كتب / د.عادل عامر
نشر ثقافة السلم في المجتمعات يمر عبر التعريف بالوسائل و الطرق السلمية لفض الخلافات. و يكون ذلك على المستوى الداخلي بإصلاح أجهزة العدل و بناء ثقة المواطنين فيها، و تنظيم و استعادة الطرق التقليدية لحل الخلافات و النزاعات عن طريق المصالحة و الحوار و غيرهما. الحلول هنا تخفف العبء عن الأجهزة الرسمية و من جهة أخرى تكون لها نجاعة أكثر، و هي سهلة التنفيذ لكونها توفيقية. و مما يقوي فعالية هذه الوسائل السلمية استناد معظمها إلى تعاليم دينية.
رغم بعد نظر نظام الأمم المتحدة لتحقيق السلم و الأمن على المدى الطويل من خلال التنمية الاقتصادية و الاجتماعية للتقريب في مستوى المعيشة بين مختلف الشعوب، و بالتالي تفادي أسباب التوتر و اللجوء إلى العنف، بدأ المجتمع الدولي يتدارك أن السلم في حد ذاته من شروط تحقيق التنمية الاقتصادية و الاجتماعية. و السلم على المستوى الدولي مرتبط كل الارتباط بالسلم على المستوى الوطني. و من عناصر الارتقاء إلى هذا الأخير ضمان حقوق الإنسان الأساسية و الديمقراطية.
الإجماع حاصل على مستوى الفكر السياسي الديمقراطي على أن السلم ضرورة اجتماعية تضمن إقامة علاقات متوازنة فيما بين أفراد المجتمع الواحد، و تطبع التعامل فيما بين المجتمعات المختلفة خاصة و أن الجميع ينعم بحالة السلم. و خلال ما يقرب من قرن من التنظيم و تطوير النصوص القانونية للقضاء على الحروب و تحريم استعمال القوة في العلاقات فيما بين الأمم و تفادي الويلات التي تتعرض لها، لم يتم التحصيل على النتائج المرضية.
يقول أحد الكتاب أن النظام الدكتاتوري يستطيع أن يصنع الحرب حسب هواه بينما يفتقر الحكام في الأنظمة الديمقراطية إلى هذا الامتياز المرعب ، ظهور الثقافة الديمقراطية على المستوى العالمي يترجى منه بلوغ ذلك الهدف. ثقافة السلم في رأينا هي إحدى أعمدة ثقافة الديمقراطية. السلوك الديمقراطي سلوك مسالم. ينبذ العنف كيفما كان، ما عدا الدفاع الشرعي عن النفس، الذي هو من الحقوق الطبيعية، و يتخذ النقاش و الحوار و الإقناع كوسيلة للتعامل.
البعد الديني لثقافة السلم
العامل المشترك بين كل الديانات السماوية هو حثها جميعا على السلوك المسالم و إلحاحها على أنه سلوك حضاري. كما أن كل هذه الديانات لا تخلو من النصوص الحافظة للحياة و الضامنة للحرية، إبراز هذه القواعد التي تدين بها مختلف الأمم يمكن أن يشكل أساسا لإصلاح نظام الأمم المتحدة في ميدان حفظ السلم في العالم. كما أن التعاليم الدينية تدعو لإقامة علاقات حسنة مسالمة بين مختلف الشعوب.
الدين الإسلامي خاتم الأديان جامع للتعاليم الواردة في الديانات التي سبقته في مجال السلم. و هو يرادف بين السلم و المسالمة و الإسلام. فالمسلم ينطق بالسلام طوال يومه مدى الحياة. “السلام عليكم” و “عليكم السلام و رحمة الله تعالى و بركاته “، و الأمر كذلك في صلواتهم، و ذكرهم للرسل يتبع دائما ” و عليه السلام”… الخ. و من الآيات القرآنية التي يستدل بها على أن السلم من تعاليم الإسلام و واجبات المسلم “يا أيها الذين آمنوا أدخلوا في السلم كافة و لا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين “. كما يأمر القرآن الكريم بالاستجابة إلى دعوة السلام و الأمان بقوله “و إن جنحوا للسلم فأجنح لها و توكل على الله إنه هو السميع العليم “.و هكذا نخلص إلى أن تنمية ثقافة السلم و الإخاء و الوفاق هي ممارسة لشعيرة دينية.
ثقافة السلم تستدعي إقصاء العنف على المستوى الوطني عن طريق النصوص و الممارسة السياسية كل ما سبق التعرض إليه من نصوص قانونية تخص العلاقات فيما بين الأمم، التي هي ملزمة بأحكام ميثاق الأمم المتحدة على أساس العضوية في هذه المنظمة العالمية، أو على أساس القانون الدولي العرفي بالنسبة للدول الغير أعضاء. ذلك أن الإجماع حاصل فقها و قضاء على أن كل المبادئ المتعلقة بحفظ السلم و الأمن في العالم هي من قبيل القانون الدولي العرفي الآمر.
التزام الدول بتطبيق أحكام الميثاق يخص علاقاتها و لا يتعلق الأمر، من حيث المبدأ، بما قد يجري داخل الدولة من مشاكل أمنية و غيرها، و ذلك ارتكازا على نص المادة 2 فقرة 7 من ميثاق الأمم المتحدة التي تنص على أنه “ليس في هذا الميثاق ما يسوغ (للأمم المتحدة) أن تتدخل في الشؤون التي تعتبر من صميم السلطان الداخلي لدولة ما. و ليس فيه ما يقتضي الأعضاء أن يعرضوا مثل هذه المسائل لأن تحل بحكم هذا الميثاق، على أن هذا المبدأ لا يخل بتطبيق تدابير القمع الواردة في الفصل السابع“.
هذه الفقرة تضمن عدم التدخل في الاختصاص الوطني لأية دولة و تحت أي مبرر. و ذلك حفاظا على السيادة الوطنية و احتراما لمبدأ المساواة فيما بين الدول.
التطورات الأخيرة سواء على مستوى مفهوم السيادة و المساواة، أو بالنسبة لتلك الأحكام في مجال الديمقراطية و حماية حقوق الإنسان، هذه التطورات و غيرها سمحت بالتقليص من فحوى النص السابق. كما أن مجلس الأمن كثف من تدخلاته في بعض القضايا التي هي من صميم الاختصاص الوطني، و هو ما تسمح به الجملة الأخيرة من النص المذكـورة. و نخص بالذكر هنا الوضع في الصومال، وضعيات أخرى أدَّتِْ إلى تدخل تكتلات دولية أو دولة معينة بترخيص من المنظمة الدولية أو بدونه. و في كل الحالات كان السبب المعلن للتدخل هو حماية حقوق الإنسان و تفادي انفجار الوضع الذي قد يهدد السلم و الأمن، و حماية الأقليات الوطنية. و امتازت معظم حالات التدخل بضعف الحكومة الوطنية أو الانهيار التام للسلطة العامة.
في الحقيقة التزام الحفاظ على السلم له وجه داخلي وضعي. حيث أن الكثير من الدساتير تخرج قضايا إعلان الحرب و إبرام معاهدات السلم من الاختصاص الانفرادي للسلطة التنفيذية. و تكتفي دساتير أخرى بتنظيم كيفيات الرد السريع و المجدي على أعمال العدوان التي قد تتعرض لها.
لقد ضمنت الجزائر التزاماتها الدولية في مجال السلم دستور 1996. حيث تنص المادة 26 منه على أن “تمتنع الجزائر عن اللجوء إلى الحرب من أجل المساس بالسيادة المشروعة للشعوب الأخرى و حريتها“.و تبذل جهدها لتسوية الخلافات الدولية بالوسائل السلمية. كما تضمنت المادة 28 تبني الجزائر لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة و أهدافه. و من جهة أخرى فالجزائر تعمل على بناء نظام حكم ديمقراطي تعددي يضمن الحريات الأساسية و حقوق الإنسان و المواطن. كما تضمن الدولة الجزائرية عدم انتهاك حرية الإنسان. و تمنع أي عنف بدني أو معنوي أو أي مساس بالكرامة. هذه الأحكام في الدستور الجزائري حذت حذو الدولة العريقة في تطبيق الديمقراطية.
ما سبق يدفعنا إلى القول بأن الديمقراطية في إطار النصوص القانونية الوطنية ممارسة و سلوكا تنبذ العنف و تتبنى الطرق السلمية لتسيير النشاط العام، و تتخذ الحوار وسيلة لحل الخلافات. و في ظل منظومة دولية تؤمن بنفس المبادئ في مجال حفظ السلم و تمارسها على المستوى الوطني يصعب تصور السلوك العدائي تجاه بقية أعضاء هذه المنظومة.
ثقافة السلم في منظورنا هي مجموع المعارف التي يؤسس عليها الفكر الجماعي و المبادئ التي تطبعه و منه ينبع الطموح المشروع و منهج الحياة و العمل معا.
ضمن هذه المعادلة تظهر ثقافة السلم كبقية السلوكيات المشتركة على كل مستويات المجتمع دوليا و وطنيا. بالنسبة للحكام يظهر ذلك في التعامل مع القضايا الدولية أو في تسيير الشؤون الوطنية و كذا فيما يخص المتعاملين على الساحة السياسية داخل الدول، ليكون التنافس المشروع للوصول إلى السلطة بطرق شرعية تضمن التداول على السلطة في ظروف سليمة.
و يجب ألا يهمل دور الإعلام و الصحافة في تنوير الرأي العام و نشر مبادئ المحبة و الوفاق و حسن الجوار و ضمان المصالح المتبادلة. إطلاع الرأي العام المتشبع بثقافة السلم على حقائق الأمور يكون الذرع المتين للدفاع عن السلم.