كتب د/ عادل عامر
إن هذه النظرة الغربية بشكل عام، والنظرة الأمريكية بشكل خاص ترافقت مع المشروع العالمي المختلق الكاذب (الحرب على الإرهاب) والذي ابتدأته أمريكا بعد أحداث أيلول 2001م في أفغانستان والعراق، وهذا المشروع أساسه الحرب على الإسلام، وليس الإرهاب كما ادعت أمريكا وأدواتها من دول المنطقة مشاركةً مع القوى العالمية الكافرة، ومنها كيان يهود.
إن هذا المشروع الجديد له نظرة واسعة تخصُّ جميع دول المنطقة، وله نظرة خاصة لقضية فلسطين، والنظرتان تلتقيان في خط واحد؛ هو الحرب على الإسلام، ودعم كيان يهود دوليًا وإقليميًا. وأبرز الأمور في خدمة هذا المشروع:
1- إيجاد قوة إقليمية مشتركة (ناتو عربي) لدعم هذا المشروع، ومحاربة أية قوة تقف في وجهه، وقد دعا إلى إيجاد هذه القوة وزير خارجية أمريكا في زيارته للقاهرة بتاريخ 11/12/2019م؛ حيث قال: (تعمل إدارة ترامب على تأسيس التحالف الاستراتيجي – للشرق الأوسط – لمواجهة التهديدات الأكثر خطورة في المنطقة… وقال نائب مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الخليج العربي، تيم لاندركينغ، إن الإدارة الأمريكية تخطط لعقد قمة في كانون الثاني المقبل لتدشين الحلف الجديد… كما قال لاندركينغ في مقابلة مع صحيفة _ناشونال» الإماراتية إن التحالف الجديد سيضم تسع دول عربية على رأسها دول التعاون الخليجي، بالإضافة لمصر والأردن و الولايات المتحدة.
2- تفعيل مشروع صفقة القرن تجاه قضية فلسطين بثوب جديد يتوافق مع النظرة الجديدة لمشروع الحرب على الإرهاب، ومنه تمكين اليهود من كامل أرض فلسطين، والتركيز على إيجاد دولة وهمية في غزة، تمتد إلى سيناء مستقبلًا. يقول الباحث منصور أبو كريم في مقال له على الجزيرة نت تحت عنوان: «صفقة القرن والأبعاد الإقليمية… الشرق الأوسط الجديد»: «البعد الإقليمي في صفقة القرن واضح من خلال التركيز على العلاقات الإقليمية بين (إسرائيل) والدول العربية من خلال التعاون الأمني والسياسي المشترك عبر تكوين ناتو جديد… وإقامة مشاريع تنموية واقتصادية في منطقة الشرق الأوسط تكون اللَّبِنة الرئيسة لإقامة نظام شرق أوسطي جديد يضم (إسرائيل) ودول المنطقة…».
3- السعي لإيجاد شرق أوسط جديد أو كبير وسوق شرق أوسطية يضم دولًا عديدة بدل المشاريع السياسية القديمة، ويكون ليهود الدور الأبرز في هذا المشروع… وفكرة الشرق الأوسط الجديد بدأت مع تأسيس كيان يهود في المنطقة لدعمه وترسيخه، وبرزت بشكل فاعل في عهد الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن بعد احتلال العراق وأفغانستان 2003م.. وقد صرحت كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية عام 2005م في عهد بوش الابن فقالت: «تسعى الولايات المتحدة لإيجاد (الشرق الأوسط الجديد) وذلك لفرض القيم الديمقراطية في العالم العربي كما حدث في العراق العام 2003م».
4- إيجاد جامعة شرق أوسطية تكون داعمة لمشروع الشرق الأوسط الجديد… بمفاهيم تتلاءم مع وجود كيان يهود فيها، وتضع ثقافة جديدة لأبناء المنطقة، وتدعم فكرة التعايش السلمي بين الديانات، والتطبيع السياسي والفكري والاقتصادي بين دول المنطقة، فقد قالت صحيفة (العرب اليوم) الأردنية بتاريخ 2002م: «يسعى الرئيس جورج بوش الابن من أجل إدخال «إسرائيل» في منظومة الأمن العربية، وكذلك توقيع اتفاقات كبرى للتعاون الاقتصادي بين «إسرائيل» والدول العربية وإقامة علاقات متكاملة معها… ولا بد من إعادة رسم المنطقة كلها على أسس جديدة، وأن ذلك ضروري لمكافحة ما يسميه الإرهاب».
هذه هي نظرة الغرب القديمة ومشاريعها وتصوراتها الجديدة بخصوص قضية فلسطين وحق المسلمين فيها، وبخصوص دول المنطقة المحيطة بفلسطين. فهل سينجح الغرب ومعهم العملاء من الحكام في ترسيخ أطماعهم ومشاريعهم السياسية في بلاد المسلمين، وخاصة في الأرض المباركة؟ وما هي العقبات التي تواجه الغرب في هذا المشروع الخطير على أمة الإسلام وعلى مقدساتهم؟!.
وقبل الإجابة على هذا السؤال نقول: إن الأمة الإسلامية قد واجهت في تاريخها الطويل مشاريع أخطر وأكبر من هذا بكثير، ووقفت في وجهها بل وأفشلتها وأبطلتها، وهي أشد ضعفًا من واقعنا اليوم، وذلك مثل المشروع الصليبي في القرون الوسطى، ثم المشروع المغولي، ثم وقفت #الأمة مرة أخرى على أقدامها تدافع عن مقدساتها وكرامتها، وتلتف حول دينها. وهناك أمور كثيرة تبشر بوقوف الأمة ورفضها لمثل هذه المشاريع، وبانتكاسة الغرب في تطبيقها ومحاولات إنجاحها. ومن هذه الأمور:
1- إن الأمة في مشارق الأرض ومغاربها، ترفض الكفر بشكل عام، وترفض اليهود بشكل خاص، وهذا ما عبَّر عنه رئيس وزراء كيان يهود في الكنيست بعد مرور أربعين عامًا على معاهدة كامب ديفيد حيث قال: (ما زال السلام مع مصر سلامًا باردًا يقتصر على الدبلوماسية فقط، ولم يتعدَّ إلى الشعوب).
2- إن أفكار الغرب وسياساته تفشل وتنتكس في عقر دارهم وتتخلى عنها شعوبهم، وليس أدل على ذلك من الأزمات المتتابعة الفكرية والسياسية في بلاد الغرب، وعندما تنظر الشعوب إلى ما يجري في بلاد الغرب؛ فإنها ترفض مشاريعه السياسية، وترفض فكره وطريقة عيشه… ففي 15/10/2011م (انتشرت الاحتجاجات للمرة الأولى لتشمل جميع مدن العالم؛ إذ خرجت المظاهرات في أكثر من 1500 مدينة حول العالم؛ مئة منها في الولايات المتحدة وحدها، وتحوَّلت المظاهرات إلى اشتباكات عنيفة في عواصم كثيرة حول العالم).
3- التفاف الأمة حول دينها ورجوعها إليه بشكل سريع وفاعل في كل بلاد المسلمين، ودعوتها لإحياء المشروع السياسي الإسلامي في بلادها… وقد كان لضياع فلسطين والتفريط بها الأثر الأقوى في التفاف الأمة حول هذا المشروع وحول العاملين في طريقه.
4- انكشاف الحكَّام أمام شعوبهم لدرجة الثورة في وجوههم وخاصة بعد ثورات سنة 2011م، ويزيد هذه النار فوق رؤوسهم ما يجري من تهافت حول نار اليهود، وقبولهم بالهرولة السريعة في أحضانهم وأحضان أسيادهم من الكفار الغربيين…
التقت الإمبريالية مع الصهيونية في عدائهما للامة العربية والتآمر عليها منذ أوائل القرن العشرين، ومع ذلك فالكيان الصهيوني الذي يعد صنيعة الدول الإمبريالية، حاول ان يتميز بالموقف والرأي في كثير من مقومات وجوده. وقد وقفت الدراسة على عوامل القوة وعوامل الضعف في الحركة الصهيونية وكيانها الاستيطاني، ومن ثم استشراف ملامح مرتكزات المجابهة معهما.
وفي اطار التحديات الداخلية توقفت الدراسة عند تحدي التجزئة القطرية التي جاءت ثمرة اتفاقية سايكس -بيكو وتطورها من حالة جغرافية ، الي حالة سياسية قانونية، اذ اصبح لكل قطر دولة وعلم ودستور واعتراف دولي بها مهما كان حجمها وثقلها الاقتصادي أو السكاني , وكذلك ما فعلته الطائفية والعرقية من تفتيت جغرافي جديد . كما عالجت الدراسة تحدي الأقليات القومية التي وصلت مطالبها في بعض الأحيان حد الانفصال عن الدولة وكذلك المجموعات الدينية والطائفية،
واستغلال الإمبريالية الصهيونية هذه الإطارات السياسية والأيديولوجية المغطاة بغطاء الدين لتفكيك المجتمع العربي وهز الشخصية العربية والنيل من مقوماتها القومية ومن ثقافتها ومن تراثها الحضاري العريق. وكانت النقطة المركزية التي أثارتها الإمبريالية في هذا الاطار هي الديمقراطية وحقوق الأنسان.
يعرف الصهيونيون، يدرسون، يحللون كل التوازيات بين الصليبيات الغربية وبين الصهيونية، ويتوقفون عند النهاية المأسوية يريدون تفاديها، إنهم وهم المهرة في استخدام التاريخ ولي عنقه، يحاولون أن يهربوا من لحظته الأخيرة! فأين هذا التوازي وأين ينتهي؟
سآتي على التشابهات فقط وأترك التباينات القليلة، وهي ناجمة عن اختلاف العصرين، إن كل الاستراتيجية والتكتيك الصهيونيين موجودان في الصليبيات.
إنا لا نكاد نجد في التاريخ حركة كالحروب الصليبية كان نصيبها من الخيال وتأثير الأسطورة بقدر نصيبها من الآلام المآسي، إلا الحروب الصهيونية، والغريب أن مكان الكارثتين واحد، هو فلسطين، ولسنا نحتاج إلى أي جهد في التقاط التوازي الذي يصدم العين بين المغامرة الصليبية الفاشلة والمغامرة الصهيونية التي تقلدها، المغامرتان من نسيج واحد، يكفي أن نقرأ قصة إحداهما لتقفز الأخرى أمامك على الأسطر، على كل سطر وفي النقاط والفواصل، وإن شئت تحركت في الحديث قافزاً من هذه إلى تلك ومن تلك إلى هذه دون أن تحس بأنك تقفز 800 أو 900 سنة بعواصفها وأثقالها، دعونا نمش في المغامرتين خطوة خطوة، إن التشابه يبدأ هنا منذ الخطوة الأولى.
أولاً: القضية الصهيونية في منظورها الشامل إنما هي مشكلة أوروبية داخلية خالصة، وجدت حلها في عمل خارجي وعلى أرض خارج أوروبا، والقضية الصليبية بدورها إنما هي مشكلات أوروبية داخلية بدورها حلت على الطريقة ذاتها، التكاثر السكاني قبل الصليبيات مع تدهور الزراعة وانتشار المجاعات وكوارث الطبيعة والأوبئة سنوات طويلة بعد أخرى، وتعاظم المشاعر الدينية، إضافة إلى الظلم الإقطاعي وتراكم الديون الربوية وكثرة الفرسان، ولا أرض للفرسان فيما الحروب الداخلية تفترس الأمن والبشر، كل ذلك كوّن مشكلة التكاثر السكاني وحقد الأوروبيين على اليهود المرابين ومشكلات العمال الفقراء في شرق أوروبا والزحام القومي الهتلري وكلها غارقة في الجذور الاقتصادية بإلقاء هذه الفضلات البشرية- في نظرها من النافذة على الجيران!
ثانياً: ونمضي خطوة أخرى، لنرى أن الحركة الصليبية شملت كل أوروبا، في الصليبيات تحركت جموع شتى من مختلف الأمم الأوروبية من السويد والنرويج، من إنكلترا وفرنسا ومن ألمانيا والدانمرك وقلب المجر، كلهم تحركوا نحو إغراء المشرق! لم تكن الحركة ثماني حملات كما يزعمون، كانت مدداً لا ينقطع، وسيلاً من البشر يتحرك على السفن وفي البر مدار السنوات المائتين التي امتدتها الحروب، قد تكون الحملات بدورها أكثر من مائتين أو ثلاثمائة حلمة صغيرة وكبيرة لبضعة ملايين، بعضهم حجاج، وبعض محاربون، وكثير منهم تجار أو مغامرون، وأكثرهم فقراء، الكل نزحوا وراء حلم يمتزج فيه المسيح برفيف الذهب، هل يذكركم هذا بمجموعة الأمم التي تحشد منذ مائة سنة في فلسطين، بابل القرن العشرين، لغات وأجناساً وعادات ومن كل زوج غير بهيج؟ وتحشد وراء حلم يمتزج فيه الإله يهوا بطائرات الفاتنوم؟
ثالثاً: وكما انتصب للصليبيات قائد فكري في شخص البابا أوربان الثاني، الذي أعلن الحركة في مجمع كليرمون سنة 1095، وحدد لها الطريق والهدف النهائي: فلسطين أرض المسيح، أطلقها وترك لمن بعده المسير بها وتحمل عقابيها، كذلك كان للصهيونية رائدها الفكري في شخص ثيودور هرتزل، الذي كتب لها كتاب الدولة اليهودية سنة 1896، ثم أعلن مع المؤتمر الصهيوني الأول سنة 1897 في بال أن مكان هذه الدولة هو فلسطين: أرض إسرائيل، كان هرتزل هو بابا الصهيونيات، أطلقها وترك للآخرين مهمة التنفيذ.
رابعاً: ونصل إلى العامل الديني في الحركتين الصليبية والصهيونية، لنرى أشكالاً لا تنتهي من التوازي والتشابه تحتاج إلى التوقف الطويل والتعداد الطويل:
أ- ما الذي رفعه الصليبيون هدفاً، وما الذي رفعه الصهيونيون؟ شعار واحد رفعه الطرفان الصليبيون تحركوا لتخليص القبر المقدس، والصهيونيون تحركوا لتخليص الهيكل المقدس، ولو أنه لم يبق منه إلا في الذاكرة التوراتية شيء على الأرض! الإيديولوجية التي رفعت في المشروعين واحدة، وراء كل من الشعارين حينئذ لا ينتهي من المشاعر الدينية المتقدة، ولكنها تتمركز في النهاية في كلمة محددة، وفي نقطة من الأرض محددة بدورها، وكما سمي الصليبيون فلسطين أرض المسيح يعنون بذلك أنها أرضهم، كذلك يقول الصهاينة إنها “أرتز إسرائيل” أرض الميعاد، بوعد توراتي لا يزول.
ب- إذا كانت الحرب الصليبية أول حرب إيديولوجية، بعد الفتوح الإسلامية، وكانت هذه الإيديولوجية دينية بالضرورة، ولم يكن بالإمكان تحريك الجموع في العصور الوسطى الغارقة في الدين دون إيديولوجية دينية، فإن هذه الإيديولوجية نفسها قد استخدمت من قبل الصهيونية في تحريك آخر جماعة متحجرة مغلقة من الجماعات الأوروبية، وهم اليهود، للغرض نفسه في الحرب الصهيونية القائمة، محو الإثارة عند الطرفين هي فلسطين والقداسة فيها للقبر أو للهيكل.
ج- لم تحمل الحروب الصليبية هذا الاسم الديني أبداً لا في عهدها ولا بعده، في القرن السابع عشر ولأسباب تبريرية دينية شاع هذا الاسم ليغطي برداء الصليب فترة مائتي سنة من المآسي والحروب ليس لها ما يبررها، المسلمون الذين عاصروها والكاثوليك الغربيون الذين شنوها كانوا على السواء يسمونها باسمها: الأوائل يسمونها حروب الفرنجة، والآخرون يسمونها المآثر والأعمال التي تمت فيما وراء البحار، أو التي تمت في الشرق، أو أعمال الفرنجة، الحركة الصهيونية بدورها لم تسم نفسها الحركة اليهودية، وسمت نفسها الحركة الصهيونية، ولو أن العنصرية اليهودية المتزمتة تلفها بكلمات التوراة وإسرائيل والناموس والشمعدان السداسي العتيق.