كتب /الدكتور عادل عامر
أن استثمارات الدولة في البنية التحتية أوجدت فرص عمل حقيقة لا شك في ذلك، كما فرضت مظلة حماية اجتماعية على الطبقات الأكثر احتياجاً عندما توسعت في زيادة المرتبات والأجور وتدشين برامج الدعم مثل “تكافل وكرامة” وتفعيل مبادرات الصحة و”حياة كريمة”، “لكن ألوم الحكومة على زيادة معدلات وحجم الإنفاق على الاستثمارات العامة والبنية الأساسية ومظلات الحماية الاجتماعية عبر الاستدانة من كل المؤسسات الدولية والعربية والخليجية”.
“مصلحة مصر ليست في الغرب، ولا الشرق، لكن المؤكد أن مصلحتها في إعادة تشكيل الهوية الاقتصادية، وفتح الطريق أمام الاستثمارات الأجنبية بعد تهيئة المناخ العام في القاهرة ليصبح الاقتصاد والاستثمار والتشغيل على رأس الأولويات كبديل للبنية التحتية والطرق والكباري، كما يجب على الدولة مراجعة السياسة المالية للدولة لتنصب على تحقق الشمول المالي الذي يهدر على الخزانة العامة للدولة نحو 700 مليار جنيه (38 مليار دولار) نتيجة التهرب الضريبي من الاقتصاد غير الرسمي الذي يمثل ما لا يقل عن 50 في المئة من حجم الاقتصاد المصري”.
المشكلة السكانية في مصر تمثل التحدي الأكبر للنمو، والتنمية الشاملة والمستدامة حسب إجماع الآراء من قديم. لقد راع المتخصصين في علوم المصريات من أجانب ومصريين الإنجازات الحضارية المصرية واستمرارية الحضارة على مدار آلاف السنين، أذهلتهم تلك الاستمرارية دون أن يحدث لها اندثار كما حدث لحضارة مجاورة في أرض العراق أو فينيقيا — بل وحتى في اليونان.
والأغلب أن تلك الاستمرارية المصرية قد حدثت نتيجة الاستقرار السياسي والسكاني النسبي دون أن تجتاحه جحافل الغزاة المدمرة مرارًا وتكرارًا كما حدث لغيرها من أراضي الشرق القديم. صحيح تعرضت مصر في بعض أوقات ضعفها لغزوات من الخارج، كما حدث عند غزوة الملوك الرعاة «الهكسوس»، وغزوة الفرس الطويلة، وغزوات أقصر عمرًا كالأشورية والبابلية، وموجات من الهجرات البحرية من اليونان القدماء والقبائل الغربية الليبية.
لكن هؤلاء جميعًا إما طوردوا وطردهم المصريون من مصر كالهكسوس والأشوريين والبابليين، وإما تمصروا بعد فترة من الزمن مارسوا فيها عنصريتهم على سواد المصريين كبعض الهكسوس وكل أسرة البطالمة، وإما حكموا مصر على الطريقة المصرية إداريًّا كالفرس أو الليبيين أو الرومان أو العرب قبل أو بعد الإسلام أو العثمانيين. أما الطولونيون والفاطميون والمماليك فقد مدوا جذورهم في مصر وازدهروا فيها وأصبحوا جزءًا من نسيج مصر الاجتماعي والعسكري والإداري معًا قرونًا طوال.
ومن ثم كانت هناك محاولات لمعرفة عدد سكان مصر في زمانها الطويل، وتراوحت التقديرات بين ثمانية ملايين ومليونين حسب فترات الازدهار والركود. وهذه الأعداد تمثل حجمًا غير مسبوق في تلك العصور القديمة حينما كان متوسط العمر المتوقع هو في حدود ٤٠–٤٥ سنة، وباختصار فإن عددًا حرجًا من الناس — ربما مليونين من الأنفس — يشكلون ركيزة البقاء واستمرار أشكال الحضارة والثقافة حتى في أحلك الظروف كفترة الضغط الأشوري البابلي أو فترات الاضطهاد الروماني.
ونتيجة للازدهار الاقتصادي في القرن التاسع عشر فإن عدد سكان مصر بدأ في الانتعاش برغم حروب محمد علي الكثيرة. التغير الاقتصادي باستخدام الأرض للزراعة الصيفية جنبًا إلى جنب مع الزراعة الشتوية التقليدية أدت إلى انتعاش الريف، بإدخال محاصيل صناعية على رأسها القطن الذي يكنى عنه باسم «الذهب الأبيض»، والتحول إلى الصناعات الحديثة ساهم أيضًا في الرخاء الاقتصادي الذي غمر مصر نحو سبعة عقود ثلاثة منها في نهاية القرن ١٩ نتيجة الحرب الأهلية الأمريكية وازدهار سوق القطن المصري طويل التيلة وتثبيت أقدامه عالميًّا، والعقود الأخرى في بداية القرن ٢٠ نتيجة نشأة صناعات الأقطان الحديثة وتجارتها.
ومع الازدهار والتحديث في مصر وزيادة العناية الصحية بدأ المصريون في التزايد عدديًّا بإيقاع سريع حتى وصلنا إلى ما نحن عليه من تضخم عددي. لكن التوازن كان قد اختل بين مصادر الثروة وعدد السكان، ولم نعد نرى توافقًا بين العنصرين سوى أفكار تنظيم النسل حتى يمكن إجراء ما يمكن من أنشطة اقتصادية تستوعب الناس وتنتقل بهم إلى حالة اقتصادية معقولة وإلى عصر العولمة الذي لا يستطيع شعب أن يدخله ويحافظ على كيانه دون أن يكون متقويًّا بمصادر حياتية تكفل له عيشًا بالكرامة. وفيما يأتي محاولة لفهم مشكلة مصر الأولى: السكان.
منذ سبعة عقود كان ثلاثي متاعب مصر يلخصه شعار القضاء على «الفقر والجهل والمرض». وما زالت أجزاء كبيرة من هذا الثالوت قائمة حتى الآن وإن أخذ بعضها في التضخم كالفقر أو التحول والاستشراء بدخول أمراض جديدة، بينما نحو نصف المجتمع — عمليًّا — ما زال أميًّا. أما الثلاثي الجديد: فهو عدد السكان — أو كما يقول المُغالون في الأمر: إنها القنبلة السكانية، ثم البطالة وإشكاليات الاقتصاد، وأخيرًا سلوكيات المجتمع وأساليب التعامل الفردي والجماعي، والصلة ليست منعدمة بين الثلاثي القديم والحديث، بل في الواقع إن الثلاثي الجديد قد تولد جزئيًّا من الثلاثي القديم وتطور وتضخم على عامل الزمن بما أتى به من أشكال جديدة في تكنولوجيا الحياة وأنماط الإنتاج والاستهلاك، والتغير في شرائح المجتمع على ضوء تغير مدلول القيم.
بخصوص السبب الأول المتمثل في التبعية الاقتصادية للغرب، فهو أكبر محنة نواجهها حيث يحاولون جعل المديونيات تتراكم وتتضاعف علينا. وما تحتاجه دولنا اليوم أكثر من أي زمن سبق هو إعادة تخطيط لسياستها الداخلية والخارجية بالنسبة للاقتصاد وذلك من طرف نخبة وطنية ذات باع في علم الاقتصاد حيث من مما تم وضعه من تخطيطات اقتصادية سابقة قد برهن أنه غير صالح وأرجح فشلها للواضع لها إذ أنه وجهها لما يخدم مصالحه -الغرب- علينا أن ندرك أنه لا يجب أن نستورد حلول بل يجب أن نصنع حلول لما يتوافق معنا المخططات الاقتصادية السابقة سببت شلل تام وعطلت كل الحركات التنموية ودهورة جميع المجهودات التي كان يعول عليها أن تساهم في تعافي اقتصادنا من التبعية.
كما أن الهيكلة وحدها لا تكفي للتخلص من التبعية إذ يلزم التخلص من الديون الخارجية التي تزيد من التبعيّة الاقتصادية والسياسية والتكنولوجية للدول المدينة ومن ما دونه التاريخ أنه قد تم إخضاع كثير من الدول لقرارات رغم عن نفسها كانت لصالح الدول المدينة وما يزيد الأمر سوءا هو ما يتم فرضه من رقابة وتدخلات في الشؤون الداخلية وحتى الخارجية للبلد لتمس جوانبه بما في ذلك الدين -المعتقد السائد- وقد يذهب الأمر إلى تجميد المؤسسات الحيوية للدولة والمقايضة بمشاريعها وهذا سرطان لا شفاء منه حينها.
إعادة الهيكلة والتخلص من المديونية من منظوري هو حل جذري لمشاكلنا. نعم يمكننا كسر قيد هذا الغل الذي قيدنا وجعلنا في وحل التخلف لكن يتطلب الأمر منا شجاعة وعزم فقط وتطهير الخونة. إذ أن الخونة يخافون كسر عصى الطاعة العمياء. هذه الخطوات لتتحقق على الواقع وجب التوحد الكلي ويكفي أن ننظر على سبيل المثال للاتحاد الأوروبي فتكتله جعل منه طرف ثالث منافس وخلصه من التبعية الاقتصادية للولايات المتحدة الأمريكية أن هذا التوحد خلص الدول الأوروبية من الهيمنة والتسلط الذي تحاول فرضه واشنطن تجبرا عليهم لكنها لم تستطع. ويمكننا إضافة كل من التنينات والنمور كنموذج آخر ناجح للاتحاد.
ولنقر بالحقيقة فالمقارنة بين العالم العربي والاتحاد الأوروبي أو التنينات والنمور غير متكافئة فالاتحادات الآنف ذكرها فقيرة مقارنة بنا من حيث الثروات والمواد الأولية. لو حدث وتوحدنا سيشل اقتصادهم ذلك أنهم مرتبطونا بنا. إننا نحن الحبل الصري الذي يمدهم بالحياة وإن أردنا النهوض والرجوع لعزنا توجب منا الإقدام والتشجع على التأميم الفعلي والكلي للثروات بالإضافة للسعي نحو تكوين بنية لاقتصاد مستقل غير مكبل بقيود فرضوها هم.
وبالنسبة للسبب الثاني الذي يعرقل كسرنا لقيد التبعية هو سوء التسيير ويتلخص حل الأمر في قول هتلر من كتابه كفاحي -ص 14-، “إن تحويل الشعب إلى أمة خلاقة يفترض قيام وسط اجتماعي سليم يعمل على تنشئة المواطن تنشئة وطنية فليس يستشعر الاعتزاز بالانتماء إلى بلد ما إلا من يتعلم في البيت والمدرسة حب الوطن ويقدر أمجاده في ميادين الفكر والسياسة والاقتصاد. إن الإنسان لا يناضل إلا من أجل من يحب ولا يحب إلا ما هو حرى بالتقدير والاحترام فكيف يطلب من مواطن أن يحب وطنه ويقدره وهو يجهل تاريخه ولا يشعر في كنفه بأنه ينعم بما تؤمنه الدول الأخرى لرعاياها من طمأنينة وهناء؟” أي وجب إعداد كفاءات وهذا يلزمنا لسير نحو اقتصاد قوي مستقل.