتاريخ والجغرافيا والمصالح وبأن دولة عربية واحدة ستقوم لتجمع العرب ضمن حدودها من المحيط إلى الخليج.
إيمان العرب بأنهم أمة قديم وربما من الصعب معرفة بداياته، فكان يظهر افتخار العرب بجنسهم في الشعر العربي، وفي عهد الإسلام تجسدت القومية بشعور العرب بأنهم أمة متميزة ضمن الإسلام، وزاد هذا الشعور خلال العهد الأموي. ودخل في هذا التعريف معظم من هم عرب الآن ولم يأتوا من أصول عربية من ناحية الدم أو العرق.
ويؤكّد هذا الأمر تاريخ العرب القديم والحديث من ناحية احتساب الأقليات الدينية في المنطقة العربية نفسها جزءاً من الحضارة الإسلامية، ومن ناحية تفاعل الأقليات الأثنية (الإسلامية والمسيحية) مع الثقافة العربية باحتسابها ثقافة حاضنة لتعدّدية الأديان والأعراق
. فعسى أن نشهد قريباً ولادة حراك عربي جادّ يحرص على الهويّة الثقافيّة العربيّة ومضمونها الحضاري، وينطلق من أرضيّة عربيّة ووطنيّة مشتركة تعتمد مفهوم المواطنة لا الانتماء الطّائفي أو المذهبي أو الأصول الإثنية، وتستهدف الوصول – بأساليب ديمقراطيّة لا عنفيّة – إلى «اتّحاد عربي ديمقراطي» حرّ من التدخّل الأجنبي، وتتساوى فيه حقوق الأوطان وواجباتها كما تتساوى في كلٍّ منها حقوق كل المواطنين.
في العصر الحديث، جسدت هذه الفكرة بأيديولوجيات مثل الحركة الناصرية والتيار البعثي الذين كانا الأكثر شيوعاً في الوطن العربي خصوصاً في فترة أواسط القرن العشرين حتى نهاية السبعينات، والتي تميزت بقيام الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا وشهدت محاولات وحدوية أخرى كثيرة.
اكتسبت القومية العربية مدًا جديدًا شعبيًا نتيجة ثورات الربيع العربي وظهور تيار شعبي عربي يدعو لوحدة عربية يقودها الشعب، وليس الأنظمة المتسلطة التي ركبت موجة القومية دون أن تنجز شيئاً يذكر في هذا الاتجاه
. يؤمن القوميون العرب بالعروبة كعقيدة ناتجة عن تراث مشترك من اللغة والثقافة والتاريخ إضافة إلى مبدأ حرية الأديان. الوحدة العربية هدف القوميين العرب.
وعلية ري الباحث أهمية تناول هذا الموضوع بوصفة إحدى الأزمات الاجتماعية والثقافية والقانونية والدينية الثقافية التي أظهرت إن العودة للعروبة هوية جامعة حاجة قصوى الآن لحماية المجتمعات في الداخل، ولتحصينها من هيمنة الخارج، ولبناء أسس سليمة لتعاون عربي مشترك وفعال في المستقبل..
أذ تم تسليط الضوء على أن كل دولة عربية – تكوّنت على أساس خصوصيات ثقافية، بينما الثقافة العربية لا يُعبّر عنها بعدُ في دولةٍ واحدة. بينما الثقافة العربية الأم نفسها لا تتمتّع بحالة «الدولة الواحدة». فالموجود الآن من الدول العربية هو أوطان لا تقوم على أساس ثقافاتٍ خاصة بها، بل هي محدّدةٌ جغرافياً وسياسياً بفعل ترتيبات وظروف مطلع القرن العشرين التي أوجدت الحالة الراهنة من الدول العربية.
وعلية بنيت نتائج الدراسة: إنّ الانتماء إلى العروبة يعني الانتماء إلى أمّة واحدة من حيث تكامل عناصر الأمَّة فيها: لغة وثقافة واحدة لشعوب ذات تاريخ مشترك على أرض مشتركة ولها مصائر ومصالح مشتركة قد تعبّر مستقبلاً عن نفسها بشكلٍ من أشكال التكامل أو الاتّحاد بين بلدانها. إنّ الهويّة العربية هي دائرة تتّسع، في تعريفها لـ«العربي»، لتشمل كل من يندمج في الثقافة العربية بغضّ النظر عن أصوله العرقية أو الأثنية. إنّ العروبة هي تعبير عن الانتماء إلى أمّة لها خصائص تختلف عن القوميات والأمم الأخرى حتّى في دائرة العالم الإسلامي.
وأظهرت الدراسة أن : الدعوة إلى العروبة هي دعوة فكرية وثقافية، والانتماء إلى العروبة يعني التسليم بالانتماء إلى أمَّة واحدة يمكن أن تُعبّر عن نفسها بشكلٍ من أشكال التكامل والاتحاد بين أبنائها.. وهي رغم توفّر عناصر تكوين الأمَّة فيها، فإنّها لم تصل بعد إلى حالة الانتماء إلى كيان سياسي موحّد، ولم يحصل ذلك تاريخياً من قبل على أساس مرجعية العروبة فقط. وذلك يعني أنّ «العروبة» في الجانب السياسي ما زالت «مشروعاً قيْدَ التنفيذ»، وإن كانت «العروبة» قائمةً ومحققّة في الجانب الثقافي على مرّ قرونٍ من الزمن. وهذا الأمر هو الذي سبّب الخلط الخاطئ بين العروبة كهويّة ثقافية مشتركة بين كلّ العرب، وبين الممارسات السياسية باسم «العروبة» أو «القومية».
وخلصت الدراسة: هناك حاجةٌ ماسّة الآن لإعادة الاعتبار من جديد لمفهوم العروبة على المستوى العربي الشامل، فهذا الأمر هو حجر الزاوية في بناء المستقبل العربي الأفضل. طبعًا، يبقى المدخل الصحيح لأي نهضة عربية هو في تحقيق أوضاع دستورية سليمة في البلاد العربية، عِلمًا بأنّ المشكلة الآن ليست فقط في غياب الحياة الديمقراطية السليمة، بل أيضًا في ضعف الهُويّة العربية المشتركة وطغيان الهُويات الطائفية والمذهبية والإثنية على معظم المجتمعات العربية.
وفي محصّلة هذا الواقع تكمن مخاطر الانقسامات داخل الأوطان العربية، وبذا تصبح العروبة لا مجرّد حلٍّ فقط لأزمة العلاقات بين البلدان العربية، بل أيضًا سياجًا ثقافيًّا واجتماعيًّا لحماية الوحدات الوطنية في كلّ بلدٍ عربي. إنّ معظم شعوب العالم اليوم تكوّنت دوله على أساس خصوصيات ثقافـية، بينما الثقافة العربية لم يُعبّر عنها بعدُ فـي دولةٍ واحدة. ونجد الآن داخل الجسم العربي من يُطالب بدول لثقافات إثنية (كحالة الأكراد والأمازيغيين، وكما جرى فـي جنوب السودان)
بينما الثقافة العربية الأم نفسها لا تتمتّع بحالة «الدولة الواحدة». فالموجود الآن من الدول العربية هو أوطان لا تقوم على أساس ثقافاتٍ خاصة بها، بل هي محدّدةٌ جغرافـياً وسياسياً بفعل ترتيبات وظروف مطلع القرن العشرين التي أوجدت الحالة الراهنة من الدول العربية، إضافةً إلى إيجاد دولة إسرائيل فـي قلب المنطقة العربية إذ حينما تضعف الهُويّة العربية فإنّ بدائلها ليست هُويّات وطنية موحّدة للشعوب، بل انقسامات حادّة تفرّخ حروبًا أهلية من شأنها أن تأكل الأخضر واليابس معًا.
إنّ العودة للعروبة كهويّة جامعة هي حاجةٌ قصوى الآن لحماية المجتمعات في الداخل، ولتحصينها من هيمنة الخارج، ولبناء أسس سليمة لتعاونٍ عربيٍّ مشترك وفعّال في المستقبل. وهي رغم توفّر عناصر تكوين الأمَّة فـيها، فإنّها لم تصل بعد إلى حالة الانتماء إلى كيان سياسي موحّد، ولم يحصل ذلك تاريخياً من قبل على أساس مرجعية العروبة فقط. وذلك يعني أنّ «العروبة» فـي الجانب السياسي ما زالت «مشروعاً قيْدَ التنفـيذ»، وإن كانت «العروبة» قائمةً ومحققّة فـي الجانب الثقافـي على مرّ قرونٍ من الزمن.
وهذا الأمر هو الذي سبّب الخلط الخاطئ بين العروبة كهويّة ثقافـية مشتركة بين كلّ العرب، وبين الممارسات السياسية باسم «العروبة» أو «القومية»، والتي كان بعضها سلبياً، فجرى رفض ما هو «ثقافـي مشترك» بسبب الخلافات السياسية أو لبعض الممارسات السيّئة باسم القومية العربية. وللوصول إلى مشروع الكيان الواحد أو الاتحادي تتوجّب حتماً الأساليب المرحلية المتعدّدة، شرط قيامها جميعاً على أساس ديمقراطي فـي الداخل وسلمي حواري فـي العلاقة مع الطرف العربي الآخر. عن العلاقة بين الهُويّة العربية والإسلام
مشكلة الدراسة: إنّ مشكلة «الهويّة العربية» نابعة من هذا الانفصام الحاصل بين وجود ثقافة عربية واحدة وعدم وجود دولة عربية واحدة. فشعوب العالم يشترك البعض منها فـي حضارات، لكن هناك خصوصيات ثقافـية لكل شعب، حتّى لو اشترك مع شعوبٍ أخرى فـي حضارة واحدة، كما هو حال الحضارة الغربية الآن التي تنضوي تحت مظلّتها ثقافاتٌ متعدّدة. فتلك طبيعة قانون التطوّر الاجتماعي الإنساني الذي انتقل بالنّاس من مراحل الأسر والعشائر والقبائل إلى مرحلة الأوطان والشعوب والأمم.
أهداف الدراسة: – تهدف إلى إنّ الدعوة إلى العروبة هي دعوة فكرية وثقافـية، والانتماء إلى العروبة يعني التسليم بالانتماء إلى أمَّة واحدة يمكن أن تُعبّر عن نفسها بشكلٍ من أشكال التكامل والاتحاد بين أبنائها.. إنَّ الأمَّة العربية هي الأمَّة الوحيدة وسط كلِّ العالم الإسلامي التي لا يصحّ التناقض فـيها بين الإسلام وبين الانتماء للعروبة. إنّ ضعف الهويّة الوطنية المشتركة هو تعبيرٌ أيضاً عن فهمٍ خاطئ للانتماءات الأخرى فالأمَّة العربية هي الأمَّة الوحيدة التي نسج خيوطها الإسلام ولم تكن موجودة قبله، وهي تتميّز بهذا عن بقية الأمم الأخرى ولو كانت أمماً مسلمة. وبينما الإسلام هو دين وحضارة للعرب المسلمين، فإنّه حضارة وتاريخ وتراث للعرب المسيحيين. فلو أمكن للهويّة القومية بشكلٍ عام أن تتناقض مع الإسلام فـي أيَّة أمَّة فـي العالم، فهذا غير ممكن لها فـي الأمَّة العربية. فالعرب كانوا هم حملة رسالة الإسلام، واللغة العربية هي لغة قرآنه الكريم وحاوية معظم تراثه الفكري، بل إنّ فـي توحّد العرب قوّة للعالم الإسلامي كلّه
. لقد أحيط الوطن الغالي بالصِّعاب، ولفّته القسوة: فمن محاسبٍ متغطرسٍ، إلى معاقب أثيم، إلى معتدٍ أفَّاك، فمتّهم غادر، ومنتهك من ذوي القربى، وهو أشد مضاضة على الوطن من وقع الحسام الغريب الباتر. وتتابع نصال الأزمات فيتكسر بعضها على بعض. فمَن للوطن الجريح في هذه الظروف الحرجة إلاكم. فرضيات الدراسة: -تنطلق الدراسة الراهنة من فرضية رئيسية هي:
ما أهمّية الحديث عن «الهُويّة» وعن «العروبة» فـي هذه المرحلة؟ وما علاقة هذا الموضوع فـي تطوّرات خطيرة تشهدها المنطقة العربية؟
ومنها تنطلق الفرضيات الفرعية الأتية :
1- للعروبة أهمية كبيرة في بناء الأوطان و رفعتها ، ونهوضها .
2- للعروبة كمشروع وهوية، وتعظيم مكانتها كلغة حية وعالمية،
3- فالعروبة كمفهوم مرتبط بالتطور والتقدم والحداثة، وتتعزز من خلال الممارسة والنقد،
4- فمستقبل العروبة سياسة ولغة، مرهون بتعزيز وترسيخ قيم الحداثة والتحديث وبناء مجتمع المواطنة، في عالمنا العربي،
5- تلعب الثقافة والفنون دور القوة الناعمة، لما لهما من دور مؤثر في العديد من القرارات وترسخ مفهوم العروبة وأهميتها للامة العربية جمعاء .
منهجية الدراسة: – الأسلوب الوصفي – تضمن خطوات منهجية مُرتَّبة، ويبدأ ذلك بالشعور بالمشكلة وما تمثله من أهمية بالنسبة للباحث، ويتبع ذلك إجراءات أخرى لدراسة الموضوع العلمي، وفي حالة اتباع الباحث العلمي لذلك وبكل دقَّة يصل إلى نتائج مُبرهنة، ومن ثم يضع الحلول بصورة واقعية.
مقدمة: –
ما من شك في أن علاقة اللغة العربية، بالأمة، علاقة وثيقة ومتجذّرة تتجسد وفق منطق الدوائر الثلاث التي لها مركز واحد بدءاً بدائرة الوطن . فكل إنسان له مكان يولد ويعيش فيه، ويحمل جنسيته وينتمي إليه، ولغة يتحدث فيها يتميز بها عن غيره، يعرف بها، وثقافة يتربى عليها، وتُعدّ حاملة لنسق القيم الاجتماعية، كالدين والأدب والفن والعادات والأعراف، وهذا يعني أن لكل إنسان، مكاناً، ولساناً، وثقافة .
ولأهمية موضوع العروبة بالنسبة إلى العالم العربي، انعقدت العديد من المؤتمرات واللقاءات، لمناقشة قضايا العروبة ومستقبلها، وتأثيراتها في مستقبل المشروع العربي، في ظل التحولات التي يشهدها عالمنا العربي . ومن هنا علينا الاعتزاز بالعروبة كمشروع وهوية، وتعظيم مكانتها كلغة حية وعالمية، قادرة على العطاء في مجالات، التدريس والتعامل اليومي . فدول العالم التي حققت تقدماً ونهضة حديثة . وأسهمت في الحضارة المعاصرة، اعتمدت على لغتها القومية، فالعروبة مفهوم أكثر رحابة وقادر على التواصل مع حضارات وثقافات العالم المختلفة، في مختلف مجالات الحياة، الفكرية، والسياسية، والاجتماعية، واستطاع الشعراء التعبير عن هذا المعنى باعتبار اللغة شعراً، والشعر خيال، وعبّر القرآن الكريم عن اللغة والشعر فقال الحق وإنه لتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين، بلسان عربي مبين وكانت معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم بإعجاز القرآن وسحره البلاغي إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وأصبح القرآن الكريم تعبيراً عن الوجدان العربي .
والحديث عن العروبة ومستقبلها سيظل شاغلاً لقيادات عالمنا العربي ونخبه السياسية والفكرية، رغم كل التحديات التي تواجه المشروع العربي، والعمل للخروج به من حالة الاستسلام لمنطق التفكك والضعف، وإعادة الثقة لوحدة الأمة وتماسكها، بعد أن وصل الحال إلى مستوى قاس وصعب، حيث تلاحقت الفتن والزلازل، وتعددت مسارح التمزق العربي، وبتنا ندعو في صلواتنا لتبقى الدولة القطرية متماسكة، لا تتفتت إلى فيدراليات أو بين شمال وجنوب، بعد أن اختار العرب المشي بمحاذاة الجدران المتداعية، وانتهوا إلى شبه استقالة من التاريخ، وغيبوبة قومية، وحالة نفسية قابلة للتدجين . وطال ليل حال الأمة، وازداد ضعفها ليشمل السياسة والثقافة والدين وصولاً إلى الشارع، وبات الحديث عن العروبة، مرتبطاً بما يجري حولنا من تحولات وتغييرات، تمس أمن الوطن العربي ومستقبله، وبالتطور الديمقراطي والحداثة، فالعروبة ليست مفهوماً جامداً، بل هي ثقافة إنسانية تشكّل منطلقاً لحداثة أصيلة، وتؤصّل لهوية ثقافية وحضارية لمنطقتنا العربية، وترمز إلى الوطن والإنسان، والأمة والشعب والتاريخ، والوجدان والوجود العربي .
إنّ ضعف الهويّة الوطنية المشتركة هو تعبيرٌ أيضًا عن فهمٍ خاطئ للانتماءات الأخرى. فالاعتقاد بمذاهب دينية مختلفة، أو الاعتزاز بأصول إثنية أو قبلية، هو ظاهرة طبيعية وصحّية في مجتمعات تقوم على التعدّدية وعلى الاختلاف القائم في البشر والطبيعة. لكن تحوّل هذا الاختلاف إلى خلاف عنفي وصراعات سياسية دموية يعني تناقضًا وتصادمًا مع الحكمة في الاختلاف والتعدّد، فيكون المعيار هو محاسبة الآخرين على ما وُلدوا به وعليه، وليس على أعمالهم وأفكارهم. وهذا بحدِّ ذاته مخالف للشرائع الدينية والدنيوية كلّها.
إنّ تفكّك مفهوم “الهُويّة الوطنية” يؤدّي إلى طغيان التسميات الطائفية والمذهبية والإثنية على المجتمعات العربية. وفي هذا الأمر تكمن مخاطر الانفجار الداخلي في كلّ بلدٍ عربي، وحينما تضعف الهُويّة العربية، فإنّ بدائلها ليست هُويّات وطنية موحّدة للشعوب، بل انقسامات حادّة تولِّد حروبًا أهلية من شأنها أن تأكل الأخضر واليابس معًا.
وهي ليست منظومة أيديولوجية أو فكرية سياسية، وإنما ثقافة وطنية قومية تشكّل أساساً لوحدة الشعب في كل دولة عربية ولوحدة الأمة بشكل عام، تحتاج بالضرورة إلى طرح برنامج إصلاحي ديمقراطي اجتماعي يحقق تطلعات المواطن العربي المدنية والعدالة الاجتماعية، ويقف في وجه الفساد والاستبداد السياسي والاقتصادي، ويُعلي من قدر النقد الإعلامي والبرلماني في الموضوعات العامة التي تمس اهتمام الناس ومتطلباتهم الحياتية، فالانتصار للعروبة، يتطلب في هذه المرحلة الحرجة، تحديد العرب أهدافهم المشتركة، التي تحمي وتصون أمنهم الوطني .
فالعروبة كمفهوم مرتبط بالتطور والتقدم والحداثة، وتتعزز من خلال الممارسة والنقد، لاسيما في ظل ما يواجه الأمة من أخطار تبدو وكأنها تدور حول نفسها، تضرب كفاً بكف وتستعيذ بالله من الشياطين، إنساً وجناً، سياسة واقتصاداً وأمناً، ولا غرابة في ذلك، لأن الانهيار العربي صار مفتوحاً على الغارب، ووصل الحال إلى مستوى دفع إلى استجلاب العون من الخارج، وأدى ذلك إلى التراجع، على مستوى التوحد بين دوله، وإخفاق مشروعه العربي الذي قام على تصور محدد للعقلانية، ما يستدعي ابتكار طرق جديدة، وتعظيم ثقافة الحداثة السياسية، ومعالجة أخطاء تجربة المشروع العربي، من واقع إعادة بناء مشروع التحديث السياسي، وتجاوز التراجعات من أجل المساهمة في إعادة النهوض به، وهو ما يحتاج إلى ممارسة فعلية في مجال التطور السياسي، في التاريخ الإنساني، للوصول إلى تحقيق مطلب الإصلاح المتدرج في أغلب المجتمعات العربية وفق أطر العلاقات الدولية التي تنشأ في التاريخ بين الأمم والشعوب من أجل تدبير أفضل لعلاقاتها ومستقبلها يكون ملبياً لآمالها وطموحاتها في التاريخ، وتحديث يتوافق مع إرادات الفاعلين وطموحاتهم المتغيرة ووفق معايير قابلة للتطوير، في ضوء تجارب أنجزت وأخرى مازالت تنجز حسب مصالح الدول ومن دون إغفال مقتضيات اللغة التاريخية .
المبحث الأول :- مستقبل العروبة
فمستقبل العروبة سياسة ولغة، مرهون بتعزيز وترسيخ قيم الحداثة والتحديث وبناء مجتمع المواطنة، في عالمنا العربي، اعتماداً على مدخل الإصلاح السياسي، في ظل عالم يشهد حراكاً بين مختلف الحضارات، وتلعب فيه الثقافة والفنون دور القوة الناعمة، لما لهما من دور مؤثر في العديد من القرارات . ولقد تأخر العرب كثيراً في إصلاح منظومتهم الدينية والثقافية والسياسية، بل وفي إصلاح المؤسسات العربية عموماً، رغم مضي أكثر من قرنين من الزمان، ولا يمكن أن يحدث تحول حقيقي واستراتيجي يحقق وحدة الأمة العربية والنهوض بها إلا بوجود قيادات عربية تؤمن بقيم العروبة ووحدتها . تعريف الوحدة العربية والذي ساد في حقبة الستينات وحتى الثمانينيات كان يتبنى الوحدة الاندماجية، وبعد فشل الأحزاب والقادة الذين رفعوا شعار الوحدة الاندماجية بات القوميون يطرحون مفهوماً جديداً للوحدة العربية يعتبر قريبا من المشروع الأوروبي، أي الدعوة للانصهار في كتلة ذات سياسة خارجية موحدة، وذات ثقل اقتصادي كبير يقوم على التكامل الاقتصادي والعملة الموحدة وحرية انتقال الأفراد والبضائع بين الأقطار المختلفة، بالإضافة لتفعيل اتفاقية الدفاع العربي المشترك للوصول إلى اتحاد عربي مع المحافظة على خصوصيات اجتماعية أو ثقافية قد توجد في بعض المناطق العربية.
إنَّ الأمَّة العربية هي الأمَّة الوحيدة وسط كلِّ العالم الإسلامي التي لا يصحّ التناقض فـيها بين الإسلام وبين الانتماء للعروبة. فالأمَّة العربية هي الأمَّة الوحيدة التي نسج خيوطها الإسلام ولم تكن موجودة قبله، وهي تتميّز بهذا عن بقية الأمم الأخرى ولو كانت أمماً مسلمة. وبينما الإسلام هو دين وحضارة للعرب المسلمين، فإنّه حضارة وتاريخ وتراث للعرب المسيحيين. فلو أمكن للهويّة القومية بشكلٍ عام أن تتناقض مع الإسلام فـي أيَّة أمَّة فـي العالم، فهذا غير ممكن لها فـي الأمَّة العربية. فالعرب كانوا هم حملة رسالة الإسلام، واللغة العربية هي لغة قرآنه الكريم وحاوية معظم تراثه الفكري، بل إنّ فـي توحّد العرب قوّة للعالم الإسلامي كلّه.
ولعلّ أبرز المراجعات المطلوبة عربياً فـي هذه المرحلة ترتبط بمسألة ضعف الهويّة الوطنية الجامعة وغلبة الانتماءات الفئوية الأخرى. ففـي هذه الظاهرة السائدة حالياً فـي أكثر من بلد عربي خلاصة لما هو قائم من مزيج سلبيات أخرى عديدة.
أولاً: في دلالة مفهوم العروبة
العروبة في أبسط تعريف لها، “هي الشعور بالانتماء إلى كيان جماعي واحد هو الأمة العربية من المحيط إلى الخليج، وهي التي تبلورت تاريخيًا على مدى الأربعة عشر قرنًا الأخيرة بفعل الإسلام كدين وحضارة، وبفعل تدخل اللغة العربية كأداة خطاب وتواصل، وبفعل الجوار الجغرافي، والتفاعل الاجتماعي، كموحدات للضمير والمصالح، وبفعل التحديات الخارجية التي خلقت وحدة الهموم والمصير”
“والعربي لا تكتمل عروبته إلا إذا كانت اللغة العربية وعاء فكره وثقافته، وكانت العروبة محط انتمائه الوطني والقومي وأن اللغة العربية والثقافة والانتماء القومي لهي منارات القومية العربية” وعقيدة العروبة على هذا النحو هي انتماء وحركة، لأن العقيدة إذا وقفت عند حد الإيمان بها، فإنها لا تنتقل إلى مرحلة العمل السياسي الذي يؤدي إلى السعي الحثيث إلى تحويل العقيدة الفكرية إلى عمل سياسي ملموس
وبمعنى آخر يمكن أن تتحقق العروبة دون أن تكون هناك فكرة قومية عربية فالأول يعبر عن وجود اجتماعي وحضاري قائم على حقيقة ثابتة وهي الأمة العربية، وقد وجدت تاريخًا ولم تكن هناك قومية عربية والتي ظهرت متأخرة كحركة سياسية تهدف إلى تأكيد الوجود القومي العربي والسعي لاستكمال عناصره السياسية والاقتصادية
فالعروبة تعكس تماثلًا ثقافيًا ولغويًا وتاريخيًا وروابط عاطفية بين المتحدثين بالعربية. فهي حالة ثقافية. أما القومية فهي العروبة مضافًا إليها عامل الرغبة القومية في التوحد السياسي وهي بهذه المثابة وظيفة سياسية. وبعد انفصال الوحدة المصرية السورية (1958–1969)، ثم هزيمة يونيو 1967، ثم نكبة احتلال العراق للكويت، تراجعت أحلام الوحدة العربية والقومية العربية، وبقيت العروبة بكل ما تحمل من معانٍ ومقاصد، وظلت – في تقدير البعض – كامنة في وجدان كل عربي
والعروبة تشكل – على هذا النحو- رصيدًا معنويًا غير عادي، يتمثل في ارتباط شعوب المنطقة العربية بعلاقة انتساب وولاء قوميين نابعين من وحدة اللغة والتاريخ والمشاعر والمصير المشترك.
والصفة القومية للنظام الإقليمي العربي، هي سمة تميزه عن النظم الإقليمية الأخرى، فهو يتمتع بدرجة عالية من التماسك الثقافي واللغوي والاجتماعي، وهي سمات لا تمنع وجود سمات وطنية خاصة في كل دولة عربية، وهي سمات – إذا حسن توظيفها – تعمل على إثراء الانتماء القومي والوطني معًا. والانتماء المشترك يرتب التزامات ونتائج سياسية على المنتمين إليه، وتجعل التفاعل بين أجزاء هذا النظام الإقليمي له “قيمة رمزية” خاصة، ومن المفترض أنها تفرز قواعد للسلوك والالتزام السياسيين العربيين، وفي مقدمتها مبدأ الشرعية القومية للعمل المشترك
وإذا كانت السمة الرئيسية للنظام العربي هي سمته القومية، فإنه مما يلفت النظر أن العقيدة القومية لهذا النظام ليست محل تشكيك، حتى من قبل الذين يشككون في جدواها أو في مضمونها، ولا شك أن هذه العقيدة القومية هي التي هيأت وتهيئ للنظام العربي، جدارًا من المناعة والضمان من تحديات عديدة إذا التزمت الدول العربية بها وقد أريد للعروبة أن تكون حصنًا دفاعيًا جماعيًا عن المصالح الكلية العربية، انطلاقًا من قناعة أصحابها بأن “عروبتهم” جديرة بالمهمة وقادرة على الاضطلاع بأعبائها ، شريطة الوفاء بالتزاماتها.
نخلص مما تقدم عن العروبة، أنها الرابطة التي تربط بين العرب وتشعرهم بوحدة الانتماء إلى أمة واحدة هي الأمة العربية، بغض النظر عن اسم الدولة التي يحملون جنسيتها بصورة رسمية وعن الديانة التي يدينون بها. هذا ما التقى حوله أكثر المفكرين القوميين العرب، وأن العروبة لا تميز بين أبنائها لا في الأصل ولا في الدين ولا في الكون ولا في الجنس، ويركزون كمقومات للعروبة، على اللغة العربية، وعلى الأرض كواقع مادي وعلى إرادة الانتماء كواقع نفسي اجتماعي عند العرب التي، تستلزم بالضرورة وحدة الهدف عندهم ووحدة المصير، وهذا يعني التحالف مع نفس الأصدقاء ومحاربة نفس الأعداء ومجابهة نفس الأخطار، مما يرسخ التكوين النفسي المشترك للعرب ويقوي، بالتالي شعورهم بعروبتهم وبانتمائهم إلى أمتهم العربية ولكن ما علاقة اللغة بمفهوم العروبة ؟.هناك من يرى كساطع الحصري أن اللغة هي الأساس، فهي روح الأمة وحياتها، وهي بمثابة محور القومية وعمودها الفقري. أما التاريخ فهو بمثابة شعور الأمة وذاكرتها، ويضيف أصحاب هذا الرأي إلى ذلك قولهم “إن الأمة التي تنسى تاريخها تكون قد فقدت شعورها وأصبحت في حالة السبات، وإن لم تفقد الحياة… ولكنها إذا ما فقدت لغتها تكون عندئذ قد فقدت الحياة وفي عداد الأموات، فلا يبقى سبيل إلى عودتها إلى الحياة، فضلاً عن استعادتها الوعي والشعور القوميين”
ويتبنى جمال الدين الأفغاني نفس الرأي، فهو يرى “أن اللغة هي الوطن وأن إضاعتها تسليم للذات. وهذه المدرسة ترى أن اللغة العربية ليست مجرد شكل، بل رمز يعبر عن معاني متعددة، والتفريط بها يعبر عن انهزام نفسي، واستلاب حضاري، وعدم ثقة بقدرة الثقافة العربية على مواجهة متطلبات التطور الحضاري.
وهناك من يضع اللغة ضمن ما يسمونه بـ “الموحدات العريضة”. فهذه الموحدات هي أساسًا الإسلام، كدين ونمط حياة، واللغة كأداة تخاطب وكقالب للإدراك والتفكير، والتراث الثقافي والقيمي المشترك، كرابطة مجتمعية اللغة الفصحى أو الفصيحة هي لغة الأجداد ولغة التراث على مر الأجيال، وهو رابط يجمع بين العرب في أقطارهم من المحيط إلى الخليج. وهي – على هذا النحو – تشكل الحصن الحصين وخط الدفاع الأمين عن الأمة العربية.
وقد سعت بريطانيا خلال فترة احتلالها لبعض المناطق العربية، لإضعاف اللغة العربية، بهدف إضعاف مقومات الترابط القوي في العالم العربي والتي لا تتفق بدورها مع المصالح الاستعمارية، فعملت على تشجيع وتقوية اللغة العامية، حتى تفقد اللغة الفصحى قوتها كعنصر توحيد ، وهو ما يذكرنا بموقف مماثل للإمبراطورية العثمانية من اللغة العربية.
وبدوره عبر عباس محمود العقاد عن استهداف الغرب اللغة العربية بقوله: إنها حملة على كل شيء يعنينا وعلى كل تقليد من تقاليدنا الاجتماعية والدينية، وعلى اللسان والفكر والضمير في حزمة واحدة، فزوال اللغة العربية لا يبقي للعربي أو المسلم قوامًا يميزه عن سائر الأقوام غير أن هناك من يرى أنه لا ينبغي عدم المبالغة في تفسير دور العامل اللغوي، فالإرادة السياسية تُفعَّل بأكثر من عامل أو رابطة اجتماعية، وهي التي تقرر في النهاية حدود العلاقة بين هذه العوامل أو الروابط في الكل المجتمعي
ثانياً: القول بوجود تناقض بين العروبة والإسلام
ترى بعض فصائل الإسلام السياسي، بصورة عامة، أن في الروابط الوطنية والقومية عصبيات تهدد وحدة الأمة التي يدعو إليها الإسلام والتي تجمعها رابطة الدين ([21])، بينما يرى البعض الآخر عكس ذلك بالقول إن الإسلام والعروبة متلازمان تلازم المنشأ والضرورة. وكلاهما يعطي الآخر من أسباب المنعة والقوة ما يعود على الأول بالوفرة والمتعة ([22]).
والقول بتناقض العروبة والإسلام يوضع أحدهما في تباعد عن الآخر، في حين أن التجربة التاريخية والإنسانية تؤكد على أن المحتوى الحضاري للعروبة إسلامي ([23])، ودعاة العروبة لا يرفعون دعوتهم القومية في مواجهة الجامعة الإسلامية، وإنما يرفعونها في وجه الدعوة إلى الإقليمية والانحصار داخل الكيانات العربية المجزأة، فهي دعوة “تَوحّد” وتجميع تعلو على الإقليمية الضيقة، وليس خصمها الإسلام، بأي معيار من معايير الخصومة.
والإسلام هنا ليس فروضًا دينية فحسب وإنما هو عادات وتقاليد وسلوك، فهو الصيغة المثلى للمجتمع العربي، ولا يمكن فصله عن العروبة. والدعاة القديمون – تاريخيًا – في موقف الدفاع عن العروبة والحضارة العربية وجدوا أنفسهم في مواجهة حملة ضارية تهدف إلى التقليل من شأن الأمة العربية، واتهام العرب – عبر تاريخهم كله – بالعجز والخواء الحضاري. وعندما تتأمل في بواعث هذه الحملة نجد أنها في الحقيقة موجهة للإسلام، تتستر تحت شعار “الهجوم على العروبة” ([24]).
والإسلام الذي يضعونه في مواجهة العروبة بدلالتها السياسية هو الإسلام السياسي، وليس الإسلام الوسطي بمضمونه البعيد عن دعاوى الظلامية. ومحاولات بث التناحر بين الفكرة العروبية والفكرة الإسلامية كان الهدف منها افتعال جبهة خارجية للصدام بينها، لإشغال العالمين العربي والإسلامي معًا بمعارك جانبية، بإبراز التطرف باسم الدين تارة والتشدد باسم القومية تارة أخرى، وهو ما شاهدناه مثلاً في أساليب إخراج ظاهرة “داعش” والتنظيمات التكفيرية الأخرى، التي كان هدفها شيطنة صورة العرب والمسلمين معًا. وقد تكررت محاولات افتعال الصدام والتعارض بين الإسلام والعروبة بقصد إضعافهما معًا. وافتعال النزاع في الشخصية العربية بين أرومتها وتراثها يهدف إلى تجزئة المجتمع العربي إلى شطرين متحاربين، هما القوميون والإسلاميون مما يجعل هذا الصراع يتخذ طابع الانتحار الجماعي، ويهيئ المجتمع العربي لكل أنواع الغزو الخارجي ([25)
من المفترض أن الانتماء للعروبة يرتب واجبات والتزامات على أبناء الأمة العربية شعوبًا وقادة بمقتضاها يتعاونون ويتناصرون ويتضامنون، باعتبار أن قضاياهم القومية مشتركة، والأخطار التي تهدد بعضهم تمثل تهديدًا للعرب الآخرين، فالمصير واحد ومشترك.
وبالتالي يقتضي الأمر أن تتواءم التوجهات السياسية والأمنية، لكل أقطار العروبة، دون أن يعني ذلك التطابق بطبيعة الحال، ولكن تحقيق التنسيق والتضامن والتعاون في المواقف العربية.
وعلينا أن نتذكر أن القضية ليست قضية اختيار لازم بين “العروبة” والإسلام” فالأولى حقيقة تاريخية وواقع ثقافي سياسي، الإسلام عقيدة ونظام حياة ومصدر قيم وأخلاق وعلاقات. والعربي المسلم يستطيع، دون أن يقع في التناقض، أن يكون مسلمًا حسن الإسلام، وأن يظل عربي الثقافة واللسان وعربي التوجه السياسي. ومدركًا لخصوصية الرابطة الثقافية التي تربطه بالعرب جميعًا، مسلمين وغير مسلمين.
ولقد أثبت الإسلام أنه قادر على الانفصال عن العروبة والإبقاء على ذاته في آن. فهناك دول إسلامية كثيرة لا ترتبط بالعرب والعروبة.
بينما نجد أن العروبة خرجت من أحضان الإسلام، والإسلام هو الذي صنع قوة العرب وليس العكس. ومحاولات محو الطابع العربي هو إضعاف للإسلام، وبالمثل تشكل مخططات إضعاف الثقافة الإسلامية والشعور بالانتماء للإسلام الحضاري تهديدًا حقيقيًا للثقافة العربية وبالتالي إضعاف العروبة والإسلام معًا.
والدعوة للتمسك بالعروبة وتمجيد العرب ليست موقفًا عنصريًا يزعم تفوق “الجنس العربي” على سائر الأجناس، وإلا كان بحق مناقضًا لما حرص الإسلام على تقريره من وحدة “النوع الإنساني” ورفض العنصرية بكل صورها ([26). فالفكرة القومية عند العرب كانت دائمًا متصفة بالتسامح الديني والتآلف العرقي، والتآخي المذهبي والتعددية، بينما كانت الفكرة القومية عند الفرس مثلاً مغلفة دائمًا بالعرقية والتي أدخل عليها الشاه الطابع الآري ([27).
ثالثاً: مسيرة العروبة بين ماضٍ متلبس وحاضر مأزوم
من المفترض أن الانتماء للعروبة يرتب واجبات والتزامات على أبناء الأمة العربية شعوبًا وقادة بمقتضاها يتعاونون ويتناصرون ويتضامنون، باعتبار أن قضاياهم القومية مشتركة، والأخطار التي تهدد بعضهم تمثل تهديدًا للعرب الآخرين، فالمصير واحد ومشترك.
فالعروبة تعبر في أحد معانيها، عن علاقة كل دولة عربية بالوطن العربي، بمعنى علاقة الجزء بالكل الذي تفرضه عضوية الجغرافيا والتاريخ، والحضارة والهموم والآمال المشتركة، فكلاهما يدعم الآخر ويزيد من قوتهما ومناعتهما. والمتتبع لمسيرة العروبة يجد أنها كانت مسيرة متعرجة عرفت أوقات الصعود (المحدودة) وأوقات الهبوط (وما أكثرها) ويعود ذلك وإلى حد كبير إلى مواقف منتسبي العروبة وقادتهم، إضافة بطبيعة الحال، إلى التآمر الداخلي والخارجي ضدها.
وخلال فترات الهبوط سقطت بعض حمولات العروبة، فاختفى تقسيم ما كان يعرف بالعرب “المحافظين” والعرب “التقدميين”، والعرب “الممانعين” و”المتعاونين” و”ثوريين” و”رجعيين” ولكن الأهم أن حمولة التبشير بالوحدة العربية التي يتضمنها مفهوم العروبة باعتبارها انتماء وحركة، انحسرت مع تراجع العروبة وتنامي التيار الإسلامي الأصولي، كما اختفت فكرة الدولة القاعدة أو القائدة وحل محلها صور من أشكال القيادة الجماعية، ولكنها لم تدم إلا لفترات انتقالية محدودة. وبهذا التطور ابتعد النظام العربي كجماعة سياسية واقترب من الجماعة الثقافية، أي كميدان لاتساع مشاعر الانتماء القومي الواحد وتواضعت الأهداف السياسية للنظام العربي مرحليًا.
والانتساب للعروبة ليس مجرد رابطة شكلية بل رابطة معنوية، ترتب التزامات على المنتسبين إليها شعوبًا وحكومات، وفي مقدمة هذه الالتزامات الابتعاد عن التصرفات السياسية التي من شأنها الإضرار بالقضايا العربية القومية، كما أن الشعور بالهوية والانتماء للعروبة يفترض على الدول العربية وقادتها مراعاة التضامن في المواقف التي تتطلب ذلك، ففي الماضي كنا أكثر وعيًا بالتزامات العروبة وحرماتها وبالتالي تم تجاوز الخلافات العارضة في حالة الأزمات الخطيرة التي تتعرض لها الأمة العربية. فعلى سبيل المثال، نجد أنه على الرغم من حالة الجفاء التي كانت سائدة بين القاهرة والرياض بسبب حرب اليمن في الستينات، شارك الملك فيصل إلى جانب الرئيس جمال عبد الناصر، في قمة الخرطوم (أغسطس 1967) التي أعقبت هزيمة يونيو 1967، وأطلقت اللاءات الثلاث الشهيرة لهذه القمة: ”لا صلح، ولا تفاوض، ولا اعتراف بإسرائيل قبل الانسحاب من الأراضي المحتلة في الخامس من يونيو 1967، وتقرر تقديم دعم مالي لدول المواجهة العربية.
ويقول التاريخ “القريب”، إن النوايا العربية النخبوية، كانت صادقة في تطلعها للنهضة الشاملة، وفي تعيينها “للعروبة” كمركز لهذه النهضة غير أن بعض الأنظمة العربية المستبدة، استعملتها لتحقيق مآرب ذاتية لقادتها لا علاقة لها بالفكر العروبي المستنير ([28).
والقول بأن العروبة وتوابعها كانت السبب في المصائب التي حلت بالعرب، يتناسى أن السبب الحقيقي هو وجود بعض أنظمة الحكم التي استبدت وهُزِمَت، وأساءت إساءة بالغة للفكر العربي، واستغلت شعاراته أسوأ استغلال. والمغالطة الأولى في هذه المقولة كون العروبة هوية أمة وليست صرعة زي نرتديه ونخلعه حسب المزاج، والأنظمة تلك لم تمارس عروبتها وفق منطق ومقتضيات العروبة في أحيان كثيرة، و من ثم فلا تحاسب العروبة على أفعالها في قليل أو كثير ([29]). ولا يتسع المجال لعرض مآل العروبة وما صادفها من أزمات، وسنكتفي ببعض المحطات. من المعروف أن العروبة برزت كتيار سياسي قوي في الستينات، كانت بذرة العروبة نابعة، بشكل أساسي بالانتماء لأمة عربية واحدة وأخذ هذا الإحساس بالانتماء مظاهر ومسميات كثيرة فمثلا حينما وقع العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 تظاهر عمال النفط السعوديون وقام السوريون بتفجير أنابيب البترول التي تمر بأراضيهم، وتوحد الوطن العربي مع مصر في مواجهة العدوان، وكان ذلك ناجمًا عن الشعور الواحد بالانتماء للعروبة والمصير المشترك.
ولكن تيار العروبة أصيب بنكسة بعد انهيار الوحدة المصرية السورية (1961) أثرت على حيويتها جماهيريًا، ثم شهدت المرحلة 1961–1967 منافسة وصدامًا حادًا بين النظام الإقليمي العربي والنظام الشرق أوسطي وكان ميزان القوى بينهما هشًا باستمرار، وانتهى عام 1967 بهزيمة لأكثر الدول العربية دعوة للوحدة العربية (جمهورية مصر العربية)، وأضعفت رؤية التيار الناصري العروبية وعطلت طموحاته، ثم جاءت حرب أكتوبر 1973 لتشكل نهوضًا قوميًا مؤقتًا للنظام العربي.
وشكلت هذه الحرب وهج العروبة في أعلى صورها، وأثبتت قدرة العرب على التخطيط والحشد والقتال والتضحية والأداء الدبلوماسي العربي رفيع المستوى، وأعادت صعود التيار القومي مرحليًا وقدمت دليلاً على ما يمكن لاستراتيجية عربية تكاملية أن تحقق على الصعيد العربي، وبالمقابل تمثلت حالة انتهاك محرمات العروبة في أسوأ صورها، في إقدام صدام حسين على احتلال دولة الكويت (أغسطس 1990)، تحت شعار زائف “للعروبة” وأحدث بذلك انقسامًا خطيرًا ليس فقط بين الأنظمة العربية بل تجاوزه إلى فقدان الثقة في مفهوم العروبة نفسه وانحسار مصداقية النظم التي كانت تدعي تمثيلها لقلاع القومية العربية وأثارت علامات الاستفهام حول مفهوم الأمن القومي العربي والذي من المفترض أنه كان يمثل جوهر العروبة وعمودها الأساسي، فأصبح موضع شك عميق، وظهرت نزعة قوية للابتعاد عن نظام الأمن القومي العربي واضطرت دول الخليج إلى اللجوء لعدد من الدول الغربية والولايات المتحدة لسد هذه الثغرة الأمنية. وأدت الخلافات العربية-العربية المتواصلة إلى اختفاء البوصلة الواحدة، بوصلة العروبة، التي حفظت للعرب تماسكهم كأمة، رغم تفرقهم كأنظمة وأقطار.
ولم يتعظ بعض المسؤولين العرب من مآسي الماضي ودروسه، فتكررت مشاهد الخروج عن التزامات العروبة بقيام أطراف عربية بالمشاركة مع قوى وتنظيمات متطرفة في تدمير كيانات عربية، ولعل الحالتين السورية والليبية تمثلان نموذجين لهذه الحالة.
ومن هنا ليس من المبالغة القول إن ما أصاب العرب من مآسٍ وانهيارات وانحسار الفكر القومي، يرجع في جانب كبير منه إلى تآمر العرب على أنفسهم، وما سمحوا به للآخرين بفعله بهم. وأدى ضعف الروابط القومية إلى ترهل النظام العربي وأصبح اختراق مجاله السياسي والقفز فوقه أمرًا معتادًا، بل السعي لتفكيكه وتذويبه داخل أنظمة إقليمية أوسع نطاقًا لا تتسم الإطار الثقافي والقومي والضمير العقيدي كمشروع الشرق الأوسط الكبير وغيره.
ويلاحظ أن بعض الدول العربية تجاوزت التزاماتها العربية حتى في إطار جامعة الدول العربية. فهي بيت العرب الكبير، هي الرمز المؤسسي للنظام الإقليمي العربي، والمنبر القومي له، والعضوية فيها ترتب التزامات واجبة الأداء، ولكن بعض الدول العربية تقاعست عن القيام بها، فعلى مستوى تنفيذ القرارات فإن اتخاذها بالإجماع غالبًا، تعلم بعض الدول العربية أنها لن تنفذها، مما يقوض من مصداقية العمل العربي المشترك، ولم تجد أغلب القرارات التي اتخذت بالإجماع فرصتها في التطبيق. إن مدى فاعلية جامعة الدول العربية ترتبط بمحصلة مواقف الدول الأعضاء فيها، ولذلك فإن المواقف التي تمثل تخليًا عن التزامات العضوية تشكل مصدرًا لثلاث فجوات رئيسية في بنية النظام الإقليمي العربي، وهي فجوة التراضي، وفجوة الالتزام، وفجوة الفعالية.
“والمقصود بفجوة التراضي هو وجود خلافات عميقة في التوجهات الاستراتيجية والإجرائية بين دول عربية رئيسية نحو عدد من القضايا الجوهرية، الأمر الذي يقود إلى شلل في المؤسسة الرئيسية للنظام العربي: أي الجامعة العربية التي أقيمت على أساس قاعدة الإجماع من حيث الأساس.
وتعرف فجوة الالتزام بأنها هذا المدى الكبير من عزوف الدول العربية الأعضاء في نظام الجامعة عن تنفيذ ما تعهدت به ووافقت عليه من قرارات ومؤتمرات القمة ومجلس الجامعة والاتفاقيات والمواثيق التي عقدت في ظل أو تحت إشراف جامعة الدول العربية.
أما فجوة الفعالية فهي أكثر تعقيدًا في تعريفها، لأن جزءًا هامًا منها ينشأ عن فجوتي التراضي والالتزام. غير أن المقصود بالمصطلح في هذا المقام هو عجز النظام العربي ذاته عن مقابلة المهام والتحديات المطروحة عليه في إطار المستوى الراهن من التعهدات وحتى لو تم تنفيذها بسبب عدم كفاية القوة والجهود الجماعية المتضمنة في هذا المستوى لتحقيق أهداف النظام بنجاح والتغلب على التحديات والعوائق التي تواجهه، وخاصة في ميدان الأمن القومي” ([30). ويلاحظ انخفاض مستوى تبادل المصالح العربية في الإدراك الرسمي لأكثرية الدول العربية ويشكل هذا الإدراك تحت تأثير التحديات والسلبية ووصل التوحد مع النظام العربي إلى أدنى مستوى ([31)
إن معوقات التضامن العربي عديدة، وإعادة التضامن يحتاج لفترة طويلة، لكن ثمة إمكانية لبناء تضامن مؤقت لمواجهة الأخطار المحدقة بكل أجزاء الوطن العربي، بتحريك قيم الانتماء العربي وغيرها من القيم من دائرة الكمون إلى دائرة الفعل، لاسيما على المستوى الشعبي ورصيده لم ينفذ بعد. وفي تقدير بعض الكتاب كمحمد السيد سعيد، أن النظام الإقليمي العربي أصبح منذ فترة في مفترق طرق بين الاضمحلال والنهوض، دون أن يعني ذلك أن هناك فرصًا متساوية أمام النظام بين النهوض والاضمحلال ([32]). ألم يكن المفكر القومي اللبناني منح الصلح محقًا حينما وصف هذا الواقع بأنه هجرة من “العروبة” ([33])، وكان وراء تساؤل وقلق مبرر لرياض نعسان أغا، حينما عنون مقال له بـ “ماذا يبقى لنا إن شطبنا هوية العروبة والإسلام” ؟ ([34).
لعلّ أبرز المراجعات المطلوبة عربيًّا في هذه المرحلة ترتبط بمسألة ضعف الهويّة الوطنية الجامعة وغلبة الانتماءات الفئوية الأخرى. ففي هذه الظاهرة السائدة حاليًّا في أكثر من بلد عربي خلاصة لما هو قائمٌ من مزيج سلبيات أخرى عديدة.
إنَّ ضعف الهويّة الوطنية لصالح هيمنة انتماءات ضيّقة يعني ضعفًا في البناء الداخلي. ويعني تسليمًا من “المواطن” بأنَّ “الوطن” ليس لكلِّ المواطنين، وبأنّ “الوطن” هو ساحة صراع على مغانم فيه، لذلك يأخذ الانتماء إلى طائفة أو مذهب أو قبيلة بُعدًا أكثر حصانة وقوّة من الانتماء الوطني الواحد، كما يصبح الانتماء الفئوي وسيلة يتمّ استخدامها للحفاظ على مكاسب سياسية أو شخصية أو لانتزاعها من أيدي آخرين.
كذلك، فإنّ ضعف الهويّة الوطنية قد يكون هو المدخل للتدخّل الخارجي، بل وللاحتلال أحيانًا، حيث تتحوّل أولوية الانتماءات الضيّقة إلى مبرّرات تقتضي التعامل مع أي جهة خارجية من أجل مواجهة الانتماءات الأخرى في الوطن الواحد!.
مشكلتنا نحن العرب أنّنا نعاني، لحوالي قرنٍ من الزمن، من صراعاتٍ بين هُويّات مختلفة، ومن عدم وضوح أو فهم للعلاقة بين هذه الهويّات المتعدّدة أصلًا: الهوية القانونية (أي الأوطان الحالية)، الهوية الثقافية العربية المشتركة في الماضي والحاضر، والهوية الدينية وما يتفرّع عنها من تعدّد طائفي ومذهبي وفقهي.
أيضًا، فإنّ مشكلة “الهويّة العربية” من الناحية الموضوعية نابعة من هذا الانفصام الحاصل بين وجود ثقافة عربية واحدة وعدم وجود دولة عربية واحدة. فشعوب العالم يشترك البعض منها في حضارات، لكن هناك خصوصيات ثقافية لكل شعب، حتّى لو اشترك مع شعوبٍ أخرى في حضارة واحدة، كما هو حال الحضارة الغربية الآن التي تنضوي تحت مظلّتها ثقافاتٌ متعدّدة. فتلك طبيعة قانون التطوّر الاجتماعي الإنساني الذي انتقل بالنّاس من مراحل الأسر والعشائر والقبائل إلى مرحلة الأوطان والشعوب والأمم.
إنّ معظم شعوب العالم اليوم تكوّنت دوله على أساس خصوصيات ثقافية، بينما الثقافة العربية لا يُعبّر عنها بعدُ في دولةٍ واحدة. ونجد الآن داخل الجسم العربي من يُطالب بدول لثقافات إثنية (كحالة الأكراد والأمازيغيين، وكما جرى في جنوب السودان) بينما الثقافة العربية الأم نفسها لا تتمتّع بحالة “الدولة الواحدة”.
إنّ الشخص العربي هو الإنسان المنتمي للثقافة العربية أو لأصول ثقافية عربية. فالهويّة العربية لا ترتبط بعرق أو دين، ولا بموقف سياسي أو منظور أيديولوجي، ولا تخضع لمتغيّرات الظروف السياسية.
إنّ الانتماء إلى العروبة يعني الانتماء إلى أمّة واحدة من حيث تكامل عناصر الأمَّة فيها: لغة وثقافة واحدة لشعوب ذات تاريخ مشترك على أرض مشتركة ولها مصائر ومصالح مشتركة قد تعبّر مستقبلًا عن نفسها بشكلٍ من أشكال التكامل أو الاتّحاد بين بلدانها.
إنّ الهويّة العربية هي دائرة تتّسع، في تعريفها ل”العربي”، لتشمل كل من يندمج في الثقافة العربية بغضّ النظر عن أصوله العرقية أو الإثنية. إنّ العروبة هي تعبير عن الانتماء إلى أمّة لها خصائص تختلف عن القوميات والأمم الأخرى حتّى في دائرة العالم الإسلامي.
نخلص مما تقدم أن النظام الإقليمي العربي يتسم بعدة سمات من بينها:
1- درجة مرتفعة من التجانس اللغوي والثقافي والديني يترتب عليها نمو إحساس قوي بالذاتية الواحدة، والإحساس القوي بالكيان الواحد.
2- قوة الروابط المعنوية بين أعضاء هذا النظام بدرجة تفوق مثيلاتها بين الدول في أي نظام إقليمي آخر.
3- أن التجانس اللغوي والثقافي أسهم في نمو الإحساس بالقرابة ووجود هوية عربية واحدة، ولذا فإن التفاعل بين الدول العربية، لم يكن ينظر إليها عادة على أنها علاقات دولية بالمعنى المتعارف عليه، ولكنها كانت علاقات ذات طبيعة خاصة
الهويات المتعددة للإنسان :
وإذا كانت هذه المقولات حول العروبة والنظام الإقليمي العربي مقبولة من حيث الصدق التاريخي والاتساق المنطقي، وقوتها الوجدانية لدى الجماهير العربية من الخليج إلى المحيط، فلماذا لم تجد هذه القناعات المبدئية في ممارسات الدول العربية الفعلية صداها على أرض الواقع العربي السياسي؟ وافتقدت معادلها التعاوني والتضامني المأمول فيه
فالهويّات المتعدّدة للإنسان، الفرد أو الجماعة، ليست كأشكال الخطوط المستقيمة التي تتوازى مع بعضها البعض فلا تتفاعل أو تتلاقى، أو التي تفرض الاختيار فيما بينها، بل هذه الهويّات المتعدّدة هي كرسوم الدوائر التي يُحيط أكبرها بأصغرها، والتي فيها (أي الدائرة) “نقطة مركزية” هي الإنسان الفرد أو الجماعة البشرية. هكذا هو كل إنسان، حيث مجموعة من الدوائر تُحيط به من لحظة الولادة فيبدأ باكتشافها والتفاعل معها خلال مراحل نموّه وتطوّره: من خصوصية الأم إلى عمومية البشرية جمعاء.
أيضاً، فإنّ مشكلة “الهويّة العربية” نابعة من هذا الانفصام الحاصل بين وجود ثقافة عربية واحدة وعدم وجود دولة عربية واحدة. فشعوب العالم يشترك البعض منها في حضارات، لكن هناك خصوصيات ثقافية لكل شعب، حتّى لو اشترك مع شعوبٍ أخرى في حضارة واحدة، كما هو حال الحضارة الغربية الآن التي تنضوي تحت مظلّتها ثقافاتٌ متعدّدة. فتلك طبيعة قانون التطوّر الاجتماعي الإنساني الذي انتقل بالنّاس من مراحل الأسر والعشائر والقبائل إلى مرحلة الأوطان والشعوب والأمم.
إنّ معظم شعوب العالم اليوم تكوّنت دوله على أساس خصوصيات ثقافية، بينما الثقافة العربية لا يُعبّر عنها بعدُ في دولةٍ واحدة. ونجد الآن داخل الجسم العربي من يُطالب بدول لثقافات إثنية (كحالة الأكراد والأمازيغيين، وكما جرى في جنوب السودان) بينما الثقافة العربية الأم نفسها لا تتمتّع بحالة “الدولة الواحدة”.
فالموجود الآن من الدول العربية هو أوطان لا تقوم على أساس ثقافاتٍ خاصة بها، بل هي محدّدةٌ جغرافياً وسياسياً بفعل ترتيبات وظروف مطلع القرن العشرين التي أوجدت الحالة الراهنة من الدول العربية، إضافةً طبعاً إلى إيجاد دولة إسرائيل في قلب المنطقة العربية. وصحيحٌ أنّ هناك خصوصياتٍ يتّصف بها كلُّ بلد عربي، لكن هناك أيضاً أزمات يشترك فيها كل العرب أو تنعكس آثارها على عموم أقطار الأمَّة العربية، وهي مشاكل وأزمات تؤثّر سلباً على الخصوصيات الوطنية وعلى مصائر شعوبها. لذلك هناك حاجةٌ ماسَّة الآن للانطلاق من رؤية عربية مشتركة لما يحدث في الأمّة العربية وعدم الانشداد فقط للهموم الخاصّة بكلّ بلدٍ عربي، وبالتالي العمل من أجل نهضة عربية مشتركة، كما هي الحاجة أيضاً لبناء خطاب وطني توحيدي داخل الأوطان نفسها.
المبحث الثاني : الهويّة الوطنية
إنَّ ضعف الهويّة الوطنية لصالح هيمنة انتماءات ضيّقة يعني ضعفاً فـي البناء الدستوري والسياسي الداخلي. ويعني تسليماً من «المواطن» بأنَّ «الوطن» ليس لكلِّ المواطنين، وبأنّ «الوطن» هو ساحة صراع على مغانم فـيه، لذلك يأخذ الانتماء إلى طائفة أو مذهب أو قبيلة بُعداً أكثر حصانة وقوّة من الانتماء الوطني الواحد، كما يصبح الانتماء الفئوي وسيلة يتمّ استخدامها للحفاظ على مكاسب سياسية أو شخصية أو لانتزاعها من أيدي آخرين. كذلك، فإنّ ضعف الهويّة الوطنية قد يكون هو المدخل للتدخّل الخارجي، بل وللاحتلال أحياناً، حيث تتحوّل أولوية الانتماءات الضيّقة إلى مبرّرات تقتضي التعامل مع أي جهة خارجية من أجل مواجهة الانتماءات الأخرى فـي الوطن الواحد!. إنّ ضعف الهويّة الوطنية المشتركة هو تعبيرٌ أيضاً عن فهمٍ خاطئ للانتماءات الأخرى
. فالاعتقاد بمذاهب دينية مختلفة، أو الاعتزاز بأصول إثنية أو قبلية، هو ظاهرة طبيعية وصحيّة فـي مجتمعات تقوم على التعدّدية وعلى الاختلاف القائم فـي البشر والطبيعة. لكن تحوّل هذا الاختلاف إلى خلاف عنفـي وصراعات سياسية دموية يعني تناقضاً وتصادماً مع الحكمة فـي الاختلاف والتعدّد، فـيكون المعيار هو محاسبة الآخرين على ما وُلدوا به وعليه، وليس على أعمالهم وأفكارهم. وهذا بحدِّ ذاته مخالف للشرائع الدينية والدنيوية كلّها.
إنّ تراجع «الهُويّة العربية المشتركة» يؤدّي إلى تفكّك مفهوم «الهُويّة الوطنية» وإلى طغيان التسميات الطائفـية والمذهبية والإثنية على المجتمعات العربية. وفـي هذا الأمر تكمن مخاطر الانفجار الداخلي فـي كلّ بلدٍ عربي، وبذا تصبح «العروبة» لا مجرّد أساس لبناء مستقبل عربي أفضل، بل أيضاً سياجاً ثقافـياً واجتماعياً ضدّ التدخّل الأجنبي، ولحماية الوحدات الوطنية فـي كلّ بلد عربي. وحينما تضعف الهُويّة العربية،
فإنّ بدائلها ليست هُويّات وطنية موحّدة للشعوب، بل انقسامات حادّة تولِّد حروباً أهلية من شأنها أن تحرق الأخضر واليابس معاً. لذلك تأتي أهمية إعادة إحياء مفهوم الهوية العربية المشتركة بعيدا عن اعتبارات الدين والعرق كحل أساسي لمواجهة العنصرية والحروب الأهلية التي يعانى منها أغلب دول الوطن العربي هناك حاجة ماسة الآن لإعادة الاعتبار من جديد لمفهوم العروبة على المستوى العربي الشامل، فهذا الأمر حجر الزاوية في بناء المستقبل العربي الأفضل. طبعا، يبقى المدخل الصحيح لأى نهضة عربية في تحقيق أوضاع دستورية سليمة في البلاد العربية، علما بأن المشكلة الآن ليست فقط في غياب الحياة الديمقراطية السليمة، وإنما أيضا في ضعف الهوية العربية المشتركة وطغيان الهويات الطائفية والمذهبية والإثنية على معظم المجتمعات العربية. وفى محصلة هذا الواقع تكمن أخطار الانقسامات داخل الأوطان العربية،
وبذا تصبح العروبة لا مجرد حل فقط لأزمة العلاقات بين البلدان العربية، وإنما أيضا سياجا ثقافيا واجتماعيا لحماية الوحدات الوطنية في كل بلد عربي، إذ حينما تضعف الهوية العربية فإن بدائلها ليست هويات وطنية موحدة للشعوب، بل انقسامات حادة تفرخ حروبا أهلية من شأنها أن تأكل الأخضر واليابس معا. إن «الكل العربي» مكون أصلا من «أجزاء» مترابطة ومتكاملة فالعروبة لا تلغى، ولا تتناقض، مع الانتماءات العائلية أو القبلية أو الوطنية أو الأصول الإثنية، بل تحددها في إطار علاقة الجزء بالكل.
المبحث الثالث: الانتماء للعروبة
إنّ الانتماء إلى العروبة يعني الانتماء إلى أمّة واحدة من حيث تكامل عناصر الأمَّة فيها: لغة وثقافة واحدة لشعوب ذات تاريخ مشترك على أرض مشتركة ولها مصائر ومصالح مشتركة قد تعبّر مستقبلاً عن نفسها بشكلٍ من أشكال التكامل أو الاتّحاد بين بلدانها. إنّ الهويّة العربية هي دائرة تتّسع، في تعريفها ل”العربي”، لتشمل كل من يندمج في الثقافة العربية بغضّ النظر عن أصوله العرقية أو الإثنية. إنّ العروبة هي تعبير عن الانتماء إلى أمّة لها خصائص تختلف عن القوميات والأمم الأخرى حتّى في دائرة العالم الإسلامي
. إنّ “الهويّة الثقافية العربية” كانت موجودةً كلغة وثقافة قبل وجود الدعوة الإسلامية، لكنّها كانت محصورةً بالقبائل العربية وبمواقع جغرافية محدّدة .. بينما العروبة – كهويّة انتماء حضاري ثقافي- بدأت مع ظهور الإسلام ومع ارتباط اللغة العربية بالقرآن الكريم وبنشر الدعوة بواسطة روّاد عرب .. هكذا أصبحت “العروبة الحضارية” هي الثقافة العربية ذات المضمون الحضاري الذي أخرج الثقافة العربية من الدائرتين: العرقية والجغرافية إلى الأفق الحضاري الواسع الذي اشترك في صيانته ونشره مسيحيون عرب ومسلمون من غير العرب، وبالتّالي خرجت الهويّة الثقافية العربية من دائرة العنصر القبلي أو الإثني، ومن محدوديّة البقعة الجغرافية (شبه الجزيرة العربية) إلى دائرة تتّسع في تعريفها ل”العربي”، لتشمل كل من يندمج في الثقافة العربية بغضّ النظر عن أصوله العرقية. ودخل في هذا التعريف معظم من هم عربٌ الآن ولم يأتوا من أصول عربية من حيث الدم أو العرق أو النسب.
إنّ “القومية” هي تعبير يرتبط بمسألة الهويّة لجماعات وأوطان وأمم، وهي تحمل سمات ومضامين ثقافية تميّز جماعة أو أمّة عن أخرى، لكنّها (أي القومية) لا تعني نهجاً سياسياً أو نظاماً للحكم أو مضموناً عَقَديّاً/أيديولوجياً. لذلك من الخطأ مثلاً الحديث عن “فكر قومي” مقابل “فكر ديني”، بل يتوجب القول “فكر علماني” مقابل “فكر ديني”، تماماً كالمقابلة بين “فكر محافظ” و”فكر ليبرالي”، و”فكر اشتراكي” مقابل “فكر رأسمالي”.. وكلّها عناوين لمسائل ترتبط بنمط فكري وسياسي تصلح الدعوة إليه في أيِّ بلدٍ أو أمّة، في حين يجب أن يختصّ تعبير “الفكر القومي” فقط بمسألة الهويّة كإطار أو كوعاء ثقافي. ولذلك أيضاً، يكون تعبير “العروبة” هو الأدقّ والأشمل حتّى تبقى مسألة الهويّة الثقافية المشتركة بين كل العرب (بغض النظر عن اصولهم) منفصلة عن مفاهيم التعصّب القومي، خاصة في ظل وجود عرب من أصول ثقافية إثنية غير عربية.
إنّ الدعوة إلى العروبة هي دعوة فكرية وثقافية، والانتماء إلى العروبة يعني التسليم بالانتماء إلى أمَّة واحدة يمكن أن تُعبّر عن نفسها بشكلٍ من أشكال التكامل والاتحاد بين أبنائها.. وهي رغم توفّر عناصر تكوين الأمَّة فيها، فإنّها لم تصل بعد إلى حالة الانتماء إلى كيان سياسي موحّد، ولم يحصل ذلك تاريخياً من قبل على أساس مرجعية العروبة فقط. وذلك يعني أنّ “العروبة” في الجانب السياسي ما زالت “مشروعاً قيْدَ التنفيذ”،
وإن كانت “العروبة” قائمةً ومحققّة في الجانب الثقافي على مرّ قرونٍ من الزمن. وهذا الأمر هو الذي سبّب الخلط الخاطئ بين العروبة كهويّة ثقافية مشتركة بين كلّ العرب، وبين الممارسات السياسية باسم “العروبة” أو “القومية”، والتي كان بعضها سلبياً، فجرى رفض ما هو “ثقافي مشترك” بسبب الخلافات السياسية أو لبعض الممارسات السيّئة باسم القومية العربية. وللوصول إلى مشروع الكيان الواحد أو الاتحادي تتوجّب حتماً الأساليب المرحلية المتعدّدة، شرط قيامها جميعاً على أساس ديمقراطي في الداخل وسلمي حواري في العلاقة مع الطرف العربي الآخر. إن القومية تعبير يرتبط بمسألة الهوية لجماعات وأوطان وأمم، وتحمل سمات ومضامين ثقافية تميز جماعة أو أمة عن أخرى، ولكنها (أي القومية) لا تعنى نهجا سياسيا أو نظاما للحكم أو مضمونا عقديا/أيديولوجيا ولذلك من الخطأ مثلا الحديث عن «فكر قومي» مقابل «فكر ديني»، بل يمكن القول «فكر علماني» مقابل «فكر ديني»، تماما كالمقابلة بين «فكر محافظ» و«فكر ليبرالي»، و«فكر اشتراكي» مقابل «فكر رأسمالي».. وكلها عناوين لمسائل ترتبط بنمط فكرى وسياسي تصلح الدعوة إليه في أي بلد أو أمة، في حين يجب أن يختص تعبير «الفكر القومي» فقط بمسألة الهوية كإطار أو كوعاء ثقافي ولذلك أيضا، يكون تعبير «العروبة» هو الأدق والأشمل حينما يتم الحديث عن القومية العربية حتى لا تختلط مسألة الهوية الثقافية المشتركة بين العرب بقضايا المناهج والأيديولوجيات المتنوعة داخل الفكر العربي ووسط المفكرين العرب.
إن الشخص العربي هو الإنسان المنتمي للثقافة العربية أو لأصول ثقافية عربية فالهوية العربية لا ترتبط بعرق أو دين، ولا بموقف سياسي أو منظور أيديولوجي. والعروبة تعبير عن الانتماء إلى أمة لها خصائص تختلف عن القوميات والأمم الأخرى حتى في دائرة العالم الإسلامي فالانتماء إلى العروبة يعنى الانتماء إلى أمة واحدة قد تعبر مستقبلا عن نفسها بشكل من أشكال التكامل أو الاتحاد بين بلدانها.
المبحث الرابع : الهوية الثقافية العربية
إن «الهوية الثقافية العربية»، لغة وثقافة، سبقت وجود الدعوة الإسلامية قبل 15 قرنا من الزمن، ولكنها كانت محصورة فى القبائل العربية فى شبه الجزيرة العربية، وفى الأصول العرقية للقبائل، وفى مواقع جغرافية محددة.. بينما العروبة ــ هوية انتماء حضارى ثقافى ــ بدأت مع ظهور الإسلام ومع ارتباط اللغة العربية بالقرآن الكريم وبنشر الدعوة بوساطة رواد عرب
فهكذا أصبحت «العروبة الحضارية» هى الثقافة العربية ذات المضمون الحضارى الذى أخرج الثقافة العربية من الدائرتين: العرقية والجغرافية إلى الأفق الحضاري الواسع الذى اشترك فى صيانته ونشره مسيحيون عرب ومسلمون من غير العرب، وبذلك خرجت الهوية الثقافية العربية من دائرة العنصر القبلى أو الإثنى، ومن محدودية البقعة الجغرافية (شبه الجزيرة العربية) إلى دائرة تتسع فى تعريفها لـ«العربى»، لتشمل كل من يندمج فى الثقافة العربية بغض النظر عن أصوله الإثنية. ودخل فى هذا التعريف معظم من هم عرب الآن ولم يأتوا من أصول عربية من ناحية الدم أو العرق. ويؤكد هذا الأمر تاريخ العرب القديم والحديث من ناحية احتساب الأقليات الدينية فى المنطقة العربية نفسها جزءا من الحضارة الإسلامية، ومن ناحية تفاعل الأقليات الإثنية (الإسلامية والمسيحية) مع الثقافة العربية باحتسابها ثقافة حاضنة لتعددية الأديان والأعراق.
فعسى أن نشهد قريبا ولادة حراك عربى جاد يحرص على الهوية الثقافية العربية ومضمونها الحضارى، وينطلق من أرضية عربية ووطنية مشتركة تعتمد مفهوم المواطنة لا الانتماء الطائفى أو المذهبى أو الأصول الإثنية، وتستهدف الوصول ــ بأساليب ديمقراطية لا عنفية ــ إلى «اتحاد عربى ديمقراطى» حر من التدخل الأجنبى، وتتساوى فيه حقوق الأوطان وواجباتها كما تتساوى فى كل منها حقوق كل المواطنين. هل هناك حاجة ملحة للحديث عن “العروبة”. في الواقع أنه “عند لحظات التحدي الكبرى، عندما يقف الوطن العربي أمام الأسئلة المصيرية والجوهرية، قد يكون مطلوبًا العودة للبديهيات، حيث المربع رقم واحد، لأن الحقائق القديمة تظل دائمًا وأبدًا قادرة على إثارة الدهشة ([1]). والحقيقة الأولى تبدأ بمحاولة البحث عن الجوهر القومي الذي تستند إليه أمة العرب”.
إن منطقتنا العربية تضم الكثير من مصادر القوة. فبجانب موقعها الاستراتيجي الاستثنائي، وامتلاكها لأهم مخزون لمصادر الطاقة في العالم، فضلاً عن مواردها المادية الطبيعية والبشرية، بالإضافة إلى رصيدها المعنوي باعتبارها مهد الديانات السماوية الثلاث، إضافة إلى رابطة ولاء قومي واحد وهي رابطة العروبة، الناجمة عن شعور شعوب هذه المنطقة بالانتساب والانتماء إلى كيان جماعي واحد وهو الأمة العربية.
“فالوطن العربي رقعة جغرافية واسعة ازدهرت فيها حضارات تاريخية عديدة متعاقبة والسؤال المطروح هو كيف أمكن اختراق هذا العالم العربي بيسر وسهولة في مسلسل الهزائم والتحديات الوجودية والاجتماعية، فانكشف الغطاء عن عالم عربي يتفتت ويبحث بائسًا عن جذوره وهويته وعن طريقه ومستقبله” ([2)
والمخططات التي وضعت لمحاربة الانتماء العروبي خلال القرن العشرين كله، مازالت مستمرة حتى الآن، وانتقلت من التنظير إلى التطبيق الذي لا يحتاج لجهد كبير لتبيانه، من ذلك ما كتبه فؤاد عجمي في مقاله الشهير “نهاية العروبة” (The End of Pan-Arabism) والمنشور في “Foreign Affairs” (عدد شتاء 1978–1979) والتي تضمنت قوله “إن ثمة فكرة سيطرت على الوعي السياسي للعرب المعاصرين تقترب الآن من نهايتها، إذا لم تكن قد أصبحت بالفعل من ضمن مخلفات الماضي، تلك أسطورة العروبة، وأن شمولية العروبة مستقاة إلى حد كبير بين شمولية الإمبراطورية العثمانية، التي ظلت الدول العربية جزءًا منها على امتداد أربعة قرون، وقد آن الأوان للعرب أن يشيعوا جنازة العروبة”.
وبدوره ألم يقل مناحم بيجين في مذكراته “التمرد”: “حتى ولو أقمنا معاهدة سلام مع دولة عربية أو أكثر فإن هذا لا ينهي رسالتنا الأساسية ألا وهي إنهاء حضارة العرب وإقامة حضارة اليهود” ([3) وعسى أن نستفيق لحجم الكارثة القومية الناجمة عن “سفر الخروج” عن مسار العروبة والتزاماتها، ومتسائلين هل يستطيع العرب استنهاض انتمائهم القومي العروبي؟ وهل استنفذت العروبة معظم رصيدها الشعبي، أم ما زال من الممكن تنشيط وإثارة الوعي بها؟
المبحث الخامس : الهوية الثقافية العربية
إنّ “الهويّة الثقافية العربية” كانت موجودةً كلغة وثقافة قبل وجود الدعوة الإسلامية، لكنّها كانت محصورةً بالقبائل العربية وبمواقع جغرافية محدّدة .. بينما العروبة – كهويّة انتماء حضاري ثقافي- بدأت مع ظهور الإسلام ومع ارتباط اللغة العربية بالقرآن الكريم وبنشر الدعوة بواسطة روّاد عرب. فهكذا أصبحت “العروبة الحضارية” هي الثقافة العربية ذات المضمون الحضاري الذي أخرج الثقافة العربية من الدائرتين: العرقية والجغرافية إلى الأفق الحضاري الواسع الذي اشترك في صيانته ونشره مسيحيون عرب ومسلمون من غير العرب. ودخل في هذا التعريف معظم من هم عربٌ الآن ولم يأتوا من أصول عربية من حيث الدّم أو العرق أو النّسب.
وصحيحٌ أنّ هناك خصوصياتٍ يتّصف بها كلُّ بلد عربي، لكن هناك أيضًا أزمات يشترك فيها كل العرب أو تنعكس آثارها على عموم أقطار الأمَّة العربية، وهي مشاكل وأزمات تؤثّر سلبًا على الخصوصيات الوطنية وعلى مصائر شعوبها. لذلك هناك حاجةٌ ماسَّة الآن للانطلاق من رؤية عربية مشتركة لما يحدث في الأمّة العربية وعدم الانشداد فقط للهموم الخاصّة بكلّ بلدٍ عربي، لكن “الرؤية العربية المشتركة” تتطلّب أولًا التسليم بوجود “هُويّة عربية” مشتركة وبحسم المفاهيم الخاصة بها وبعلاقتها مع كل من “الهُويتين” الدينية والوطنية. ولعلّ أبرز المراجعات المطلوبة عربياً في هذه المرحلة ترتبط بمسألة ضعف الهويّة الوطنية الجامعة وغلبة الانتماءات الفئوية الأخرى. ففي هذه الظاهرة السائدة حالياً في أكثر من بلد عربي خلاصة لما هو قائم من مزيج سلبيات أخرى عديدة.
إنَّ ضعف الهويّة الوطنية لصالح هيمنة انتماءات ضيّقة يعني ضعفاً في البناء الدستوري والسياسي الداخلي. ويعني تسليماً من “المواطن” بأنَّ “الوطن” ليس لكلِّ المواطنين، وبأنّ “الوطن” هو ساحة صراع على مغانم فيه، لذلك يأخذ الانتماء إلى طائفة أو مذهب أو قبيلة بُعداً أكثر حصانة وقوّة من الانتماء الوطني الواحد، كما يصبح الانتماء الفئوي وسيلة يتمّ استخدامها للحفاظ على مكاسب سياسية أو شخصية أو لانتزاعها من أيدي آخرين.
كذلك، فإنّ ضعف الهويّة الوطنية قد يكون هو المدخل للتدخّل الخارجي، بل وللاحتلال أحياناً، حيث تتحوّل أولوية الانتماءات الضيّقة إلى مبرّرات تقتضي التعامل مع أي جهة خارجية من أجل مواجهة الانتماءات الأخرى في الوطن الواحد!.
إنّ ضعف الهويّة الوطنية المشتركة هو تعبيرٌ أيضاً عن فهمٍ خاطئ للانتماءات الأخرى. فالاعتقاد بمذاهب دينية مختلفة، أو الاعتزاز بأصول إثنية أو قبلية، هو ظاهرة طبيعية وصحّية في مجتمعات تقوم على التعدّدية وعلى الاختلاف القائم في البشر والطبيعة. لكن تحوّل هذا الاختلاف إلى خلاف عنفي وصراعات سياسية دموية يعني تناقضاً وتصادماً مع الحكمة في الاختلاف والتعدّد، فيكون المعيار هو محاسبة الآخرين على ما وُلدوا به وعليه، وليس على أعمالهم وأفكارهم. وهذا بحدِّ ذاته مخالف للشرائع الدينية والدنيوية كلّها.
إنّ تراجع “الهُويّة العربية المشتركة” يؤدّي إلى تفكّك مفهوم “الهُويّة الوطنية” وإلى طغيان التسميات الطائفية والمذهبية والإثنية على المجتمعات العربية. وفي هذا الأمر تكمن مخاطر الانفجار الداخلي في كلّ بلدٍ عربي، وبذا تصبح “العروبة” لا مجرّد أساس لبناء مستقبل عربي أفضل، بل أيضاً سياجاً ثقافياً واجتماعياً ضدّ التدخّل الأجنبي، ولحماية الوحدات الوطنية في كلّ بلد عربي. وحينما تضعف الهُويّة العربية، فإنّ بدائلها ليست هُويّات وطنية موحّدة للشعوب، بل انقسامات حادّة تولِّد حروباً أهلية من شأنها أن تأكل الأخضر واليابس معاً.
حيث يطرح نفسه شاهدًا على الحالة العربية والمخاطر التي تتهددها. ويتمثل هذا المؤشر على نحو أو آخر في موقف الشعب العربي من الثورات العربية من بداية انطلاقتها وحتى اللحظة الراهنة، حيث تمثل هذا الموقف على شكل حالة تعاطف ومساندة ودعم وتجاوب مع تطلعاتها الوطنية في التحرير وإقامة دول حرة ديمقراطية لها سيادتها. وتتعاظم هذه الحالة في أعقاب المشهد الدموي الذي أعقب الثورة السورية، وكأن هذه الحالة تحولت إلى بداية التاريخ في إقامة الدول العربية الحرة، وفي تحول الجماهير العربية إلى كتلة تاريخية تعد العدة لاتخاذ قرارها الحاسم بشأن الفرقة العربية، وتردي الوضع العربي غير أن البقية الباقية من المؤشرات سالف الذكر أي تبعاته واستمراريته، مثل حالة معاكسة. ففي الوقت الذي تعاظم فيه عدوان الأنظمة الأمنية القمعية القاتلة، انحسرت المساندة العربية الشعبية، ولفت الشارع العربي حالة من اللامبالاة والهامشية ويمكن وصفها بالخطورة، أو أنها إنذار للوجود العربي برمته، لأن الأمة التي لا تملك المبادرة التاريخية في السيطرة على أحداثها، وتسوقها بالاتجاه الذي يخدم مصيرها ويحقق مصالحها وينصرها على أعدائها، فإن وجودها يصبح عرضة للخطر والزوال.
ويتساند المؤشر الأساس السالف توصيفه مع مؤشرات أخرى، مثل الحرب في اليمن، والعراق، وليبيا وغيرها. والحروب الأخرى الصامتة الموجودة في كثير من العواصم والمدن العربية والمتمثلة في الغش المتبادل بين أبناء الوطن الواحد، والكره القابع في النفوس والذي يتجلى في تعابير وممارسات كثيرة، حتى إذا وقف أمامها علم المستقبل متفحصًا فإنه يجد فيها من الدلالات المخيفة بما ينذر بالخطر.
وهناك الخوف القائم بين أبناء الحي الواحد، والمدرسة والنادي، والجمعيات الأهلية، والحكومية بفعل طغيان الرقابة الأمنية على الإنسان العربي. هذا بالإضافة إلى الدروس الخصوصية التي تنهب الملايين من الأسر والعائلات، وتقر بشكل أو آخر أن دور المدرسة بات يدور في حلقة مفرغة. ثم البطالة التي تضرب الوطن العربي طولًا وعرضًا، تجد الآلاف المؤلفة من الشباب، ومنهم أصحاب الشهادات الجامعية، عاطلة عن العمل، ولا حول ولا قوة على الإطلاق، لأن أبواب العمل سدت أمامهم
كما أن ثروات الوطن العربي صارت لغيره بفعل الابتزاز والفساد، حيث لم تعد مؤسسة أو جهة حكومية إلا وقد نخر بنيانها الفساد. كما أن الرشوة استفحلت في الكثير من البنى العربية، حتى صار المواطن العربي الذي لا يجد “ظهرًا” يستند إليه، من أهل “الحظي” ولم يعد الرجل المناسب يوضع في المكان المناسب.
على هذا الأساس لا غيره نسأل ونتساءل عن الملامح العربية ومعالمها الأساس والمتمثلة في شكل الرأس، ولون البشرة، والأنف، والفم، والقامة، والجبهة.. الخ.. فنجد أن هذه المعالم إلى زوال. بل أنها أصبحت “خلطة” من ملامح عربية وإندونيسية، وهندية وإيرانية. ثم نسأل ونتساءل عن مصير الثقافة العربية أي قيمها وأعرافها، وتقاليدها، ومعاييرها وأخلاقها، نجد أن العرب صار لهم ولاءات مذهبية أو عرقية تتفوق على نزعتهم وعصبتيهم الوطنية والقومية. ولا شك أن هذه الثقافة ستتحول إلى خليط قيمي على حد تعبير س. ت. أليوت الشاعر الإنكليزي، وتقاليدي يؤثر على عقول الناس، وعلى وعيهم الوطني والقومي، ويدخلهم في ولاءات ونزعات بمثابة قنابل موقوتة.
تظل سورية والعراق، على الضفة الشرقية للوطن العربي، تحملان أثقال موقعهما مرة، وعمقهما التاريخي مرة ثانية، وكونهما شكّلا فلتة حضارية معاصرة مرة ثالثة، نقول يظلان جزءًا من المشهد الحالي للوطن العربي يحمل أثقال الحرب والخلافات العربية – العربية، والتنافس الدولي – الدولي، والإقليمي – الإقليمي، إلى أن يهتدي الوطن العربي إلى حل لانشقاقاته.
ثمة مؤشر آخر عن مشهد عربي ينذر بالخطر، ويعلن عن حقائقه المرة، إذا لم يتدارك العرب وضعهم الراهن ويسعون إلى تغير مشهدهم الحالي، يتمثل في سلبية الإنسان العربي تجاه مصيره، وحياديته تجاه التحديات التي تهدد وجوده. وانصرافه إلى قضايا ثانوية لا تشبع ولا تغني عن جوع. وتشدده في إشباع غرائزه بعد أن سدت الأبواب أمام حوافزه وتطلعاته السياسية القومية، واحتوته مخاوف الحاكم على كرسيه، وأمن سلطته.
الملاحظ أن هذا المؤشر له مفارقته التي تملك دلالات تاريخية وطنية وقومية كثيرة، والتي تقول إن الجماهير العربية التي كانت تستشعر أحداثها وقضاياها المصيرية في عقدي الخمسينات والستينات من الألفية الثالثة، كانت تنزل إلى الشارع بناء على استيعابها الحدث الوطني والقومي، ولأنها أيضًا متفهمة لأبعاده ومخاطره، ومدركة بعقلانية لقواه وفعالياته. تسبقه وتتخذ الموقف المناسب تجاهه. لذلك أجهضت الأحلاف وحققت الاستقلال، وناصرت مصر ضد العدوان الثلاثي. ووقفت إلى جانب الثورة الجزائرية. الخ…
إذًا، المشهد السابق للوطن العربي، حمّال للخطر، اعتمادًا على مؤشراته ودلالاته، ولذلك فإن على قواه الحية المتمثلة في كتلته التاريخية التي تجلت في أكثر من مرحلة وتدارك هذا الوضع الصعب، والعمل على تعديله ببناء مشهد بديل لا وجود فيه للمؤشرات السالفة الذكر، واجتثاث كل عوامل وجودها، ووقف استمرارها وتأثيرها على الحق العربي، وأن يؤسس لحالة عربية تقبل فيها الفرقة والانشقاقات العربية، وتقوم على التعددية السياسية، وتستريح على مستوى رفيع ومتقدم من السلامة والسيادة الوطنية والقومية، وتستطلع في المشهد البديل مدرسة عربية تقدم العلم والمعرفة للأجيال القادمة، وتزرع فيهم الثقة وحب الوطن، والإبداع لأن الألفية الثالثة لم تعد تقبل المدرسة التي لا توفر للإبداع كل مقوماته، وتتكاثر فيه، أي المشهد البديل، كل فرص وضع الرجل المناسب في المكان المناسب وتكافؤ الفرص، والعدالة الاجتماعية التي تجعل أبناء الوطن العربي سواسية في الحقوق والواجبات، وتلغي امتيازات النخب. وإحلال إعلام شعبي مواز للإعلام الرسمي ورفع الوصاية والإنابة عن الشعب العربي، وإطلاق روح المبادرة التاريخية فيه لأن روح المبادرة الشعبية حققت الكثير من المعجزات العربية.
الخلاصة، فإن المفارقة بين المشهد العربي الراهن والمشهد العربي البديل تعلن بكل مباشرة وصراحة أن الوطن العربي في خطر. وأن وجوده تهدده التحديات من كل جانب. على الشعوب العربية على اختلاف فئاتها وقواها الاجتماعية وسلطها السياسة، سرعة المبادرة من أجل احتواء الواقع الراهن وتجاوزه، قبل أن يفوت أوان العرب، ويعيدهم التاريخ إلى الوراء ويصبحون من العرب البائدة في الألفية الثالثة.
المبحث السابع : الإسلام والعروبة
بخلاف الفكرة القوميّة، لا يقدّم الدين حلاًّ مرضياً لموضوع “الدولة لكلّ مواطنيها”. ولا تُجْدي محاولات الحركات الإسلامية تسييس الدين، وتحويل العقيدة الدينية إلى هويّة وانتماء أشبه بالقومية؛ إذ إنّ ذلك يهدّد بأن يخسر العرب العالمَيْن: عالم الدين بوصفه وازعا أخلاقيا وعقيدة إيمانيّة حرّة، وعالم القومية بوصفها خطابا حداثيا يسعى إلى بناء أمّة حديثة. إنّ أمّة المواطنين الحديثة في منحاها الداخلي هي دولة مجتمع مدني قائم على المواطنة، وهي في منحاها الخارجي دولة أمة أو دولة قومية.
إنّ تيّار الحركات الإسلامية الذي نادى بتميّز عقيدي للمسلمين عن سواهم كأساس للتميّز السياسي للأمّة بدل التميّز القومي للعرب – مسلمين كانوا أم غير مسلمين – ما لبث أن انتهى إلى هويّة دينيّة للعرب في مقابل هويّات قوميّة، ثم ما لبث هذا التّيار أن اعتمد على أغلبيّة دينية ديموغرافية تبرِّر هذه الهويّة، وهي أغلبية تحسب بالموْلد لا بالإيمان الفعلي؛ وهذا لا يختلف عن الصّيغة العنصريّة من القوميّة، أي أنّ الهويّة تحتسب بغضّ النّظر عن الإيمان الفعلي بالعقيدة، رغم كون هذا الإيمان المبرّر الوحيد للدعوة إلى مفهوم الأمّة الإسلاميّة القديم، أي جماعة المؤمنين بدل الجماعة القومية، كأساس لتكوين الأمّة الحديثة.
وكما لم تنجح الهويّات الوطنيّة القطرية في أن تحلّ بديلا عن القوميّة العربيّة، فهي أيضا لا تستطيع التغلّب على الإسلام السياسي رغم تشرذمه في طوائف، لأنّ الهويّات الوطنية هي غالبا أقلّ شرعية منه، أو لأنها بنيت أصلا على التقسيم الطائفي المحلّي أو على سيطرة طائفة من العهد الاستعماري كما كانت الحال في العراق ولبنان.
ولهذا، فإنّ الرابطة العروبية فقط هي التي تستطيع تجاوز المجتمع المنقسم إلى ولاءات طائفية، وشمول السنّة والشّيعة والمسلمين والمسيحيّين في مواطنة متساوية موحّدة الولاء لدولة عربية الهويّة حاضنة جميع مواطنيها في مؤسّسات ديمقراطيّة وحكم رشيد.
إنّ القوميّة العربية صيرورة مستمرّة بالتوازي مع عملية بناء الدّولة العربية من خلال تفاعل بناء مع الهويّات المحلية لتجاوزها إلى هويّة عربيّة تشمل عموم المواطنين لغةً وثقافةً وانتماءً، وبهذه الصفة تصبح الهوية العربية قادرة على أن تقدّم ، حتى في كلّ دولة على حدة ، وعاءً لتأطير الخلاف السياسي في تيّارات ومواقف ومصالح عند الأغلبيّة، ومن خلال احترام حقوق غير العرب المتساوية بوصفهم مواطنين أفرادا وجماعات لها حقوق.
ففي نظر العروبة المنفتحة والإنسانيّة، من حقّ هذه الجماعات المنتمية أصولها إلى الأرض العربية، التمتّع بحقوق المواطنة الكاملة كشريكة في الوطن وإرثه الثقافي الجماعي، مع تمتعها في الوقت ذاته بخيار الاحتفاظ بهويّة ثقافية غير عربيّة موروثة أو حتّى مكتسبة، مع ما يترتّب على ذلك من حقوق التعبير الثقافي عن هذا الخيار؛ وهو ما ينطبق على حالات مثل الحالة الكردية والحالة الأمازيغية.
إنّ تعريف المسلم في عصرنا لم يعد المسلم المتديّن، بل مَن يولد مسلما أو يصبح مسلما، بمعنى الانتماء الطائفي. وهذه هي الأغلبية المقصودة عندما يتم الحديث عن أغلبية إسلامية. أمّا إذا كان المقصود بالمسلم من يعتنق الإسلام كمفهوم عقيدي، فبحكم هذا المفهوم قد تنشأ عصبية ذات صفات سلبية لا تقلّ عن سلبية العصبية القومية حين تصبح أيديولوجية تستعمل للتّجييش والتعبئة الشعبوية. وبصورة مماثلة، تتحوّل الرابطة الدينية، إذا سيّست العقيدة، إلى رابطة أيديولوجية، فيتحول المسلم بالعقيدة إلى “المسلم المؤمن”، ثم المؤمن بتفسير معيّن للإسلام، الأمر الذي ينتهي بالتأكيد إلى المساس بمبدأ المواطنة، إذ يُقصي حتى المسلمين الذين يعترضون على التفسير الرسمي أو السائد للعقيدة، وفي هذه الحالة يصبح التمييز الرئيس موجّها ضدّ المسلمين غير المتكيفين مع التفسير السائد للإسلام.
إن ذلك النهج يمسّ بالمواطنة فكرةً، وبالمواطنة المتساوية ممارسةً. ولن يُجديَ في التّخفيف من حقيقته المسيئة ما يرافقه من وعظ حول التّسامح وعدم جواز الافتراء على غير المسلمين والاعتداء عليهم من منطلق “لهم ما لنا وعليهم ما علينا” كـ”معاهدين”، أو أنه من الواجب حمايتهم لأنهم في ذمّة المسلمين، وأنّ هذا هو العهد لكي تبقى علاقة “نا” بـ”هم” علاقة وصاية (إذا صيغت سلبًا) أو حماية (إذا صيغت إيجابًا).
إنّ كلّ تلك العلاقات مهْما بدت إيجابية هي علاقة بين طرفيْن وليس بين مواطنين، فضلاً عن كونهما طرفين غير متكافئيْن: فأحدهما طرفٌ يملك الدولة ويمنح الحقوق والحماية والوصاية، وطرف آخر عليه قبول هذا “التسامح” بالتقدير والامتنان! وهذا مناقض لعمليّة بناء الأمّة الحديثة على أساس تَساوي المواطنين أمام القانون والديمقراطية، كما أنه مخلّ بحقوق المواطن.
المبحث السابع: (النتائج) لذلك أظهرت النتائج الاتي: –
1- إنّ ضعف الهويّة الوطنية المشتركة هو تعبيرٌ أيضاً عن فهمٍ خاطئ للانتماءات الأخرى
2- إنّ تراجع “الهُويّة العربية المشتركة” يؤدّي إلى تفكّك مفهوم “الهُويّة الوطنية” وإلى طغيان التسميات الطائفية والمذهبية والإثنية على المجتمعات العربية.
3- إنَّ ضعف الهويّة الوطنية لصالح هيمنة انتماءات ضيّقة يعني ضعفاً في البناء الدستوري والسياسي الداخلي
4- فإن المفارقة بين المشهد العربي الراهن والمشهد العربي البديل تعلن بكل مباشرة وصراحة أن الوطن العربي في خطر. وأن وجوده تهدده التحديات من كل جانب.
5- إنّ ما يميّز الحالة العربية الآن هو المخاض الثوري نحو الإصلاح الديمقراطي،
6- إنّ العروبة لم تكن حالة رومانسيّة بل كانت حاجةً عمليّة (براغماتية) ماسّة
7- فإنّ مسألة العروبة هي قضية معاصرة عنوانها كيفيّة المحافظة على الهويّة الوطنية الواحدة المشتركة، في مقابل محاولات الفرز الطائفي والمذهبي والاثني داخل الأوطان العربية.
ملاحظات ختامية
لا ندعي أن دراسة واحدة كافية لتغطية هذا الموضوع المتشابك والمتعدد الأبعاد، ولكننا نعتبرها كمدخل أو زيارة جديدة لاكتشاف ما حدث لمفهوم العروبة، ويسمح لنا بعدد من الاستنتاجات الختامية.
1- لم يكن أحد يجرؤ وقت المد القومي العروبي على المساس به وعندما بدأ موسم الهجرة من العروبة تزايدت الهجمات عليها. نتيجة عدم وفاء العرب بالتزاماتها فقد هان العرب على العرب فاستهان بهم الآخرون.
2- ورغم جراح العروبة، وما أصابها من مخططات خارجية لإضعاف مقوماتها، نعتقد أن ما تبقى منها يبدو صامدًا رغم كافة المخططات التي استهدفتها ([35])، ونتاج تيار العروبة تراكمي، وهو وإن كان قد تراجع مرحليًا، فإنه لم يختف كمقوم أساسي في الكيان العربي، ومازال يقاوم. ولا شك أن استعادة قوة الوعي به سيأخذ وقتًا ليس بالقصير. والمهم المثابرة على الهدف والإيمان به والإحساس بالمسئولية القومية.
3- وتظهر التجربة التاريخية أن النهوض بالشعوب يستدعي أول ما يستدعي المراهنة على القوى المعنوية وإشراك جميع الشعوب في المسئولية وفي صياغة مستقبلها. ومازالت العروبة، رغم كل العقبات تتمتع في الوجدان الشعبي برصيد عفوي لم ينفذ بعد، ولا يخضع لقرار أو لمرسوم حكومي يتحكم فيه أو يطوعه حسب الظروف.
4- وأخيراً فإن ثمة ميدانًا سار فيه العمل العربي المشترك في السنوات الأخيرة سيرًا متثاقلاً رغم أهميته، ونعني به العناية بغرس الاتجاهات العربية القومية لدى الناشئة منذ نعومة الأظفار وفي المراحل المختلفة ([36)
إذ يلاحظ غياب سياسة ثقافية قومية تقوم على ترسيخ قيم الكرامة الذاتية والاعتزاز بالتراث الحضاري العربي المشترك، والتواصل بين الشعوب العربية، بما يعزز الشعور بالعمق التاريخي والاستراتيجي العربيين، ويدعم الشعور بالقدرة على رد التحدي والتحكم بالمصير المشترك ([37).
ومن هنا تجئ أهمية القرار الذي تبنته القمة العربية الـ 29 بتاريخ 15/4/2018 في الظهران بالتوافق حول قمة عربية ثقافية والتي تأمل في حالة انعقادها أن يتضمن جدول أعمالها بندًا يتعلق بإعادة الاعتبار لمفهوم “العروبة” المستنيرة،
وأن تسهم هذه القمة في التمهيد لإخراج أمتنا من حالة “النوم الحضاري” الراهنة وتجديد المشروع النهضوي العربي، وإبراز دور عناصر الثقافة العربية المشتركة في تعزيز التقارب بين الشعوب العربية ([38).
ولعلنا نتذكر هنا “فضل المشترك الثقافي” على النظام العربي فبعض المفكرين العرب يرون أنه أفضى مباشرة إلى نماذج من التفاعلات الثقافية الكثيفة التي تمثل “بنية ثقافية” للنظام وتارة أخرى يعزز تماسك النظام بما يفضي إليه من تفاعلات اقتصادية كالحركة العمالية العربية العابرة للحدود مثلا ومردها اللغة المشتركة” والتي ساعدت على تعزيز تماسكه السياسي. فالنظام العربي ليس في واقع الأمر سوى حقيقة ثقافية” ([39).
يجدر القول إنّه لا الديمقراطية ولا القومية العربية ماهيات أو جواهر ذات وجود موضوعي وحتمي كما الظواهر المادية أو الطبيعية الصماء، ولكنها أفعال إرادة و”مشروعات” إنسانية حية يبتدعها ويمارسها مواطنون أحرار يقومون بما تقتضيه حريتهم من مسؤولية لتجاوز معطيات الواقع المرفوض ولصنع ماهياتهم أو مشروعاتهم الفردية والمجتمعية، عن طريق الانخراط في عمليّة بناء المجتمع وإعلاء شأن الأمّة، واستقبال المقبل من حياتهم والأيام ملتزمين النضال من أجل إنجاز هذه المهمة.
المبحث الثامن-المقترحات
1- أنّ معظم البلاد العربية قائمة على تعدّدية طائفية أو مذهبية أو إثنية، كما هو الحال في بلاد المشرق والمغرب معاً، أو كالتي هي الآن محور الصراعات المتفجّرة في المنطقة، حيث التحدّي الكبير مع مشاريع التمزيق والتقسيم والتدويل، وحيث المواجهة هي مع بعض هذه الحركات الدينية العُنفية التي شوَّهت في ممارساتها الدين نفسه.
2- هناك حاجةٌ وضرورة عربية الآن لإطلاق ” تيّار عروبي” فاعل يقوم على مفاهيم فكرية واضحة، لا تجد تناقضاً بين الدولة المدنية وبين دور الدين عموماً في الحياة العربية، ولا تجد تناقضاً بين العروبة وبين تعدّدية الأوطان بل تعمل لتكاملها، وبأن تقوم هذه المفاهيم الفكرية على الممارسة الديمقراطية في المجتمع ككل.
3- هناك حاجة إلى” تيّار عروبي” يقوم على التكامل بين الطاقات والقوى الفاعلة وسطه، تيّار يرفض استخدام العنف لإحداث التغيير في الحكومات والمجتمعات أو لتحقيق دعوته أو في علاقاته مع الآخرين، تيّار يميِّز بين الحقّ المشروع لأبناء الأوطان المحتلَّة بالمقاومة ضدّ قوات الاحتلال، وبين باطل استخدام أسلوب العنف ضدّ غير المحتلّين وخارج الأراضي المحتلّة. “تيّار عروبي” يدعو للبناء السليم للمؤسّسات العربية المشتركة، وللمنظّمات المدنية المبنية على أسلوب العمل الجماعي الخادم لهدف وجودها. “تيّار عروبي” تكون أولويته الآن هي حماية الوحدة الوطنية في كلّ بلدٍ عربي، ويرفض كل الأفكار والممارسات الطائفية والمذهبية وأي انغماس في وحل الصراعات الأهلية.
4- ولعلّ أبرز المراجعات المطلوبة عربياً في هذه المرحلة هي مسألة ضعف الهويّة الوطنية الجامعة وغلبة الانتماءات الفئوية الأخرى. ففي هذه الظاهرة السائدة حالياً في أكثر من بلدٍ عربي خلاصة لما هو قائم من مزيج سلبيات أخرى عديدة.
5- إنّ الأمّة العربية قامت على العلاقة التفاعلية الإيجابية بين الإيمان الديني والهُويّة العربية والانتماء الوطني، ولم ينجح أي تيّار فكري فيها استبعد عنصراً من هذه العناصر الثلاثة في تكوينها التاريخي. لذلك، فإنّ تصحيح المفاهيم والممارسات الخاطئة باسم الدين والعروبة والوطنية، والتمسّك بالهويّة العربية، هي ركائز لأي عمل عربي جاد يستهدف بناء مستقبلٍ أفضل.
المبحث التاسع -(الخاتمة )
وفي الختام، وإجابة على السؤال الذي طرحناه في عنوان هذا البحث وهو “هل يستطيع الوطن العربي استنهاض مصادر قوته ؟”من خلال عروبته، نقول: نعم، لو حسنت النوايا وصدقت العزيمة، والتصميم على إنقاذ الوطن العربي من السقوط إلى الهاوية، بالتقيد بالتزامات العروبة التزامًا صادقًا، قولاً وعملاً، لاسيما والوطن العربي أصبح يواجه تحديات وجودية مصيرية أن نكون أو لا نكون. واستعادة الوعي بالعامل القومي العروبي يأتي في مقدمة العناصر لإخراج الأمة العربية من مأزقها الراهن. ولنتذكر معًا أن الهوية قد يضعف الإحساس بها أحيانا ولكنها لا تموت. العروبة ليست نظاماً سياسياً قابلاً للتطور وفق تطور الزمان وتغير المكان، كما أن العروبة ليست نظرية فلسفية قابلة للتنظير والتطوير كما يحلو للبعض أن يتخيلها، إنما العروبة نبت إنساني شامخ، مثل الشجرة الطيبة المباركة، جذورها غائرة في أعماق التاريخ، فقد سقاه سيدنا إبراهيم الخليل بداية من أرض العراق، فكانت شجرة مورقة أفاءت بظلها الظليل الوطن العربي جنوباً حتى أقاصي شبه الجزيرة العربية، وغرباً حتى المحيط الأطلسي، وليس كل من تكلم العربية هو عربي إذا كان فاقد الإحساس بانتمائه لوطنه العربي، فالعروبة هي شعور وإحساس بالانتماء لهذا الوطن العربي كله، من دون تفريط في أي شبر من أراضيه مهما طال الزمن وتقلبت الأقدار.
إن هذا الشعور بالانتماء للوطن الكبير هو العروبة، وإن الإخلاص والتفاني للحفاظ على سلامة كل شبر من أراضيه هما الوطنية الحقة، وهذه أمور لا تتغير مع تغير الزمن وتقلبات البشر، فمن فقد ذلك الشعور فهو ليس عربياً، حتى لو ولد على أرض هذا الوطن العربي، ومن لديه هذا الشعور فهو العربي الحق، وإن لم يولد على أرض الوطن العربي. وليس كل من يتكلم اللغة العربية، وهو يفتقد لهذا الشعور، يكون عربياً.
إنني أكتب هذا لأذكر البعض بهذه الحقيقة المهمة، وهم جذلى بما أفاء الله به عليهم من خيرات هذا الجزء من الوطن العربي، وإن هؤلاء البعض راحوا يبررون لأنفسهم ضعفهم في مواجهة المد الصهيوني الذي يسعى لطمس هويتنا العربية، وإشغالنا بحروب داخلية بينية لتمزيق وحدة الصف في وطننا العربي، وتزييف حتى مسمى عروبتنا عن طريق ابتكار نظريات من نسج أفكارهم.
فمن الواجب علينا أن ننبه إلى أن هناك أموراً لا تتغير مهما تغير الزمان، لأنها هي العمود الفقري لحياة البشر، ومتى صار الحق باطلاً، والباطل حقاً في زمن ما، فإن ذلك يعد إيذاناً بزوال الإنسان.
إن المبادئ الراسخة لا يمكن أن تتغير وفق متطلبات الزمان، فالزمن يجب أن يسير جنباً إلى جنب بحركة متوازية مع المبادئ الراسخة التي أرسلتها لنا الديانات السماوية السمحة بما جاء فيها من مصابيح الهدى والعدل والإنصاف والحفاظ على الحقوق وأداء الواجبات نحو الله والوطن والبشر.
إن العمل على توحيد صفوف الشعوب العربية وتصفية خلافات بعض دولها واجب تفرضه عروبتنا علينا، لنبقى أقوياء في مواجهة الاستعمار، والصهيونية العالمية، بينما التفكك والانعزالية واستمرار الخلافات هي معاول هدم لنا وليست تطويراً لعروبتنا، كما أن دخول كل قطر عربي ضمن حلف ضد قطر عربي آخر بحجة حماية مصالحه إنما هو عمل ضد العروبة، وحتماً سيرتد أثره على الأمة العربية بما يضعفها، ويبتلع القطر المتحالف ضد العروبة.
إن الولايات المتحدة الأميركية كانت في ما مضي دويلات ثم اتحدت مع بعضها، لتكون كل منها ولاية في دولة حتى صارت اليوم أقوى دولة في العالم، بفضل وحدتها وقوة تماسكها، وأصبحت تشكل أضخم تكتل سياسي في العالم، على الرغم من وجود ولايات غنية بها وأخرى فقيرة، ولكنها مجتمعة تشكل أمام العالم قوة عظمى. إنَّ الأمَّة العربية هي الأمَّة الوحيدة وسط كلِّ العالم الإسلامي التي لا يصحّ التناقض فيها بين الإسلام وبين الانتماء للعروبة. فالأمَّة العربية هي الأمَّة الوحيدة التي نسج خيوطها الإسلام ولم تكن موجودة قبله، وهي تتميّز بهذا عن بقية الأمم الأخرى ولو كانت أمماً مسلمة. وبينما الإسلام هو دين وحضارة للعرب المسلمين، فإنّه حضارة وتاريخ وتراث للعرب المسيحيين. فلو أمكن للهويّة القومية بشكلٍ عام أن تتناقض مع الإسلام في أيَّة أمَّة في العالم، فهذا غير ممكن لها في الأمَّة العربية. فالعرب كانوا هم حملة رسالة الإسلام، واللغة العربية هي لغة قرآنه الكريم وحاوية معظم تراثه الفكري، بل إنّ في توحّد العرب قوّة للعالم الإسلامي كلّه.
وهذه علاقة خاصّة جداً بين الثقافة العربية والدعوة الإسلامية، تتميز بها الثقافة العربية عن غيرها من الثقافات العالمية بما في ذلك الثقافات المنضوية تحت الإسلام وحضارته. وهو حال مميِّز أيضاً للأرض العربية التي منها خرجت الرسالات السماوية كلّها والرسل جميعهم، وعليها كلّ المقدّسات الدينية، ولغة أبنائها هي اللغة العربية، لغة القرآن الكريم، والوعاء الثقافي للحضارة الإسلامية.
المبحث العاشر (المراجع)
([1]) يوسف القعيد، “عرب هنا .. وعرب هناك يعذبهم حلمهم العربي .. كيف يستعيد العرب مشروعهم القومي؟”، شؤون عربية، العدد 110، صيف 2002، ص110.
([2]) د. أحمد كمال أبو المجد، حوار لا مواجهة، كتاب العربي، العدد السابع، الكويت، 15/4/1985، ص138 وما بعدها.
([3]) يوسف القعيد، مرجع سابق، ص120.
([4]) د. سعد الدين إبراهيم، مصر تراجع نفسها، دار المستقبل العربي، القاهرة، 1983، ص196.
([5]) د. سليمان حزين، أرض العروبة: رؤية حضارية في المكان والزمان، دار الشروق، القاهرة 1993، ص19.
([6]) المرجع السابق، ص13.
([7]) جلال السيد، حقيقة الأمة العربية وعوامل حفظها وتمزقها، دار اليقظة العربية للتأليف والترجمة والنشر، بيروت، 1973، ص419. وتعود بداية تبلور مفهوم العروبة في فترة الإمبراطورية العثمانية المحتضرة، لاسيما بعد الجهود العثمانية لتتريك شعوبها ومحاولة منع استخدام اللغة العربية في الإدارة والتعليم في منطقة الشام، وقد رد السوريين على هذا التحدي بالمطالبة بقدر أكبر من الاستقلال الذاتي للولايات العربية.
([8]) الطيب سيد، “لماذا نجح المشروع القومي الصهيوني وفشل المشروع القومي العربي؟، حوار العرب، مؤسسة الفكر العربي، بيروت، العدد الثالث، فبراير 2005، ص34.
([9]) د. مجدي حماد، جامعة الدول العربية: مدخل إلى المستقبل، عالم المعرفة، الكويت، 2004، ص87 وما بعدها.
([10]) المرجع السابق.
([11]) أحمد جابر، “العروبة سؤال العرب الدائم”، مجلة حوار العرب، مؤسسة الفكر العربي، بيروت، العدد الثالث، فبراير 2005، ص4.
([12]) د. نجاح محمد، الحركة القومية العربية في سورية، الجزء الأول، دمشق، دار البعث، 1987، ص18. وانظر أـيضًا د. أنيس صايغ، تطور المفهوم القومي عند العرب، دار الطليعة، بيروت، 1960. وأيضًا د. منيف الرزاز، تطور معنى القومية، دار العلم، بيروت، 1960.
([13]) ساطع الحصري، آراء في الوطنية والقومية، محاضرات في نشوء الفكرة القومية، أبحاث مختارة، 1961- 1964، دار القدس، بدون تاريخ، ص36-37.
([14]) نجيب توفيق، عبد الله النديم خطيب الثورة العرابية، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، 1954، ص134.
([15]) د. سعد الدين إبراهيم، مرجع سابق، ص270.
([16]) جوزيف إلياس، “لغة الضاد… إلى أين؟” مجلة حوار العرب، العدد الثالث ، فبراير 2005، ص163.
([17]) ذوقان قرقوط، تطور الفكرة العربية في مصر 1805- 1936، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1972، ص2-4.
([18]) نقلاً عن نفوسة زكريا سعيد، “الفصحى واللهجات العامية وأثرها في توحيد الثقافة و×××”. في المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، مؤتمر الوحدة والتنوع في الثقافة العربية المعاصرة، القاهرة، 1972، ص104.
([19]) دكتور ناصيف نصار، تصورات الأمة المعاصرة، دراسة تحليلية لمفاهيم الأمة في الفكر العربي الحديث والمعاصر، مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، الكويت، 1986، ص541.
([20]) د. محمد السعيد إدريس، النظام الإقليمي للخليج العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2000، ص260-264.
([21]) حبيب حداد، “محنة الصراع بين الأصالة والمعاصرة في المجتمعات العربية”، المستقبل العربي، بيروت، العدد 438، أغسطس 2015، ص119.
([22]) حسين رشيد خريس، “بين العروبة والإسلام”، شؤون عربية، الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، العدد 2، إبريل1981، ص139 و 146.
([23]) د. مجدي حماد، مرجع سابق، ص113. ويضيف البعض إلى ذلك أن التيار القومي الثوري كان ينظر إلى الأمة العربية كجماعة نضال قومي ضد الإمبريالية الغربية بهدف تحقيق وحدة واستقلال هذه الأمة وتشكل نظام سياسي قومي واحد. أما التيار الإسلامي الثوري فينظر إلى هدف الأمة كطليعة لجماعة جهادية تمتد إلى العالم الإسلامي كله مهمتها هي نقل الدعوة والرسالة الإسلامية إلى العالم أجمع، ولا يهتم هذا التيار إلا عرضًا بمهمة بناء نظام سياسي إقليمي. انظر: د. محمد السيد سعيد، مستقبل النظام العربي بعد أزمة الخليج، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد 158، فبراير 1992ـ ص293.
([24]) د. أحمد كمال أبو المجد، حوار لا مواجهة: دراسات حول الإسلام والعصر، كتاب العربي السابع، سلسلة فصلية تصدرها مجلة العربي، الكويت، 15/4/1985، ص139.
([25]) محي الدين صابر، ملامح الشخصية العربية في التيار الفكري المعادي للأمة العربية، مجلة الوحدة، المجلس الأعلى للثقافة العربية، الرباط، الطبعة الأولى، 1991، ص259.
([26]) د. أحمد كمال أبو المجد، مرجع سابق، ص139.
([27]) رياض نجيب الريس، العرب وجيرانهم، رياض الريس للكتب والنشر، ب.د.ت، ص83-84.
([28]) أحمد جابر، مرجع سابق، ص43.
([29]) كمال خلف الطويل، “أباطيل شاعت”، المستقبل العربي، بيروت، العدد 438، أغسطس 2001، ص108.
([30]) د. محمد السيد سعيد، “هياكل العمل العربي المشترك: تجاوز أزمة النظام العربي”، في (النظام العربي في بيئة متغيرة، 1989).
([31]) د. محمد السيد سعيد، مستقبل النظام العربي بعد أزمة الخليج، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، فبراير 1992، ص291.
([32]) المرجع السابق، ص257-258.
([33]) منح الصلح، مصر والعروبة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1979، ص91.
([34]) د. رياض نعسان أغا، ماذا يبقى لنا إن شطبنا هوية العروبة والإسلام؟، حوار العرب، العدد 3، فبراير 2005.
([35]) يرى بعض المفكرين العرب، أن من مؤشرات ذلك يتمثل في مرور أكثر من سبعة عقود على بقاء جامعة الدول العربية، الرمز المؤسسي للنظام الإقليمي العربي، وهو في حد ذاته يعكس إقناعًا بجدوى الرابطة العربية بين الدول الأعضاء، ومن ثم جدوى الإبقاء عليها حتى ولو كان الرضا غير مكتمل. في هذا المعنى انظر: د. أحمد يوسف أحمد، “جامعة الدول العربية: حديث الستين عامًا، مجلة شئون خليجية، عدد 41، ربيع 2005، ص11.
([36]) د. عبد الله عبد الدايم، العمل العربي المشترك في مجال التربية، مجلة “شئون عربية”، يونيو 1986، ص53.
([37]) برهان غليون، نقد السياسة، الدولة والدين، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1991، ص175– 176.
([38]) زياد الدريس، “القمة العربية. هل ستصنع فارقًا”، الحياة 23/5/2018.
([39]) د. أحمد يوسف أحمد، “الوحدة الثقافية: حدودها وقيودها”، شئون عربية، العدد 141، ربيع 2010، ص56-57.