كتب د/ عادل عامر
ان وجود سلطة قضائية مستقلة هو ضرورة ملحة في أي مجتمع لأنه يعني وجود ضمانة قوية لسلامة تطبيق القانون في حيدة وموضوعية وفي مواجهة كل أطراف المنازعات. وسواء كانت تلك المنازعات بين الأفراد وبعضهم البعض، أو كانت بين الأفراد وبعض أجهزة الدولة ومؤسساتها.
فما هو المقصود بالسلطة القضائية المستقلة؟ انه يعني بإيجاز شديد وجود ركيزتين أساسيتين هما:
أولاً: أن القضاة هم وحدهم دون غيرهم الذين ” يستقلون ” بتطبيق القانون علي المنازعات والدعاوى بين الأفراد وبعضهم، أو بين الأفراد وأجهزة السلطة. وأنهم دون غيرهم هم الذين يقضون بتجريم أفعال معينة
– وفقا للقوانين الجنائية – ويحكمون بعقوبات معينة تطبيقا لتلك القوانين،
ولا يجوز لجهة في الدولة أيا كانت أن تتداخل في أعمال القضاة أو أن تطلب تطبيقا معينا لنص معين أو أن تفرض حكما معينا في قضية معينة .
ويتفق مع ما تقدم ويجري مجراه أنه لا يجوز لغير القضاة أن يحكموا في الدعاوى، لأن القاضي الطبيعي
– القاضي العادي
– هو الذي يجب أن يناط به وحده الفصل في القضايا والمنازعات في الدولة القانونية، أما أن تنتزع بعض القضايا لأهمية خاصة تقوم في نظر السلطات ويعطي الاختصاص بالفصل في تلك القضايا لغير جهة القضاء العادية فهو أمر يتعارض مع مفهوم استقلال القضاء تماما. وذلك لا يمنع إطلاقا أن غالبية دول العالم
–إن لم تكن كلها – يوجد لديها إلى جوار القضاء العادي قضاء استثنائي في قضايا معينة كالقضاء العسكري الذي يفصل في الجرائم العسكرية التي يرتكبها أشخاص عسكريون داخل الوحدات أو الأماكن العسكرية،
ولكن هذا القضاء الاستثنائي يستمد ولايته من قوانين قائمة قبل ارتكاب الأفعال يعلم بها سلفا المخاطبون بأحكام القانون أو يفترض فيهم العلم بها، وهذا القضاء الاستثنائي يأخذ معني القضاء العادي من ناحية أنه وإن اختص بنوع معين من الدعاوى استثناء من الأصل العام، إلا أن وجوده نفسه مقرر في قوانين عادية معلومة للكافة، ويجب علي الكافة أن تسلك في حياتها مسلكاً يتفق مع وجود تلك القوانين.
ثانياًً: لا شك انه مما يؤكد استقلال القضاة ويجعلهم يؤدون أعمالهم علي النحو المبتغى أن يكون أمر القضاء كله بيد القضاة، فإذا كان تعيين القضاة يتم وفقا لإجراءات معينة يراعي فيها قدر من التدقيق الواجب، فإنه ومن ناحية أخرى أكثر أهمية فان تأديب القضاة ونقلهم وعزلهم يجب أن تستقل به الجهة القضائية وحدها وأن يعطي القاضي أوسع الضمانات للدفاع عن نفسه، ومن المبادئ التي توشك أن تكون مستقرة في غالبية دساتير الدولة الحديثة عدم قابلية القضاة للعزل إلا في أحوال محددة ووفقا لإجراءات معينة يرسمها القانون بوضوح وقد نص الدستور على أن القضاة غير قابلين للعزل.
هذه هي القضايا الأساسية التي نري أنها تكفل استقلال القضاة في الدولة القانونية وتجعل من القضاء حاميا حقيقيا للحريات وقيدا فعليا علي ممارسة السلطة حتى لا تنحرف عن جادة القانون. الهدف من استقلال القضاء ومن حماية هذا الاستقلال هو تحقيق العدالة التي لا يمكن أن تتحقق في غياب أحد مقوماتها الأساسية وهو استقلال القضاة وحماية هذا الاستقلال من أي تدخل وتأثير، فما هو مفهوم هذا الاستقلال؟ وما هي مقوماته؟ وما هي ضرورته؟. يعتبر مبدأ استقلال السلطة القضائية من المبادئ المهمة والحيوية التي تتعلق بحقوق الإنسان، فقد عرف هذا المبدأ منذ القدم أي في العصور الفرعونية واليونانية، كما وأدرجت العديد من الوقائع في الإسلام منها ما يشير إلى دور القاضي العادل في تأدية وظيفته بصورة مستقلة،
ومنها ما تدل على تطبيق القانون بالتساوي بين البشر، بلا فرق بين غني وفقير ولا بين حاكم ومحكوم؛ لاعتبارات شرعية أو دينية أو أخلاقية، غير أن العديد من الشخصيات كانوا يرفضون تولي منصب القضاء لخطورة هذا المنصب، وأهميته في المجتمع، ولإيمانهم بوجود جزاء أخروي ودنيوي يحل بمن يخل بواجبات هذه الوظيفة إن مبدأ ضمان استقلال القضاء
حين وفر ضمانات تحمي القضاة من بطش الحكام، قرر كذلك حمايتهم من كيد المتقاضين، فلم يجعل القضاة خاضعين لما يخضع له سائر الأفراد وسائر موظفي الدولة، من حيث مسؤوليتهم عن عملهم، وإنما قرر لهم نظاماً خاصاً بهم يسمى نظام مخاصمة القضاة، ومفاده حماية القاضي من المتقاضيين بهدف ضمان ألا تؤدي مسؤولية القاضي إلى التأثر في استقلاله، وذلك عن طريق تحديد الحالات التي يسأل فيها القاضي مدنياً على خلاف القاعدة العامة بالنسبة للأفراد “لا يسأل القاضي عن كل خطأ”، وكذلك تم وضع خصومة لا تخضع لكل القواعد العامة، لتقرر هذه المسؤولية، وتسمى في الاصطلاح القانوني بالمخاصمة. لا يوجد نظام قضائي في العالم اهتم بمبدأ المساواة بمثل ما اهتم به النظام القضائي الإسلامي ، فقد جعل هذا النظام حق اللجوء إلي القضاء ، حقاً مكفولاً للجميع ، بل و أوجب علي القاضي مراعاة هذا المبدأ في كل شيء لحظه و لفظه و دخول الخصوم عليه.
و من الثابت أن لجميع الأشخاص الحق في رفع دعاويهم أمام القضاء ، و يجب علي القاضي أن يسمع الدعوي من أي مدع علي أي أنسان ، و لا يجوز للقاضي أن يمنع أحدا من اللجوء إلي القضاء حماية لحق له اعتدي عليه ، سواء كان المدعي عليه غنياً أو فقيراً ، جليلاً أو حقيراً .
استقلال السلطة القضائية عن التنفذية تحرص الدساتير العالمية والعربية على تأكيد استقلال القضاء وهيبته تجاه السلطة التنفيذية بل ان بعضها يحيل على تشريعات لاحقة لوضع القواعد التفصيلية لتحقيق الحماية الدستورية لهذا الاستقلال فمفهوم هذا الاستقلال انه لايجوز للسلطة التنفيذية ان تتدخل في أي عمل من أعمال القضاء, أيا كانت صورة هذا التدخل, كما لا يجوز لأي شخص من أشخاص هذه السلطة مهما علا مركزه ولو كان وزير العدل أو رئيس الدولة أن يتدخل لدى القضاء بشأن قضية معروضة عليه أيا كان نوع هذا التدخل. ومن ثم فلا سبيل لوضع نصوص لهذه الدساتير ومبدأ استقلال القضاء موضع التنفيذ الا بإسناد كافة الاختصاصات المتعلقة بشؤون القضاء إلى رجال القضاء أنفسهم سواء من خلال مجلس أعلى يتكون منهم وحدهم أو جمعياتهم, أو رؤساء المحاكم حسب الأحوال: ــ وتتجه معظم التشريعات العربية الى تأليف مجلس القضاء الأعلى فيها من قضاة أو من أغلبية القضاة: ففي المملكة المغربية يرأس الملك المجلس الأعلى للقضاء ووزير العدل عضو فيه ونائب للرئيس وباقي الأعضاء وعددهم تسعة كلهم من القضاة (الفصل الثمانون من دستور عام 1972) .
وفي تونس أوكل أمر القضاة الى مجلس القضاة (م 5 من الدستور المؤرخ في 1/1/1959) . ويتألف من تسعة أعضاء برئاسة كاتب الدولة للعدل (وزير العدل, والباقين من القضاة). وفي ليبيا نصت المادة 17 من قانون توحيد القضاء رقم 87 لسنة 1971 والمعدل بالمادة 4 من القانون 86 لسنة 1971 بانشاء المجلس الأعلى للهيئات القضائية على ان (يتولى رئيس قيادة الثورة رئاسة المجلس الأعلى للهيئات القضائية على الوجه الآتي, وزير العدل نائب الرئيس, وكل من رئيس المحكمة العليا, النائب العام, أقدم رؤساء محاكم الاستئناف ورئيس ادارة التفتيش القضائي, رئيس ادارة قضايا الحكومة أعضاء) . ويشكل المجلس القضائي الأردني من سبعة أعضاء من القضاة, برئاسة رئيس محكمة التمييز م 15 من قانون استقلال القضاء رقم 19 لسنة 1955 والمعدل بالقانون رقم 36 لسنة 1968. وفي لبنان يتألف مجلس القضاء الأعلى من ثمانية أشخاص برئاسة الرئيس الأول بمحكمة التمييز وعضوية خمسة من القضاة, وثلاثة من خارج ملاك القضاة يختارون من بين القضاة السابقين المقبولين في منصب الشرف أو الأساتذة الأصليين في معهد الحقوق
(المادة الأولى من تنظيم مجلس القضاء الأعلى الصادر بالمرسوم رقم 7855 لسنة 1961). وباستقراء النصوص السابقة في التشريعات العربية نجد ان شؤون القضاء يتولاها القضاة بأنفسهم في مصر والأردن, أما في التشريعات العربية الأخرى, نجد المجلس القضائي بها مؤلفا من عناصر قضائية وأخرى غير قضائية, وهذا التشكيل له خطورته على استقلال القضاء ويفتح الباب أمام السلطة التنفيذية للتدخل في شؤون القضاء, الأمر الذي يعد اعتداء صارخا على استقلالهم ومن هنا يبدو لنا ان استقلال القضاء يستلزم أن تترك ادارة شؤون رجال القضاء والبت في سائر القضايا المتعلقة بهم الى هيئة قضائية صرفة, لأن القضاة أدرى الناس بواقعهم وظروفهم. وإذا كان من الضروري وجود مجلس قضائي يتولى شؤون القضاة ويفصل في القضايا المتعلقة بشؤونه, حتى يكون بمنأى عن السلطة التنفيذية, فإن هذا يعني في رأي البعض انه لايجوز أن تترتب مسؤولية الحكومة على أعمال القضاة,
لأن الحكومة تسأل عن أعمال موظفيها لما لها عليهم من سلطة التوجيه والرقابة, وهو ما لا تملكه بالنسبة للقضاة الذين لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون, فالعلاقة بين الحكومة من جهة والقضاء من جهة أخرى ليست علاقة تبعية, وعلى ذلك فلا شأن للحكومة في الخطأ الذي يرتكبه القاضي, بيد انه اذا كان القضاء مستقلا فعلا عن الحكومة ولا تخضع لتوجيهها فإنه يجب التفرقة بين مسؤولية الدولة ومسؤولية الحكومة, فلا مسؤولية للثانية عن أعمال السلطة القضائية وعندما تقوم الحكومة بدفع التعويض المقضي به عن خطأ أحد القضاة فإنما تدفعه باعتبارها المديرة لأموال الدولة, والحارس عليها,
أما الدولة فتسأل عن أعمال القضاة, باعتبارها مسؤولة عن نشاط الادارة. كما يعد اهدار لمبدأ الفصل بين السلطات, واعتداء على مبدأ استقلال القضاء, توقيف تنفيذ أو عرقلة الأحكام القضائية من قبل السلطة التنفيذية, فمثل هذا الموقف الإيجابي أو السلبي المؤدي الى عدم تنفيذ الأحكام القضائية أو التراخي في تنفيذها, يشكل فعلا غير مشروع يسأل فاعله عن التعويض كما تسأل الحكومة على أساس مسؤولية المتبوع عن أعمال تابعة كما انه يعد مساسا بقوة الأمر المقضي, أي مساسا بالنظام العام مما يؤدي الى تقويض النظام القضائي,
وأخيرا يسأل عامل التنفيذ مسؤولية جنائية, في شأن ذلك نصت المادة 122 من قانون العقوبات المصري (بأن يعاقب كل موظف عمومي استعمل سلطة وظيفته في توقيف تنفيذ حكم أوامر أو طلب من المحكمة أو أي أمر صادر من جهة الاختصاص) . ونصت المادة 412 ــ 414 من قانون العقوبات السوري على (الجرائم التي تمس قوة القرارات القضائية) . وقد كفل قانون العقوبات السوري استقلال السلطة القضائية بنص المادة 361 عقوبات وخلاصتها
(ان كل موظف يستعمل سلطته او نفوذه مباشرة او غير مباشرة ليعوق او يؤخر تطبيق القوانين او تنفيذ قرار قضائي يعاقب بالحبس من ثلاثة اشهر الى سنتين, ويقابل هذا النص في قانون العقوبات اللبناني المادة 361. وبهذا اوضحنا مفهوم استقلال القضاء في الشريعة الاسلامية وما قبل الاسلام وفي العصر الراهن ضمن المواثيق والمؤتمرات الدولية,
وما تضمنته الدساتير العربية وقوانينها, وشرحنا ابعاد هذا الاستقلال عن السلطتين التشريعية والتنفيذية. الخاتمة: لما كان خضوع الدولة للقانون هو الاساس المتين لشرعية نظام الحكم واستمراره, ولما كان استقلال القضاء وحصانته ضمانتين اساسيتين لتأمين خضوع الدولة للقانون وحماية الحقوق والحريات. ولما كان من طبيعة القضاء ان يكون مستقلا والاصل فيه ان يكون كذلك, وكان كل مساس بهذا الاصل واي تدخل في عمل القضاء من جانب احدى السلطتين الاخريين او الرأي العام, يخل حتما بميزان العدل ويقوض دعائم الحكم, اذ في قيام القاضي باداء رسالته حرا مستقلا مطمئنا آمنا على مصيره اكبر ضمانة لافراد الشعب حكاما ومحكومين على السواء. ولما كان استقلال القضاء يعتمد بدوره وفي اساسه على سيادة القانون,
فإن ذلك يقتضي اول مايقتضي الا تمس حقوق المواطنين وحرياتهم وحرماتهم الا طبقا للقانون العادي وحده, وبحكم من القضاء الطبيعي وحده وبالاجراءات المتبعة امامه وحدها, والا يكون لاحد من سلطان على القضاة في قضائهم غير القانون, والا يجوز لاية سلطة ان تحصن اي قانون او قرار من رقابة القضاء, او ان تتدخل في القضايا او في شؤون العدالة بأي وجه من الوجوه.
ولما كانت الثقة بالقضاء ركنا اساسيا في دعم نظام الحكم, وكان مما يخل بهذه الثقة ايجاد الازدواج في جهات التحقيق او الحكم, ومع ذلك انشاء المحاكم واجهزة التحقيق الاستثنائية او المحاكم الخاصة, او تشكيل المحاكم من اشخاص تعينهم احدى السلطتين الاخريين بذواتهم, وهو ما تنفتح به الابواب لزعزعة الثقة بالاحكام وتعارضها وتأييد المنازعات. لما كان ذلك كله,
فلعل الصواب ان تكون السلطة القضائية مصونة ومستقلة عن اية سلطة اخرى وتتمتع بحصانة مطلقة, ويوضع بملء الحرية تشريع موحد للدولة العربية وتنسجم مع روح العصر الحاضر,
وعلى ضوء ماضي الامة العربية وليكون المثل الاعلي المشترك والدستور الدائم للاستقلال الذي ينبغي ان تلتزمه النظم القضائية العربية كافة,
ونوصي بما يلي: اولا: تخضع الدولة للقانون, واستقلال القضاء وحصانته ضمانتان أساسيتان لحماية الحقوق والحريات. ثانيا: حظر انشاء المحاكم الاستثنائية او الخاصة بجميع انواعها وحظر تعدد جهات التحقيق او الحكم. ثالثا: التقاضي حق مصون ومكفول للناس كافة,
ولكل مواطن حق الالتجاء الى قاضيه الطبيعي ويحظر النص في التشريعات على تحصين اي قانون او قرار اداري من رقابة القضاء.
رابعا: القضاة غير قابلين للعزل ويقصد بالقضاة في هذا الاعلان كل من يتولى اختصاصات قضاء التحقيق او قضاء الحكم ايا كانت طريقة تعيينهم وتمسيتهم متى كانوا متخصصين ومتفرغين لاداء رسالة القضاء.
خامسا: القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون, ولا يجوز لاية سلطة التدخل في القضايا او في شؤون العدالة او تعطيل تنفيذ احكام القضاء.
سادسا: يقوم على الشؤون الادارية والمالية للقضاء والقضاة مجلس اعلى يتكون من رجال القضاء دون غيرهم, ولا يجوز ابرام اي شأن من تلك الشؤون بغير موافقة هذا المجلس. ذلك أن تخصص القضاة وتفرغهم لاداء رسالتهم, ومتابعة تأهيلهم وتكوينهم ورعايتهم صحيا واجتماعيا,
كل ذلك من مستلزمات الحيدة والتجريد والنقاء والعدالة والثقة بالقضاء. عضو الجمعية الدولية لقانون العقوبات