كتب/ د.عادل عامر
يعتبـر التفـاوت فـي توزيـع الدخـل والفسـاد أهـم المشاكل الاقتصادية والاجتماعية فـي المجتمعات الحديثـة، حيـث يمثـل الفسـاد أكبــر العقبـات التــي تعتــرض التنميـة الاقتصادية والاجتماعية علـى المدى الطويـل وخاصـة فـي البلـدان الناميـة.
أمـا عدالـة توزيـع الدخـل، فقـد أصبحـت أهـم القضايـا التي تثيــر اهتمـام الشـعوب كافـة وتمثـل أهـم مطالبهـا. وقـد أولـت مصـر بهاتيـن القضيتيـن منـذ بدايـة العقـد الثاني مـن القـرن الحادي والعشريـن، وانعكـس ذلـك بوضـوح فـي رؤيـة مصـر2030 والتي تمثـل العدالـة الاجتماعية أهـم محاورهـا، ومحاربـة الفسـاد أهـم الممكنات الاستراتيجية لهـا وذلـك بإيجـاد نظـام رقابـي حكومـي واضـح وشـفاف يتـم تطبيقـه بإنصـاف.
إن إعادة توزيع الدخل والثروة جزء لا يتجزأ من أي نظام اقتصادي سياسي، وهى قضية لا تأتى لاحقة على الإنتاج والتوزيع بل هي جزء رئيسي منهما، ولا تنبع فحسب من منطلقات اجتماعية أو سياسية أو إنسانية بقدر ما أن لها منطقا اقتصاديا كذلك.
وفى مصر لا سبيل للحديث عن نموذج اقتصادي اجتماعي أكثر عدالة وأكثر تنموية ــ وبالتالي أكثر شرعية من الناحية السياسية إلا بإعادة هيكلة الإنفاق والإيرادات الخاصة بالدولة.
ففي شق الإنفاق لا محيد عن رفع معدل الاستثمار الحكومي في البنية الأساسية وفى التنمية الإنسانية خاصة التعليم والتدريب المهني والرعاية الصحية والضمان الاجتماعي، ويكون هذا بإعادة توجيه المصروفات من تلك الجارية (بنود الدعم والأجور وخدمة الدين) إلى نفقات استثمارية لها عائد بعيد المدى يتكامل مع بناء قدرة الاقتصاد على التنافسية وتوليد النمو من ناحية،
وعلى رفع إنتاجية العامل ومن ثم دخله من ناحية أخرى. ولا يكون هذا كذلك إلا بزيادة نسبة الضرائب للناتج المحلى الإجمالي، وإخضاع الفئات الحائزة لرأس المال وللملكيات التي راكمت ثروات في العقود الماضية للمزيد من الضرائب التي من المفترض أن تولد الدخل الحكومي المطلوب لتمويل الاستثمار في البنية البشرية والمادية للاقتصاد.
لم تكن ممارسات الفساد والمحسوبية وغياب حكم القانون هي العامل الرئيسي وراء الأداء غير التنموي وغير العادل للنموذج الاقتصادي الاجتماعي في مصر بل إن المسألة أشد عمقا من هذا وتتصل بالسياسات النيوليبرالية
وما أسهمت فيه بشكل مباشر في تخفيض مستويات المعيشة لقاعدة عريضة من المصريين، وما أدت إليه من خفض لمعدلات الاستثمار مع انسحاب الدولة وتعمق أزمتها المالية، ومن هنا فإن مكافحة الفساد والمحسوبية على أهميتها لا تقف بديلا عن تعديل السياسات العامة وإعادة تعريف دور الدولة في علاقته بالاقتصاد. لا يعنى نقد السياسات النيوليبرالية نقد التحول الرأسمالي جملة والدفع بأنه غير صالح أو أنه غير تنموي على غرار مقولات مدرسة التبعية في الستينيات والسبعينيات، بل يعنى ببساطة أن مصر بحاجة لإعادة تعريف الشكل المؤسسي لنظامها الرأسمالي حتى يكون أكثر عدالة وأكثر تنموية. وقد استقر اليوم في أدبيات الاقتصاد السياسي والاجتماع الاقتصادي أنه ما من شكل مؤسسي واحد للرأسمالية، وأن ما يطلق عليه نظام رأسمالي قد يحوى ترتيبات مؤسسية متفاوتة بل ومتضاربة على المستوى القومي من دولة لأخرى، فقد تعتمد على آليات السوق بالأساس في تخصيص الموارد كالنموذج الأنجلو ــ أمريكي، وقد تعتمد على آليات تنسيق مؤسسي بين نقابات تمثل رأس المال ونقابات تمثل العمال بحضور حكومي كحال الدول الإسكندنافية وألمانيا والعديد من دول القارة الأوروبية، وقد تستند لتنسيق مؤسسي دائم بين رأس المال الكبير وبين الدولة كحال اليابان وكوريا الجنوبية.
ان فكرة التصدى لسوء التوزيع وتحقيق العدالة وتوفير الفرص للمواطنين في الاردن ليست فكرة غريبة، فأي منصف يستطيع ان يقرأ ملامحها الواضحة في كتاب التكليف السامي للحكومة الحالية والذي أكد ضرورة «تمكين الاردنيين من حفز طاقاتهم،ورسم أحلامهم والسعي لتحقيقها،وتلبية احتياجاتهم عبر خدمات نوعية……ومنظومة أمان اجتماعي تحمي الضعيف في ظل بيئة ضريبية عادلة…….على الحكومة أن تقوم بمراجعــة شــاملة للمنظومــة الضريبيــة والعــبء الضريبــي بشــكل متكامــل، ينــأى عــن الاســتمرار بفــرض ضرائــب اســتهلاكية غيــر مباشــرة وغيــر عادلــة لا تحقــق العدالــة والتــوازن بيــن دخــل الفقيــر والغنــي،…
..،إن الحــوار والتواصــل وبنــاء التوافــق هــو مــن أهــم الأدوات التــي علــى الحكومــة أن ترتكــز إليهــا فــي انفتاحهــا وتواصلهــا مــع الســلطات الأخــرى ومــع المواطنيــن. فعلــى الحكومــة أن تســتمع للمواطنيــن وتشــرح، بــكل شــفافية وموضوعيــة، الآثــار العميقــة التــي خلفتهــا وتخلفهــا الظــروف الاقتصاديــة الصعبــة التــي مررنــا ونمــر بهــا، لأن فهــم الواقــع هــو المفتــاح لبلــورة أي إجــراءات أو تشــريعات ضروريــة لتجــاوز الظــرف الاقتصــادي الصعــب».وفي حال تم وضع السياسات اللازمة لتحقيق التوجيهات الملكية سنكون قد قطعنا شوطاً طويلاً في تحقيق اعادة توزيع عادلة للدخل وساهمنا بشكل فعال في بناء منظومة متكاملة لتعزيز الفرص والقدرات والتصدي لمصاعب اللامساواة والتفاوت.
هناك العديد من المطالبات باعادة النظر في الانظمة الضريبة بشكل يضمن تصاعديتها وخاصة على ذوي الدخول والثروات المرتفعة، وبحيث تصبح ضريبة الدخل والضريبة على الثروة هي الاساس الذي يؤمن ايرادات تمكن الحكومات من توجيه مزيد من المصادر المالية لتحسين الخدمات المقدمة للمواطنين بما فيها خدمات البنية التحتية والخدمات الصحية والتعليمية باعتبار ذلك خطوة اساسية لاعادة توزيع الدخل بشكل عادل بين المواطنين ذوي الدخول المختلفة من جهة وبين المناطق الجغرافية من جهة اخرى،خاصة وان الربع الاخير من القرن الماضي شهد تراجعاً واضحاً في نسب ضريبة الدخل على الافراد والشركات اضافة الى غياب شبه كامل لضريبة الثروة او التركات.
ولا شك بان هناك اساساً معقولاً لهذه المطالبات،الا ان ما قد يترتب عليها من اثار يتطلب النظر لها بحذر شديد،ففي عالم اليوم يمكن ان تنتقل الثروات بين منطقة واخرى خلال دقائق،كما ان الدول المختلفة تتنافس فيما بينها لجذب الاستثمارات وهي في سبيل ذلك تلجأ لتخفيض نسب الضريبة،ناهيك عن توفر ملاذات ضريبة في مناطق مختلفة من العالم،
وهذا يعيدنا الى مربع تحديد الاولويات على المدى المتوسط والطويل وموضوع استدامة النمو،ويبرز تساؤل منطقي للمفاضلة بين جني ايرادات بنسبة أكبر أم العمل في سبيل تحقيق نسب أعلى من النمو،وبالتالي تكبير الكعكة ليصبح بالإمكان المشاركة فيها وزيادة حصيلة الايرادات عبر ذلك،ومن المؤكد ان فكرة زيادة النسب الضريبية او فرض ضريبة على الثروات لا يمكن ان تنجح في حال تم تطبيقها في دولة بعينها،بل قد تكون نتائجها عكسية، ولكن هذا لا ينفي ضرورة السعي الى تكوين مزيج ضريبي ملائم يخفف العبء عن الفئات الفقيرة ونحن هنا نعني ضريبة المبيعات او ضريبة القيمة المضافة والتي تتصف بعدم العدالة لانها تطبق بنفس النسبة على مختلف المستهلكين بغض النظر عن مستوى دخلهم،أما ضريبة الدخل فمن المعلوم انها ترتبط بمستوى الدخل الذي يحققه الافراد او الربح الذي تجنيه الشركات،ولكن ما يجب ان لا يغيب عن بالنا هو ان المصادر الرئيسية لعدم العدالة وسوء التوزيع مثل البيئة الاجتماعية بما فيها الجنس والعمر والعرق ومستوى تعليم رب الاسرة وثروة الاسرة واماكن الاقامة، فهذه العوامل اضافة الى عدم تكافؤ الفرص تحدد بشكل او باخر الملامح المستقبلية للمجتمع بشكل عام.
وفي ذات الاطار عقد معهد بترسون للاقتصاد الدولي مؤتمراً في شهر تشرين أول الماضي تحت عنوان «مكافحة اللامساواة: نحو سياسات تقلص اللامساواة في الاقتصادات المتقدمة» وطرح خلال المؤتمر مصفوفة سياسات تستهدف ثلاث مستويات من اللامساواة خلال ثلاث مراحل: ماقبل الانتاج ومرحلة الانتاج ومرحلة ما بعد الانتاج وتتلخص الحزمة الاولى من السياسات في االخدمات الصحية والتعليمية،والانفاق على التعليم العالي، أما الثانية فتتلخص في تأمين الوظائف والحد الادنى للأجور،وتحسين جودة ظروف العمل عبر قوانين العمل والعلاقة بين النقابات واصحاب العمل..،ومكافحة الاحتكار والتنظيم،أما الثالثة فتتعلق بالتحويلات وسياسات التوظيف الكلي،شبكة الامان الاجتماعي،سياسات الضمان الاجتماعي،وضريبة الثروة.
بالرغم من كل التعقيدات والتداخلات التي يحويها موضوع توزيع الدخل والثروة وما يرتبط به من مفاهيم التفاوت واللامساواة،الا اننا في النهاية سنعود للاساسيات واعني بذلك موضوع النموالاقتصادي،صحيح ان النمو وحده لا يقلص التفاوتات ولا يقضي على الفقر بشكل اُلي ولا يؤدي بالضرورة لتوزيع عادل للدخل والثروة،الا انه بدون النمو لا يمكن ان نوفر فرص عمل للفقراء والعاطلين عن العمل لنحسن ظروفهم المعيشية،كما انه،أي النمو،يساهم في زيادة الايرادات وتحسينها مما يتيح المجال للحكومة لتخصيص مصادر اضافية لتوفير الخدمات للمواطنين وتقليص الفوارق بينهم،ولكن الى جانب النمو لا بد من العمل على تنفيذ تدابير واجراءات تضمن شمولية النمو لمختلف فئات المجتمع،فهذه ضمانة اساسية للنمو المستدام، بما في ذلك تحسين الحوكمة والشفافية وسيادة القانون وتعزيز حقوق الانسان،مع التأكيد على اتباع سياسات ضريبية اكثر عدالة ومحاربة التهرب الضريبي،وفيما يتعلق بالسياسات الضريبية من المفيد التذكير بان الزكاة في الشرع الاسلامي تتشابهه مع فكرة ضريبة الثروة ومن المهم التفكير بايجاد التناغم اللازم بين الضريبة والزكاة خدمة لاهداف المجتمع.
ولا بد ايضاً من ضمان تنافسية الاسواق ومحاربة الاحتكار وتوفير الخدمات الصحية والتعليمية والخدمات العامة الاخرى لمختلف فئات المجتمع وفي مختلف المناطق الجغرافية،وتحسين سياسات سوق العمل وتنظيمه بما يكفل حقوق مختلف الجهات ذات العلاقة، ومن الضروري ايضاً الاهتمام بموضوع سياسات الحماية الاجتماعية بما فيها شبكة الامان الاجتماعي التي تضمن مواجهة التهميش والاقصاء ومنح الفرص للفئات الاقل حظاً كل ذلك يمثل حفظاً لكرامة الانسان وانسانيته بغض النظر عن مركزه الاجتماعي او ما يمتلكه من ثروه،وهوفي نفس الوقت يشكل حافزاً اضافياً للنمو المستدام وداعماً للاستقرار الاجتماعي والسياسي والأمني.