كتب / الدكتور عادل عامر
بعد قيام رأسمالية الدولة المصرية التى قادها محمد على باشا، الوالى العثمانى على مصر، لم يكن عدد اليهود فى مصر يتعدى 1775 شخصًا، وكان معظم نشاطهم مقتصرًا على النواحى الإدارية وبعض التمويلات الرأسمالية الربوية لحركة التجارة، ولم يكن لهم نشاط قوى فى عمليات الرهن العقارى والزراعى، حيث كانت الطبيعة الإدارية للاقتصاديات الزراعية فى مصر لا تتيح للرأسمال الخاص دورًا قويًّا .
وبالإضافة إلى تحكّم محمد على فى المدخلات التمويلية للعملية الزراعية، وكذلك فى المخرجات المحاصيلية، كل ذلك جعل الدور اليهودى محدودًا إلى حدٍّ كبير، ولكن فى عهده أيضًا زاد عدد الوجود اليهودى فى مصر بدرجة كبيرة، عبر قدوم اليهود الفارين من الأمصار والولايات العثمانية، فتزايد العدد من 1775 عام 1801 إلى حوالى سبعة آلاف عام 1836، وذلك فى مقابل 26,600,000 من المصريين المسلمين و1,150,000 من الأقباط و12,000 من الأتراك العثمانيين و70,000 من البدو الأعراب.
وجدير بالذكر أن 93% من اليهود لم يحملوا الجنسية المصرية، بل إنهم كانوا يحملون جنسيات إيطالية وفرنسية ويونانية وفارسية وبريطانية، والبعض منهم لم يحمل جنسية على الإطلاق، حيث كانوا من رعايا الدولة العثمانية من الصرب ولتوانيا والنمسا، وهربوا دون هويّة، ووافق “محمد على” على منحهم الحماية الأجنبية بعد ضغط من السير “منتيفورى” مبعوث اليهود البريطانين.
تركز اليهود فى مجموعتين لكل منهما نشاطها الاقتصادى المتكامل فى مصر: مجموعة القاهرة ومجموعة الإسكندرية، وقد تأسست “مجموعة الإسكندرية” عام 1840، وكانت صلتها وثيقة ببريطانيا، وخاصة بعد إشراف “منتيفورى” لدى محمد على على تدعيم استقرار العديد من اليهود الأوربيين – وخاصة المهاجرين إلى مصر – والذين نقلوا معهم الدور التجارى الذى كانوا يمارسونه فى مناطق أوروبا، وكانت هذه الجماعات نواة تشكيل العمل المصرفى، وسعى مونتيفورى إلى رفع عبء الضرائب الباهظة التى كان يفرضها عليهم محمد على عام 1830 ليجهّز حملته على الشام.
وسعى “منتيفورى” إلى فتح طريق لتطوير النشاط الاقتصادى فى الإسكندرية لممارسة نشاطها فى الظروف الجديدة التى تأكدت بإجبار محمد على باشا على إلغاء الاحتكارات بعد هزيمته، حيث بدأ يطبّق نظام الباب المفتوح عام 1842، وكانت فى الإسكندرية 70 هيئة تجارية أجنبية تمثل مصالح أجنبية، وكانت جميعها تمهّد لتطبيق نظام مفتوح للنشاط الاقتصادى، وفى عام 1844 طالبت مجموعة القاهرة بضرورة تطبيق الحماية من مجلس النواب البريطانى عليها، لكى تتاح لها فرصة ممارسة النشاط الاقتصادى كما هو الحال بالنسبة لمجموعة الإسكندرية.
وقد ساعد تصاعد الحركة التجارية فى بريطانيا على سرعة تراكم الرأسمال اليهودى، وخاصة فى العصر الفيكتورى، بالإضافة إلى دعم العديد من يهود الخليل وصفوة الذين رحلوا من فلسطين إلى القاهرة عقب تدمير المدينتين التجاريتين أثناء حملة إبراهيم باشا على فلسطين عام 1834، ورحل العديد منهم إلى القاهرة لتشغيل خطوط تجارية مع المدن الشامية، ودعم وجودهم بعد تقلّص النفوذ المصرى فى الشام وفق معاهدة لندن 1840، بعد هزيمة محمد على، فلم يكن لهم مكان إلا القاهرة، وكان القنصل البريطانى فى مصر “كامبل” يعطى لهم الضمانات الاقتصادية والتجارية.
فى عهد الخديو عباس حلمى الأول (1849 – 1854) ترك بعض اليهود مصر نتيجه لتراجعه عن سياسة الباب المفتوح التى كانت تُطبّق قبل ذلك، ومع ذلك بقيت الرأسمالية اليهودية فى مصر، وهناك عائلات كانت تقوم بدور أساسى ورئيسى فى الاقتصاد المصرى حتى منتصف القرن العشرين، مثل عائلات: موصيرى – ورلو – مكاوى – منشة – سوارس، وعائلات أقل منهم أهمية مثل: أسمالون – طوبى – شيكوريل – وليى – كفورى – ساسون – ناتان – كوريل – أشير – عدس – توريل – عاداه – نحمان – سلامة.
فعائلة “موصيرى” عائلة تمتد إلى نسيم موصيرى، الإسبانى الذى جاء إلى مصر عام 1750، وحقّقت العائلة كثيرًا من التواجد والمصالح فى ظل نظام الامتيازات، وتصاهرت العائلة مع عائلة “قطاوى” التى كانت لها صلات وثيقة مع روسيا، وتمتد أصول عائلة يعقوب قطاوى – رائد عائلة قطاوى – إلى عائلات سورية، وقد تولّى شياخة الصرافين فى عهد الخديو سعيد، وحصل على الحماية النمساوية المجرية، وكانت له علاقة بالبيت المالك النمساوى، فضلا عن كونه رئيس شرف المحفل الماسونى فى مصر، ومن أهم أعضاء محفل كوكب الشرق الماسونى الإنجليزى، وهى المحافل التى كانت بمثابة منتديات للرأسماليات المتربولية واليهودية على وجه الخصوص.
وكان لعائلة موصيرى نفوذها الواسع فى تجمّع الإسكندرية التجارى، وكان لعائلة قطاوى نفس النفوذ فى تجمع القاهرة المالى اليهودى، وقد تعاونت عائلتا موصيرى وقطاوى مع عائلة “جاك سوارس” الذى يُعدّ بمثابة القائم بالأعمال للبرتغال فى الإسكندرية عام 1832، ومع “يعقوب دى منشه” عميد عائلة منشة والمتوفى فى 1883 والذى كان يعمل صرّافًا، وخلال حفل افتتاح قناة السويس قدّم نفسه لفرنسوا جوزيف، إمبراطور النمسا، على أساس أنه رئيس الرابطة الإسرائيلية فى مصر، وحصل على الحماية النمساوية للقيام بالأعمال التجارية والقنصلية للنمسا فى مصر، ولم يكن “يعقوب دى منشه” مصريًّا، بل إن له أصولاً سورية وفرنسية، وكذلك هناك “سيمون رولو” الذى ترجع أصوله إلى عائلة فرنسية إسبانية، واستطاع من خلال إدارته لعدد من الشركات الحكومية فى الدائرة السنية أن يكوّن ثروته الطائلة.
وقد استطاعت هذه العائلات اليهودية – من خلال علاقاتهم باليهود الأوربيين – أن يعملوا على تدعيم علاقاتهم بالخديو سعيد، حيث كانت هذه بداية لمجىء عدد من اليهود ليعملوا فى النشاط المالى والتجارى بالإسكندرية، والذين وصل عددهم إلى حوالى 150 عائلة.
وقد توسع نشاط عائلات اليهود فى مصر، فسيطروا على الاقتصاد والأراضى الزراعية، وتحكّموا فى بورصة القطن فى بالإسكندرية، ومعظم الشركات التى كانت تسيطر على إدارتها جماعات رأسمالية يهودية أنشئت فى الفترة من 1888 إلى 1905، ومن أهما شركة أبو قير، شركة أراضى البحيرة، شركة كوم امبو، شركة أراضى الغربية، هذا بالإضافة إلى قيامهم بشراء الأراضى الزراعية ابتداء من عام 1922، مثل شركة الشرق العقارية، والتى سيطرت على إدارتها عائلة “عاداه” وكانت معظم أملاكها لأراض بالإسكندرية، وهناك عائلتا “بيريز” و”كوهين” وكانتا تملكان منطقة السيوف بالإسكندرية وجاردن سيتى بالقاهرة.
ووصل النفوذ المالى والاقتصادى إلى التنفّذ فى دوائر الحكم والسلطة، فاستطاع يوسف قطاوى الفوز بمنصب وزير المالية فى وزارة “زيور باشا”، ثم أصبح وزيرًا للمواصلات عام 1925، فاستطاع اليهود السيطرة على هذين القطاعين، بالإضافة إلى قطاع السياحة، ونجاحهم فى السيطرة على بعض الفنادق وتنشيط السياحة بها من خلال علاقاتهم الخارجية، مثل فنادق: سافوى – مينا هاوس – كونتنينتال – سان ستيفانو وحلوان، بالإضافة إلى صناعات النسيج التى بدأوها بالتفصيل والحياكة، ومن أشهر من عمل بها: عائلة شيكوريل عام 1887، وفى عام 1936 انضمت إليها أسرة توريل وشركة “شملا الكبرى” التى أسسها الفرنسى التونسى كليمان شملا عام 1907، وكذلك محلات “عدس” لتفصيل وبيع الملابس، وشركة بنزايون “بنى صهيون” التى بلغ رأس مالها عام 1951 حوالى 6,000,000 جنيه مصرى، إضافة إلى غيرها من المجالات التى احتكرها اليهود، مثل تجارة المواد الغذائية ومصانع ومعامل السكر والصناعات الكيماوية وصناعات التعدين والبترول والصناعات الهندسية.
بعد وصول العائلات اليهودية إلى القمّة زاد بطشها بالعمال والفلاحين فى المصانع والشركات، وهو ما أدّى إلى تدفّق الشكاوى، وكان عمال شركة “كوم امبو” قد أرسلوا شكوى تنص على: “إن هذه الشركات الإسرائيلية تقوم بإذلال الشعب المصرى وتسخيره لأغراضهم، ومعظم المستخدمين والموظفين من اليهود والأجانب، وفى الوقت الذى يصل فيه أجر أقل واحد منهم إلى بين 100 و150 جنيهًا فى الشهر، فإن أجر العامل لا يتجاوز العشرة قروش فى اليوم”، وتاريخ هذه الشكوى بتاريخ 3 يناير 1949، أى قبل الثورة بثلاثة أعوام ونصف العام.