يعد موضوع الاقتصاد الأخضر من الموضوعات الحديثة والمهمة التي يجب التركيز عليها، إذ يحظى باهتمام المجتمع الدولي ومنظمات حماية البيئة، فهو نموذج جديد من نماذج التنمية الاقتصادية سريعة النمو التي تعتمد بشكل مباشر على الاستثمارات الخضراء الهادفة إلى معالجة العلاقة المتبادلة بين الموارد الطبيعية للبيئة، وبين استغلال هذه الموارد بما يخدم المجتمع ويحقق الرفاه الاقتصادي،
والحد من الأثار العكسية للنشاطات الإنسانية على التغير المناخي، والاحتباس الحرارى واستنزاف الموارد. وفي الوقت الراهن، لا يزال الاستثمار في الممارسات المستدامة يتضاءل أمام تدفق رأس المال إلى الوقود الأحفوري وغيره من القطاعات والممارسات غير المستدامة،
حيث تقدر المؤسسات العالمية المعنية بتغير المناخ أن حوالي 2.4 تريليون دولار أو ما يقرب من 2.5 %من الناتج المحلي الإجمالي العالمي يجب استثمارها سنويًا في مجال الطاقة النظيفة بين عامي 2016 و 2035، للحد من ظاهرة الاحتباس الحراري، وهو أمر من غير المرجح أن يتم الوفاء به عند مستويات الاستثمار الحالية، وهو ما يفتح المجال أمام التمويل الأخضر كأحد أهم سبل التمويل المستدام وعلى خلفية تحقيق أهداف التنمية المستدامة العالمية، يطالب الاستثمار العالمي باستخدام عائدات التمويل في المشروعات المستدامة بيئيًا والمستجيبة اجتماعياً.
وهذا يفسر أيضًا الاهتمام العالمي بمراقبة أداء الشركات من حيث المسؤولية الاجتماعية والبيئية. وقد أدت الحاجة العالمية للتمويل من أجل حلول مستدامة ( التمويل الأخضر ) إلى تطوير أدوات تمويل مبتكرة مثل القروض والسندات الخضراء. وتعد الأخيرة هي الأكثر انتشارا واستخداما على المستوى العالمي، حيث يتم إصدار معظم تلك السندات لتمويل مشروعات بيئية مثل توليد الطاقة المتجددة، والحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري من خلال أنظمة النقل، ومعالجة مياه الصرف الصحي، والوسائل الفعالة لإدارة النفايات الصلبة.
كما تُمكِّن وتشجع القطاع الخاص من المساهمة بشكل كبير ومباشر في الحفاظ على البيئة على المدى الطويل وتحقيق أهداف النمو الاقتصادي المستدام.
يعتبر مصطلح التنمية المستدامة من المصطلحات الحديثة نسبيا، حيث ظهرت في عام 1974 في أعقاب مؤتمر ستوكهولم، واتخذ المفهوم اطار أكثر وضوحا في قمة ( ريو دى جانيرو) للمرة الأولى حول البيئة والتنمية المستدامة في عام 1992، حيث ركزت القمة على صياغة استراتيجيات التنمية المتعلقة بتحقيق العدالة الاجتماعية والحد من الفقر، وضمان حماية البيئة في المستقبل.
والتي عرفت فيها التنمية المستدامة على أنها ” عملية طويلة الأجل يتم من خلالها التنبؤ بالمتغيرات الاقتصادية المستقبلية، وتعتمد في أهدافها على الإمكانات الموجودة في الوقت الحاضر، لذلك فهي تنمية تشترط عدم استنزاف الموارد الطبيعية حتى يمكن استفادة الأجيال القادمة منها “. وتشمل ثلاثة أبعاد رئيسية كالتالي:-.
– البعد الاقتصادي:
ويعنى مفهوم التنمية المستدامة بضرورة تحقيق الاستمرارية في العملية الإنتاجية، وبالطريقة التي تضمن التوازن بين استغلال الموارد المتاحة، ورأس المال المتاح، كذلك خلق موارد جديدة متنوعة تسهم في تحقيق أكبر قدر ممكن من النمو الاقتصادي، والعدالة في توزيع ثمار التنمية الاقتصادية.
–البعد الاجتماعي:
ويركز هذا البعد على أن الإنسان هو الأكثر استفادة من عملية التنمية، حيث تسهم في رفع مستوى رفاهيته، وينعم من خالها بحياة كريمة مناسبة، يتوافر فيها مقومات العدالة الاجتماعية.
– البعد البيئي:
من خلال مراعاة عدم استنزاف واستهلاك الثروات البيئية منعا للوصول الي مرحلة تدهور النظام البيئي، والمحافظة علي التنوع والتوازن البيولوجي بما يضمن حماية الطبيعة، وضمان إنتاج الموارد المتجددة مع عدم استنزاف الموارد غير المتجددة.
وقد تبنت الأمم المتحدة خطة التنمية المستدامة لعام 2030، ووضعت أهداف التنمية المستدامة التي تضم 17 هدفا و169 غاية بعيدة المدى، والتي تتضمن ( إنهاء الفقر، القضاء على الجوع، الصحة الجيدة والرفاهية، التعليم الجيد، المساواة بين الجنسين، المياه النظيفة والصرف الصحي، طاقة نظيفة بأسعار معقولة، والعمل اللائق والنمو الاقتصادي، الصناعة والابتكار والهياكل الأساسية، الحد من أوجه عدم المساواة، مدن ومجتمعات مستدامة، الاستهلاك والإنتاج المسؤولان، العمل المناخي، الحياة تحت الماء، الحياة على البر، السلام والعدل والمؤسسات القوية، وعقد الشراكات لتحقيق الأهداف)
وفى قمة الأرض التي عقدت في عام 2012 بالبرازيلعالمياً:لتحول نحو الاقتصاد الأخضر لأول مرة الوسيلة الرئيسية لتحقيق التنمية المستدامة. حيث اتفقت الحكومات على تأطير الاقتصاد الأخضر كأداة مهمة لمتطلبات التنمية طويلة المدى ؛ ووسيلة لدفع النمو الاقتصادي والعمالة والقضاء على الفقر، مع الحفاظ على الأداء الصحي للنظم البيئية للأرض
ثانياً – مفهوم التمويل الأخضر وأدواته وتطوره عالمياً :
– تعريف الاقتصاد والتمويل الأخضر:
يعرف برنامج الأمم المتحدة للبيئة الاقتصاد الأخضر بأنه : الاقتصاد الذى يحسن حياة البشر ويضمن لهم تحقيق الرفاهية والعدالة الاجتماعية، كما أنه يهتم في الوقت ذاته بالحفاظ على البيئة والنظام الأيكولوجي من أي مخاطر تؤثر عليه في الحاضر أو المستقبل ” , ومن هذا المنطلق فهو اقتصاد يهتم بالأبعاد البيئية، ويسهم في الأهداف الأممية للتنمية المستدامة وأهمها : القضاء على الفقر، والصحة الجيدة والرفاه الاجتماعي، والمياه والطاقة النظيفة، واستحداث فرص العمل، والعمل المناخيوفى نطاق مفاهيم الاقتصاد الأخضر، ظهر اتساقا معه مفهوم التمويل الأخضر الذى تعددت تعريفاته، منها على سبيل المثال تعريف منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية The Organisation for Economic Co-operation and Development (OCED) بأنه : ذلك التمويل الذى يستهدف المشروعات الاقتصادية التي تحافظ على البيئة ومقدراتها، وتقلل النفايات المعرضة لها الي الحد الأدنى، كما تحسن من كفاءة استخدام الموارد الطبيعية المتاحة وتسعى الي تعظيمها في المستقبل
كما يقصد بالتمويل الأخضر ” أدوات ومنتجات مالية جديدة تستخدم من أجل تمويل المشروعات التي تسعى للحفاظ على مقومات البيئة الطبيعية ولا تتسبب في أضرار بالغة لها، وتشمل تلك الاستثمارات كل من : مشروعات حماية البيئة من التلوث والانبعاثات الكربونية، مشروعات إعادة تدوير ومعالجة النفايات، توليد الطاقة المتجددة مثل طاقة الرياح والطاقة الشمسية،…الخ
“. وهناك تعريفات أخرى للتمويل الأخضر تتمثل في كونه ” الأموال التي تستخدم للحفاظ على التوازن ما بين مكتسبات البيئة ومقوماتها في الوقت الحاضر، وبين ما يمكن أن تصل اليها في المستقبل في الأجل المتوسط أو الطويل، بحيث يتم توظف التمويل في المشروعات التي تستهدف تلبيه حاجات الأفراد من السلع والخدمات وفى نفس الوقت تحافظ على البيئة ودوام مواردها “.
وقد شهد السوق العالمي للتمويل الأخضر نموًا سريعًا، في ظل تطوير أدوات مالية مختلفة تصنف على أنها خضراء، لتشمل ما يلى:-
– القروض الخضراء: وهى القروض التي توجه لتمويل المشروعات البيئية، أو تلك المشروعات التي تحافظ على المعايير المستدامة وفقاً لخطط الدول نحو التحول الأخضر، وعادة ما تكون ذات أسعار فائدة أقل نسبياً من القروض الأخرى لتشجيع المقترض على إقامة المشروعات التي تخدم أهداف التنمية المستدامة المواتية للبيئة.
–القروض المستدامة: وتقدم القروض المرتبطة بالاستدامة شكلاً بديلاً للقرض الأخضر مع فارق وحيد وهو إمكانية زيادة سعر الفائدة على القرض أو خفضه وفقًا لتغير المقترض في تصنيف الاستدامة خلال الفترة الزمنية للقرض، فعند انحرافه عن مبادئ التمويل المستدام عادة ما ترتفع سعر الفائدة.
– السندات الخضراء: يُعرف البنك الدولي السندات الخضراء على أنها صكوك استدانة تصدر للحصول على تمويل يختص بالمشروعات المستدامة المتعلقة بالبيئة والمناخ، وذلك لتشجيع الحفاظ على البيئة، مثل مشروعات الطاقة النظيفة، والحفاظ على المناخ، والإدارة المستدامة للنفايات، وغيرها، كما تختلف السندات الخضراء عن غيرها في أنها تخلق التزاما بإنفاق التمويل الناتج عنها في مشروعات خضراء.
ويعرفه المعهد الألماني للتنمية على أنه : تمويل الاستثمارات الخضراء سواء كانت في القطاع العام أو الخاص والتي تشمل عدة مجالات مثل: تمويل إنتاج السلع والخدمات البيئية، وتقديم التعويضات جراء الخسائر التي لحقت بالبيئة، والوقاية منها كصيانة السدود توليد الطاقة المتجددة، وتمويل السياسات العامة التي تشجع الزراعة البيئية والمشاريع الأيكولوجية
وتعتبر السندات الخضراء أكثر أدوات التمويل الأخضر انتشاراً واستخداماً على مستوى الدول العالم. وعلى الرغم من أنها تتميز بنفس سمات السندات التقليدية من حيث الهيكل والمخاطر والعوائد المتوقعة، إلا أن السندات الخضراء يمكن تمييزها من خلال غرضها البيئي المخصص للمشروعات ذات النتائج الإيجابية للمناخ والاستدامة البيئية وعلى الرغم من إصدار أول سندات خضراء في عام 2008، فقد تطور السوق بشكل كبير بعد عام 2015، حيث زاد الاهتمام العالمي بتمويل مشروعات الطاقة الخضراء تنفيذا للأهداف التنموية للأمم المتحدة.
حيث شهدت تزايداً ملحوظاً بعد عام 2013، مع زيادة في الإصدارات بأكثر من 300 مرة ضعف ما كانت عليه في الفترة ما بين ( 2007-2019 ) ومتوسط معدل نمو سنوي قدره 104 % خلال نفس الفترة. واكتسب الطلب على السندات الخضراء زخمًا كبيرًا بعد صياغة وتوقيع اتفاقية باريس للمناخ في عام 2015 ليصل الي نحو 134 مليار دولار فى عام 2017
. واستمر التمويل الأخضر في الزيادة ليصل في عام 2019 الي 5.266 مليار دولار أمريكي مقارنة ب 171.4 مليار دولار أمريكي في عام 2018
ووفقًا لشركة “تومسون رويترز”، فقد تم إصدار ما مجموعه 185.4 مليار دولار من السندات الخضراء في عام 2019 فقط.[xiv] وقد انتعش إصدار السندات الخضراء في النصف الثاني من عام 2020 ليصل إلى 269.5 مليار دولار أمريكي بحلول نهاية ديسمبر من العام ذاتهواستمر في الارتفاع ليبلغ 279 مليار دولار أمريكي حتى سبتمبر]2021. وذلك على الرغم من انتشار جائحة كورونا ؛ ويرجع ذلك الي ظهور السندات والصكوك الخضراء في 53 دولة إضافية في عام 2020، وكانت تلك الزيادة مدفوعة بمحاولات بالهيئات السيادية والشركات متعددة الأطراف والبنوك لتمويل خططهم للحد من التأثير الاقتصادي لوباء كورونا.
هذا في الوقت الذى تواصل فيه أوروبا هيمنتها على سوق التمويل المستدام، بحصة سوقية تبلغ 48 %، يليها الأميركتان بنسبة 28%، وآسيا والمحيط الهادئ 18%. حيث قادت الولايات المتحدة سوق التمويل الأخضر – عن طريق اصدر السندات الخضراء – بحجم يصل الي (51.1 مليار دولار أمريكي) في عام 2020، وألمانيا في المرتبة الثانية (40.2 مليار دولار أمريكي)، وفرنسا ثالثًا (32.1 مليار دولار أمريكي)، وجاءت الصين في المرتبة الرابعة (17.2 مليار دولار أمريكي)، وهولندا (17.0 مليار دولار أمريكي)، ثم تأتى في المراتب الأخرى كل من : السويد واليابان وكندا وبعض الدول الأوروبية والأسيوية،