استراتيجية المقاومة الجديدة

 كتب /الدكتور عادل عامر                                                                                                     

وضعت مجموعة عرين الأسود عددًا من العناصر التي توضِّح من خلالها استراتيجيَّتها في المقاومة، ويتَّضح من خلال تلك العناصر أنها تحاول تجاوز الانقسام الفلسطيني وتجاوز عجز السلطة، واعتبار أن رفع السلاح هو الحل المتاح أمام الفلسطينيين الآن، ومن تلك العناصر ما يلي:

1- عدم الانتماء تنظيميًّا لأيٍّ من حركات المقاومة الفلسطينية التقليدية كفتح أو حماس أو الجهاد أو الجبهة الشعبية ونحوها فهي مجموعات عابرة لتنظيمات المقاومة التقليدية الشهيرة المعروفة، فهي تضمُّ بين جَنَبَاتِها أيَّ فلسطيني يريد أن يقاوم الاحتلال أيًّا كان انتماؤه.

2- عدم القطيعة اللوجستية مع أيٍّ من منظَّمات المقاومة الشهيرة، فهم يقبلون التمويل والتسليح من كلِّ جماعةٍ مقاومةٍ تمدُّ لهم يدَ العون

3- التشجيع والترويج لعمليات المقاومة المسلحة الفردية عبر الهجمات ضد أهداف صهيونية كحواجز قوات الاحتلال أو بعض المستوطنين. وقد رصد المراسل العسكري لصحيفة «يديعوت أحرونوت» عشرين عملية هجومية بإطلاق نار خلال شهر ونصف فقط ضد مواقع صهيونية عسكرية واستيطانية في الضفة الغربية.

4- استقْطاب الشباب ومدهم بالأسلحة لتنفيذ هجمات المقاومة بشكل فردي وعفوي، وهذا مكَّنهم من تنفيذ عددٍ كبيرٍ من الهجمات في وقت قصير نسبيًّا

5- تصوير عمليات المقاومة المسلَّحة أثناء تنفيذها وبثها على نطاق واسع عبر مواقع السوشيال ميديا مما يلهب مشاعر سائر الشباب الفلسطيني وينشر بينهم فكرة المقاومة ويدفعهم للحاق بركب مجموعات المقاومة المسلَّحة الجديدة بتنفيذ عمليات فردية

وتتلخَّص تكتيكات العمل المقاوم وأدواته وأساليبه عند هذه المجموعات الجديدة في كلمة واحدة وهي “البساطة”، فعمليات المقاومة المسلَّحة لا تتطلَّب سوى سلاح فردي ناري أو أبيض بجانب موبايل لتصوير العملية وبثها بثًّا مباشرًا «Live» أثناء التنفيذ غالبًا إن أمكن، أما لو لم يتمَّ بثها مباشرة «Live» فيجرى تاليًا النشر على السوشيال ميديا لكل ما يتاح بعد ذلك من فيديوهات وصور للعملية

أمَّا الهدف الذي يجري الهجوم ضده فعادة يكون هدفًا واضحًا، إما أن يكون حاجزًا أمنيًّا إسرائيليًّا أو مركبة عسكرية في الأراضي المحتلَّة أو تجمُّعًا أو مركبةً للمستوطنين في الضفَّة الغربية أيضًا، فهم لا يستهدفون هدفًا سريًّا أو حصينًا.

واستخدام السوشيال ميديا هو من أبرز تكتيكات هذه المجموعات المقاومة، فمواقع السوشيال ميديا لا يجري توظيفُها في الترويج للمقاومة واستراتيجيَّاتها الجديدة فحسْب، بل إن هذه المواقع كثيرًا ما تحلُّ محلَّ الروابط والاتصالات التنظيمية التقليدية التي كانت معتادةً في مجموعات المقاومة التقليدية أو القديمة. إن استخدام السوشيال الميديا واعتماد بساطة التكتيكات والأساليب واعتماد العمليات الفردية السهلة. كل هذا يهدف لتحويل المقاومة الجديدة إلى تيار شعبي جارف يقوم به جماهير الشباب الفلسطيني في كل بقعة من الأراضي المحتلَّة، بغضِّ النظر عن انتمائه السياسي أو الفكري أو الإمكانات التسليحيَّة التي يمتلكها

والدليل على نجاح استراتيجية وتكتيك مجموعات المقاومة الجديدة حتى الآن أنها كسبت تأييدًا شعبيًّا واسعًا بين الجماهير الفلسطينية وهذا واضح في خروج الجماهير بالآلاف في جنازات شهداء المقاومة، وهذا كله سبَّب صداعًا لإسرائيل، لأنها تخشى من صحوة شعبية فلسطينية واسعة ضدَّها.

وهذا التأييد الشعبي سيجعل الشباب أكثر حماسًا للانخراط في صفوف المجموعات المسلَّحة، وتنفيذ المزيد من عمليات المقاومة المسلَّحة ضدَّ أهداف إسرائيلية، لا سيما وأن شهداء المقاومة اكتسبوا شهرة كبيرة في الإعلام الفلسطيني والعربي، وأصبحوا رمزًا للبطولة الفلسطينية ضد إسرائيل. ويعتبر عبد اللطيف القانوع المتحدث باسم حركة المقاومة الإسلامية (حماس) أن “عرين الأسود امتداد طبيعي للمقاومة في قطاع غزة” مؤكِّدًا أن “عرين الأسود في نابلس يمثِّل كلَّ ألوان الطيف الفلسطيني، وهو وليدة وناجحة أربكتْ حساب الاحتلال الصهيوني

استراتيجية الكيان الصهيوني:

لقد فوجئ الاحتلال الصهيوني بنشوء هذا التيار المقاوم الجديد وبادر إلى صَكِّ استراتيجية لمواجهة هذه المقاومة الجديدة المتصاعدة تعتمد على عدد من العناصر الرئيسية وهي:

الحصار: مع تفتيش كل مركبة تخرج أو تدخل، كما حدث بمحاصرة نابلس وجنين، وأدَّى هذا الى انتقال الاشتباكات مع المقاومة من المستوطنات والطرق إلى مداخل المدينة، ممَّا منح الاحتلال قُرْبًا أكثر لجمع المزيد من المعلومات الاستخباراتية كما لم يكن من قبل.

المداهمات والاعتقالات: كما حدث ويحدث في مختلف الأراضي المحتلة، والهدف من الاعتقالات جمع المعلومات عن مجموعات المقاومة الفلسطينية، ومع هذا فإن الاحتلال الصهيوني اعترف في أكثر من مناسبة أن الاعتقالات والمداهمات لم تحسِّن الوضعَ الأمنيَّ كثيرًا بالنسبة لجنود الاحتلال والمستوطنين

التصفيات المستهدفة لعناصر المقاومة المهمة: كما حدث مع تامر الكيلاني وقادة عرين الأسود، فالاحتلال يرى أن محاولة اعتقال هذه العناصر المقاومة قد ينتج عنه مقتل مزيد من الجنود الصهاينة فصار يعمد لقتلهم بأقل خسائر بين صفوفه ويحاول تجنُّب إصابة الفلسطينيِّين الآخرين كي لا يؤجِّج مزيدًا من مشاعر الغضب الشعبي الفلسطيني

تكثيف المتابعة الاستخباراتية: وجاء هذا التكثيف عبر التوسُّع في استخدام التجسُّس الإلكتروني واختراق هواتف المقاومين حتى إن بعض الصحف الإسرائيلية زعمت أن برنامج بيجاسوس هو الذي ساعد قوات الاحتلال في تحديد مكان قادة عرين الأسود واغتيالهم في نابلس.

مساومة قادة المقاومين عبر السلطة الفلسطينية: حيث عمدت سلطات الاحتلال الصهيوني إلى دفع السلطة الفلسطينية بقيادة محمود عباس أبو مازن للتواصل مع بعض قادة مجموعات المقاومة الجديدة وعرضت عليهم تسليم سلاحهم وتحديد إقامتهم داخل الضفَّة الغربية المحتلَّة لفترة قصيرة ثم دمجهم بعد ذلك ضمن أجهزة القوى الأمنية الفلسطينية، وألحَّتْ عليهم السلطة الفلسطينية في ذلك

ومابين نهاية شهري فبراير ومارس 2023 عُقِدَ لقاءان في العقبة في الأردن وشرم الشيخ في مصر وُصِفَا بأنهما قمتين أمنيَّتين برعاية أمريكية كان الهدف الأساسي منهما ما يُسَمَّى بخفض التصعيد، والمقصود مواجهة تصاعد المقاومة في الضفة في شهر رمضان، وقد رفضت معظم الفصائل الفلسطينية هذين اللقاءين الأمنيَّين ومخرجاتهما وأبرزها إنشاء ما سُمِّيَ “آلية للحدِّ من العنف” التي تُسَوِّي بين المجازر التي ترتكبُها إسرائيل في جنين ونابلس، واستُشهد فيها ما يقرب من المائة فلسطيني منهم سبعة عشر طفلًا وبين المقاومة التي يقوم بها الفلسطينيُّون دفاعًا عن أنفسهم.

والخلاصة أن مجموعات عرين الأسود صنعتْ حالةً وطنيةً شاملةً لجميع التجمُّعات الفلسطينية داخل فلسطين وخارجها، الأمر الذي استحقَّ تحليل الظاهرة واستنباط دلالاتها وآثارها الإيجابية. ويجمع غالبية المتابعين على أننا أمام ولادة جيلٍ فلسطينيٍّ جديدٍ، يُعيد بناء الوطنية الفلسطينية وبرنامجها السياسي وحركتها التحرُّرية الشاملة، على امتداد الوطن والشتات.

وثمَّة رأي يذهب إلى أن ظاهرة عرين الأسود جزء من مقاومة شعبية أكبر وأهم، فالمقاومة الشعبية المتنوِّعة والمتشعِّبة التي سطرها الشارعُ الفلسطينيُّ على امتداد الأشهر والسنوات الماضية؛ خصوصًا الأعوام الثلاثة الماضية، قوَّضت أهمَّ المبادئ والأدوات الصهيونية الاستراتيجية، مثل مبدأ الجيش والمنظومة الأمنية التي لا تُقهر، ومبدأ التفوّق الصهيوني، واستراتيجية الحروب أو الضربات الاستباقية، واستراتيجية الاحتلال بالوكالة أو الوكيل الأمني. ويلفت هذا الرأي الانتباهَ إلى أن نجاح المقاومة الشعبية في ذلك أدَّى إلى نجاح آخر لا يقلُّ أهميةً ومحوريةً، يتمثَّل في قدرتها على إيجاد فضاء اجتماعي وأمني وسياسي فلسطيني خارج سيطرة الاحتلال، أتاحَ الفرصةَ أمامَ ظهور حالة / حالات عسكرية جديدة، صنعها شبَّان كتيبة جنين وعرين الأسود.

بمعنى آخر؛ عرين الأسود من ظواهر المقاومة الشعبية الأوسع والأعم، واستمرارها بالاسم ذاته أو بأسماء وأماكن وهيئات أخرى مرهون حتمًا باستمرار المقاومة الشعبية؛ لا العكس. وهذا يضعنا أمام تحدٍّ ذاتيٍّ فلسطينيٍّ خاص، يتطلَّب منَّا التمييز بين أولوية النضال العسكري من ناحية، وضرورته أو أهميته من ناحية ثانية، فهناك فرق كبير بينهما، فرق أهملتْه مجمل أو غالبية تجارب المقاومة الشعبية الفلسطينية وحركتها التحرُّرية، عبر انتصارها لأولوية النضال العسكري، بل وأُحاديته، بدلًا من التركيز على أهميته في سياق نضالي أوسع

والأقْرب إلى الدِّقَّة القول بأن الجمع أولى من هذا التفريق، بمعنى الجمع بين طرفي المقاومة، عسكرية وغير عسكرية، فكلاهما يعزِّز الآخر ويحميه، فالعمل العسكري المقاوم ضروري، والمقاومة غير العسكرية لازمة ولا غنى لأحدهما عن الآخر، في إطار من توزيع الأدوار وملاءمة الظروف، وكل ميسَّر لما خُلق له. وهنا من اللائق الكف عن استخدام صيغة أفعل التفضيل عند المقارنة بين هذين النوعين من المقاومة كالزعم بأن المقاومة الشعبية أهم من العسكرية أو العكس.

 فالعمل العسكري يحمي فعاليات المقاومة الأخرى ويردع العدو أحيانًا عن استمرار استهدافها، فيخف ضغطه عليها بحسب الظروف حتى لا تتحوَّل إلى مرحلة أعلى من العمليات التي تستهدف موارده البشرية والاقتصادية، ومن جانب آخر فإن المقاومة الشعبية غير العسكرية توفر الحاضنة المجتمعية للمجاهدين وتوفر لهم الدعم المادي والمعنوي. ولذلك فإن الصهاينة يستهدفون النوعين بشكل متزامن حينًا وفي أوقات مختلفة حينًا آخر.

خاتمة:

المقاومة حياة، وتجدُّدها تجدُّدٌ للحياة، وهي ليست انتحارًا ولا محاولةً للانتحار كما يدَّعي عَرَّابُو التطبيع وساداتهم ومموِّلُوهم الإقليميُّون والدوليُّون، بل هي علاجٌ لليأس الفردي والجماعي عندما تضيق الدائرة ويظن الجميع أو معظمهم ألَّا سبيلَ إلَّا الاستسلام لواقع الحال وموازين القوة المادية المختلَّة بين المحتلِّ المتغطرس بقوَّته والمقهورين والمستضعفين من الفلسطينيِّين.

يتعافى الفلسطينيُّون من القهر بالمقاومة، فالاستسلام يشوِّه الروحَ ويُمرض النفس بل والجسد، ومن هنا يأتي التعافي بالمقاومة العفويَّة والمنظَّمة، العسكرية وغير العسكرية. وللتنظيمات ضروراتها وللمقاومين خياراتهم، فإذا تواءمَت التنظيمات مع اتفاقيات خفض التصعيد المجبرة عليها لتوفير الحدِّ الأدنى من مقوِّمات الحياة للفلسطينيِّين الذين يعيشون في غزة، واستسْلمت السلطةُ الفلسطينية لما يُسَمَّى بالتنسيق الأمني، فإن المجاهدين المقاومين ليسُوا بملزمين بذلك.

كما أن ريادةَ المقاومة ليست قَدَرًا مؤبَّدًا، بل هي امتحان بالتجربة والممارسة، فليس لتنظيم أو سلطة أن يحتكر المقاومة ويحصرها بأعماله، فإن تولوا فسوف يستبدلهم الله، يقول الله عز وجل: (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم)

المقاومة الجديدة عابرة للفصائل والتنظيمات، يجمعهم الجهاد والنضال، وهو ما عبَّر عنه الشهيد فتحي الشقاقي بكلمات موجزة صادقة منذ ما يربو عن ربع قرن، حين قال: “وحدة الخط النضالي وصلابته أسْبق من وحدة الإطار” مع احترازه من تحوُّل الخلاف إلى صراع بقوله: “نؤكِّد أن خلافنا الأيديولوجي والسياسي مع أي طرف أو جزء من أجزاء شعبنا الفلسطيني لا يمكن حسْمه إلَّا بالحوار الفكري والسياسي، بعيدًا عن العنف، فالعنف فقط ضدَّ العدوِّ الصهيوني”[28]، والمقاومة أول بشائر الإصلاح والنهضة شريطة العمل على الأرض بالعرق والدم. فالشقاقي يذكِّرنا بأن النهضة “هي متغيِّر على أرض الواقع وفي داخله، ولإنجاز مشروعها لا بدَّ أن تضرب الأمة وقادتها وزعمائها في ملامح هذا الواقع بمثابرة واستعداد عميق للتضحية، وإيمان واسع بأن ظهرها على الجدار. وكما ضرب النحَّات في الصخر، فإن كلَّ متغيِّر مهما صغر في الواقع، يأخذنا قدمًا إلى مرحلة التشكيل المبدع في صورته الأخيرة، ولكن في مراحل عديدة سيكون دمنا هو البديل عن عرق النحات”

إن تجدُّد المقاومة في الضفَّة الغربية وفي فلسطين من الممكن أن يكون بدايةَ موجةٍ جديدةٍ من المقاومة وخطوةً على طريق النصر ضدَّ العدوِّ الصهيوني؛ لأن “مسألة تحرير فلسطين هي مسألة مشروع ينظِّم إمكانات الأمة ويردُّ على حرب العدو الشاملة بحرب شاملة ثقافية وفكرية واقتصادية وفكرية وأمنية وعسكرية. ويبقى دورُ المجاهدين في فلسطين، وهو إحياءُ فريضة الجهاد ضدَّ العدوِّ ومشاغلته واستنزاف طاقاته وكشف وجهه البشع، وتدمير ما يستطيعون من قدراته وإدامة الصراع حيًّا حتى وحدة الأمة وتحقيق النصر، والتصدِّي لمؤامرات تصفية القضية التي يوجِّهها الغرب”

وهكذا يمضي مجاهدو عرين الأسود وغيرها من موجات المقاومة في الضفَّة الغربية وكافَّة ربوع فلسطين، يردِّدون مع الشهيد المقاوم الشاعر فتحي الشقاقي كلمات من قصيدته “الاستشهاد: حكايات من باب العمود”:

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

Recent Posts

x

‎قد يُعجبك أيضاً

الرئيس السيسي يؤكد دعمه الكامل لحقوق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة

كتبت مني جودت أكد الرئيس عبدالفتاح السيسي دعمه الكامل لحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة، وفي مقدمتها حقه في ...