الاستقلال المالي والاقتصادي

كتب د/  عادل عامر

يعتبر تحقيق الاستقلال المالي هدفا لجميع الناس، يحلمون بتحقيقه لأنه لا يوفر لهم فقط وفرة المال، بل أيضا السلطة والحرية. تجنب الإنفاق على مشتريات غير ضرورية، فالكثير مما تجلبه إلى المنزل قد ينتهي به الأمر إلى القبو دون استخدامه، لذلك يجب فقط شراء الأشياء التي تحتاج إليها فعلا، وتجنب السلوك غير العقلاني في التسوق خاصة فترات التخفيضات مثل “الجمعة السوداء” بالإضافة إلى ضرورة تسجيل وحساب كافة المداخيل والمصاريف ومراقبتها. استندت مبادئ الإدارة المالية للبلاد إلى التأويل الذي سمحت سلطة الانتداب لنفسها به، عند قراءتها لصك الانتداب على سوريا ولبنان الذي أصدرته عصبة الأمم، انطلاقا من مفهومين مختلفين له لديها، بل ومتناقضين. استند المفهوم الأول إلى تفسير سلطة الانتداب للفقرة الثالثة، من المادة الأولى للصك المذكور، على أنه يؤسس، بحسب فهمها له، مبدأَ تقسيم البلاد. عندما، تكلم عن وجوب “رعاية مصالح المكونات المحلية” autonomies. بينما استند المفهوم الثاني إلى تصور غريب، أطلقه لاحقا المفوض السامي بونسو Ponsot عام 1927. ومفاده أنه يجب أن تحافظ فرنسا على “المصالح الهامة والمشتركة، لدول المشرق… نظرا لأن هذه الدول غير مؤهلة لأن تقوم بعملية التنمية، إلا في إطار كل منها على حدة، نتيجة اتباعها لسياسات أحادية وضيقة، لن تؤدي الى تأسيس مستقبل مشترك لها”.1

الغريب في الأمر، أن بونسو تناسى، يوم قال ذلك، ان فرنسا هي التي جزأت البلاد، بعكس رغبات مواطنيها.

للتوفيق بين المفهومين، عملت فرنسا على إقرار مبدأ العمل بنظام الموازنات الثنائية. موازنة خاصة بكل دولة، وموازنة مشتركة للدول المحدثة بعد التقسيم : تم اعتبار كل واحدة من الدول السورية المنشأة، إضافة إلى سنجق الاسكندرونة، كوحدة تشريعية ومالية مستقلة، تتمتع بموارد مالية منفصلة عن الدول الأخرى. جرى من أجل ذلك، تعديل التشريعات الضريبية القديمة التي كانت تعتبر البلاد وحدة ضريبية واحدة، وصدرت تشريعات جديدة حسب حاجة كل من الدول التي أنشئت. أدت الترتيبات المستجدة إلى قيام أنظمة ضريبية متعددة.2

أقرت سلطة الانتداب، من ناحية أخرى، إرساء قواعد لموازنة مشتركة لهذه الدول. يغطي جانب الإنفاق فيها الخدمات والشؤون المالية المشتركة لها، كنفقات إدارة خدمة الدين العام العثماني، ودوائر المصالح الاقتصادية المشتركة، والأمن العام، ونفقات إدارات الانتداب نفسه وغيرها، التي كانت تدار بمعرفة المفوض السامي في بيروت، وهو ما بيناه سابقا.

التنظيم المالي والاقتصادي

في العام 1928، أعلنت سلطة الانتداب رسميا عن إنشاء موازنة، كانت تدار مباشرة من قبل المفوضية السامية في بيروت، دعتها “موازنة المصالح المشتركة”، بالإضافة إلى موازنات الدول السورية واللبنانية الخاصة بكل من هذه الدول. استعملت الموازنة المذكورة، خاصة بعد الثورة السورية الكبرى عام 1925، كأداة لخفض عبء الإنفاق العسكري، والمدني لسلطة الانتداب، بدل تخصيص أكبر للموارد المالية اللازمة للتنمية في البلاد. في واقع الأمر، غطت عوائد المصالح المشتركة حتى حوالي 70% من تكاليف الانتداب. إضافة، إلى الإنفاق المقرر أصلا من قبل الحكومة الفرنسية، لتغطية تواجد فرنسا العسكري والمدني في المشرق. بالفعل، فاقت على الدوام موازنة القوات الفرنسية، والقوات المحلية الرديفة لها، مجموع الإنفاق المدني في موازنات الدول السورية، والدولة اللبنانية. ففي موازنتي 1931 و1932، جرى تخصيص 410 مليون فرنك فرنسي، أي ما يوازي 21 مليون ل.س، للإنفاق الأمني السنوي، مقابل 343 مليون فرنك فرنسي، مجموع الموازنات المدنية السنوية لهذه الدول.

كان مخططا في البدء، أن توجه الوفورات السنوية الحاصلة في موازنة المصالح المشتركة، لدعم التنمية الاقتصادية في البلدان الواقعة تحت الانتداب، حسب معامل حسابي يحدد على أساس حجم حصة كل من الدول المذكورة من إجمالي العائدات (brute)، أو وفق حصصها من النفقات الحاصلة.

جاءت “موازنة المصالح المشتركة” للدول السورية والدولة اللبنانية، لتمثل حلقة الوصل غير المباشر بين موازنات هذه الدول، عاكسة بذلك، الأمر الواقع المفروض عليها. دعيت مشتركة، لأنها كانت تتبع سلطة واحدة، هي سلطة الانتداب التي كانت تدير من موقعها في سرايا بيروت، كما قلنا سابقا، دوائر ومصالح مالية واقتصادية مشتركة تتجاوز امتداداتها الحدود المصطنعة.

من أجل تحقيق الهدف المرجو من إقامتها، تم تخصيص العائدات الجمركية بكاملها، وغيرها من الموارد المشتركة لهذه الدول، لتغطية نفقات موازنة المصالح المشتركة. ولما كانت الموازنة المشتركة تُظهر في أغلب الأحيان وفورات، جرى إنشاء صندوق للاحتياطي، هدف إلى تغطية النفقات الاستثنائية المشتركة، وإلى تقديم العون لموازنات الدول عندما كانت تعاني من صعوبات ناشئة.

مع ذلك، لم يكن نظام “موازنة المصالح المشتركة” يعني أبدا في أعين سلطة الانتداب الذي أنشأته أنه يشكل خطوة أولى على طريق تحقيق الوحدة السياسية للدول السورية واللبنانية. فحكومات هذه الدول التي كانت تتمتع بحرية نسبية في إعداد الموازنات الخاصة بها، لم تُدعَ لكي تشارك في إدارة موازنة المصالح المشتركة التي كانت تابعة كليا لسلطة الانتداب. كذلك، كان الحال مع ما دعي يومها بمؤتمر المصالح المشتركة، الذي كان يدعو إليه المفوض السامي ممثلي الدول السورية اللبنانية، كهيئة استشارية فقط، لينعقد برئاسته لمناقشة تقرير إدارة المصالح المشتركة. أي أنها كانت مؤسسة نظرية ،ليس إلا. ولم يكن لها أي دور فعلي. بل بقيت المفوضية السامية تعتقد جازمة، أن مؤسسة المصالح المشتركة ككل، ستتلاشى في يوم من الأيام مع انتهاء انتدابها على سوريا ولبنان. وهو ما حدث بالفعل.4

يمكن، إضافة إلى ما تقدم، إجمال الأدوار التي كانت تقوم بها المفوضية السامية في المجالين الاقتصادي، والمالي، كما يلي :

– دور الإدارة، والتنسيق للمصالح المشتركة في مجالات إعداد الموازنات المشتركة، وسياسة الإقراض فيها، والإشراف على الجمارك، وعلى النظام النقدي، وأعمال الصرافة، الخ.

– دور تشريعي، عند إعداد نصوص القوانين المشتركة للدول الواقعة تحت الانتداب، واتخاذ الإجراءات المتعلقة بمصالحها العامة، من قوانين ناظمة للموازنات، وشؤون المحاسبة العامة، والقوانين المالية، والضريبية، إلخ. – دور لتقديم المشورة، والرقابة، والتفتيش. إما مباشرة، بواسطة المستشارين الماليين الفرنسيين المتواجدين إلى جانب كل من الحكومات المحلية، أو بشكل غير مباشر، عن طريق المستشار المالي للمفوضية السامية في بيروت. كما كان ممكنا للرقابة، أن تستبق إعداد الموازنات وفق نموذج تعده المفوضية السامية، بتقديم مشروع إعدادها إلى المفوض السامي، ليتأكد من أنها متوازنة فعلا. كذلك، كان يمكن أن تتم الرقابة عليها لاحقا، بواسطة المستشار المالي للمفوضية السامية، لمراقبة مقدار مطابقة المصروفات الفعلية بعد تنفيذ الموازنة، مع ما كان مخططا له من قبل.5

 

إعداد موازنات الدول السورية واللبنانية

استند إعداد الموازنات السورية إلى حد كبير، الى تقنية إعداد الموازنات الفرنسية التي لا تأخذ خطوطها العامة بوجوب التوازن بين بندي الإيرادات والنفقات، مع تكريس أولوية هذه الأخيرة على ما عداها.

كما شكلت كل دولة أو حكومة من الدول السورية والدولة اللبنانية وحدة تشريعية ومالية منفصلة، يجري إعداد موازنتها والتصويت عليها وإقرارها، وتتحمل كل دولة العجز الحادث في موازنتها، بمعزل عن سواها من الموازنات. بينما، يتم تحويل الفوائض الناشئة في الموازنات المختلفة، إلى حساب خاص دعي بصندوق الفوائض المتاحة Fonds des Excédants Disponibles.7 هنا يمكن، مبدئيا، إيراد الملاحظات التالية حول الكيفية التي تم بموجبها تنظيم الموازنات زمن الانتداب :

أدت الشرذمة السياسية للبلد، إلى زيادة في مجموع النفقات الإدارية الواقعة على الكيانات السياسية المتعددة. فهناك نفقات عامة لم يكن بالإمكان مواءمتها من دولة إلى أخرى، عندما يتجاوز عدد سكانها أو ينقص عن جاراتها، في إطار حيز اقليمي واحد. في مثل هكذا الحالة، شكل العبء الضريبي الإضافي عند حصوله، عائقا للفرد في كسب معيشته.

كما أن تجزئة سوريا إلى أربع دول، أدى إضافة لتشجيع المناطقية ضمنها، إلى زيادة في عدد الموازنات المطلوبة، مما أعاق إرساء سياسة متماسكة على امتداد البلد لمجابهة المشاكل المالية والاقتصادية المستجدة بشكل فعال أكثر. فقد شجع تعدد التشريعات على الفساد والتهرب الضريبي من بلد إلى آخر، وإلى فرار المنشآت الإنتاجية من منطقة إلى أخرى، عندما تكون الضرائب في مكان ما أعلى من مكان آخر. حصل ذلك، بالرغم من ضيق المساحة الجغرافية لكل من هذه الدول وقصر المسافات التي تفصل فيما بينها.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

Recent Posts

x

‎قد يُعجبك أيضاً

الرئيس السيسي يؤكد دعمه الكامل لحقوق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة

كتبت مني جودت أكد الرئيس عبدالفتاح السيسي دعمه الكامل لحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة، وفي مقدمتها حقه في ...