كتب /الدكتور عادل عامر
في ظل الأوضاع غير المستقرة في دولتي السودان وإثيوبيا وفي ظل الكثير من الملفات الساخنة ما بين الدولتين وفي أيضا ظل العلاقات التي تشهد العديد من الصعوبات في التعبير عنها ما بين الصداقة إلى أن تصل إلى العداء في أوقات مختلفة، وخاصة في ظل التداخل في العديد من القضايا ما بين البلدين سواء قضايا سياسية وعسكرية واقتصادية واجتماعية في ظل الفترات الأخيرة ما بعد تولى أبي احمد في 2018 في أثيوبيا وانهيار نظام البشير في السودان 2019
وتزايد العلاقات ما بين الدولتين التي تم وصفها إلى حد الصداقة ما بين ابي احمد والنظام المدني الجديد أو المکون المدني الناشئ عن التغيير السياسي في السودان ما بعد 2019 فضلا عن المکون العسکري الذي اتسم بعلاقته المحدودة مع ابي أحمد في کثير من العلاقات القائمة ما بين البلدين، وعودة الجمود في العلاقات بعد الصعود العسکري الأخير في السودان وتزامن ذلک مع التوترات الداخلية في اثيوبيا واشتداد حدة النزاع على الحدود
ولکن انشغال کل الاطراف بالاوضاع الداخلية في کلا من البلدين ساهم في تراخي الازمة ومنع التصعيد في ذلک الوقت، ولکن مع عدم توافق ما بين الطرفين حول الخلاف بشأن الحدود مما ينذر بتأجيج الصراعات مرة أخرى من حين لأخر بفعل دوافع داخلية وخارجية.
وكانت العلاقات بين السودان وإثيوبيا قد وصلت إلى أدفأ درجاتها عندما سافر آبي إلى الخرطوم في يونيو/حزيران من عام 2019 لتشجيع المتظاهرين المؤيدين للديمقراطية والجنرالات السودانيين على التوصل إلى اتفاق بشأن حكومة مدنية بعد الإطاحة بالرئيس عمر البشير.
لقد كانت مبادرة مميزة لآبي أحمد، رفيعة المستوى وفردية بالكامل، وكانت بحاجة إلى إضفاء الطابع الرسمي من خلال الهيئة الإقليمية “إيغاد” والثقل الدبلوماسي الكبير للآخرين؛ بما في ذلك الاتحاد الأفريقي والدول العربية والولايات المتحدة وبريطانيا لتحقيق نتائج.
وقد حاول رئيس الوزراء السوداني حمدوك رد الجميل من خلال عرض المساعدة في حل الصراع الإثيوبي في تيغراي، وقد تم رفض عرضه مؤخرا في قمة 20 ديسمبر/كانون الأول الماضي حيث أصر آبي على أن الحكومة الإثيوبية ستتعامل مع شؤونها الداخلية بنفسها.
ومع استمرار تدفق اللاجئين من تيغراي إلى السودان، حاملين معهم قصص الفظائع هناك والجوع، قد يجد رئيس الوزراء الإثيوبي صعوبة أكبر في رفض الوساطة.
كما أنه يخاطر بإشعال جولة جديدة من العداء عبر الحدود بين إثيوبيا والسودان مما يعمق الأزمة في المنطقة.
وفي ظل هذه العلاقات المتأرجحة والمتداخلة ما بين البلدين تظهر قضية يمکن وصفها بإنها قضية قديمة وحديثة في آن واحد وهي قضية النزاع الحدودي ما بين اثيوبيا والسودان حيث شهد البلدين الکثير من المناوشات بسبب التعديات التي کانت من الجانب الاثيوبي على حساب الجانب السوداني منذ ما يقارب 30 عاما منذ صعود الحرکة الشعبية لتحرير تيجراي للحکم في اثيوبيا بعد القضاء على حکم الامبراطور ” منغستو هيلامريام” 1991 وکانت جبهة تحرير شعب تيجراي أحد الفاعلين البارزين في الجبهة الشعبية الثورية الديمقراطية الاثيوبية.
فهذه القضية قضية قديمة وحديثة في آن واحد، قديمة لان النزاع على الحدود يرجع إلى أکثر من مائة عام، وحديثة لان الاشتباکات أو المناوشات ما بين البلدين تتکرر من حين لاخر رغم أن هناک نص قانوني وإعتراف اثيوبي باحقية السودان في الجزء المتنازع عليه، ولکن هناک تداخل في المصالح الاقتصادية والاجتماعية في هذه المنظقة الحدودية مما جعل اثيوبيا تتزرع بأن هناک اضرار اقتصادية واجتماعية ناتجة عن الانسحاب الاثيوبي من هذه المنطقة،
وظهر ذلک في الکثير من الاجتماعات في اللجنة المشترکة لرسم الحدود السودانية الاثيوبية، مما شعر الجانب السوداني بمماطلة اثيوبيا وعدم رغبتها في رسم الحدود ما بين البلدين وإنها مستفيدة من الوضع القائم.
لذا هناک العديد من العوامل التي تؤثر على الصراعات الحدودية ما بين السودان واثيوبيا مما تدفع کلا من الطرفين تصعيد الازمة إلى حد القوة العسکرية کما حدث في التصعيد الاخير بشأن الحدود، ففي هذا الوضع خاصة بعد فشل المباحثات والمفاوضات الاخيرة للجنة المشترکة ما بين السودان واثيوبيا ، فلم يکن لدى الدولة السودانية
إلا أن ارسلت تعزيزات عسکرية إلى الاراضي السودانية الحدودية للسيطرة على کامل الاراضي السودانية والوصول إلى أخر نقطة للحدود السودانية وفقا للاتفاقيات الدولية وما ينص على القانون الدولي، هذا من شأنه أدى إلى قلق وذعر داخل الدولة الاثيوبية إلى الحد الذي يشير إلى أندلاع صراع مسلح ما بين البلدين.
من جانبها، أنكرت إثيوبيا مسئولياتها المباشرة عن الحادث وادعت أن إحدى الجماعات العرقية هى من قامت بذلك, وقالت الخارجية الإثيوبية إن “الحادث وقع داخل أراضيها بعد توغل وحدة من الجيش النظامي السوداني تدعمها عناصر إرهابية من الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي”،
مشيرة إلى أن “الخسائر في الأرواح نتجت عن المناوشات بين الجيش السوداني وميليشيا محلية سيُجرى التحقيق بشأنها قريبا. وقالت أديس أبابا أن الحادث “تم اختلاقه عمدا لتقويض العلاقات العميقة الجذور بين الشعبين الإثيوبي والسوداني”. علاوة على ذلك،
فإن الهدف من الحادث – وفقا للرواية الإثيوبية – هو: “عرقلة إثيوبيا عن طريقها نحو السلام والتنمية”. وبالطبع كالمعتاد ألقت بتصريحات عدائية ولعل المشكلة الأساسية أن البلدين، خاصة في السنوات الأخيرة، يعجان بالخلافات الداخلية والمشكلات والتي وصلت لدرجة تصاعد حرب إثنية شاملة فى إثيوبيا، ناهيك عن الخلافات الواضحة بين المكونات فى السودان.
وقد فشل الحوار الوطنى هناك فى حشد القوى الراغبة فى ذلك، ناهيك عن أن السودان دولة محورية ومؤثرة فى نطاق الوضع الإقليمي المعقد فى منظومة قضية مياه النيل وسد النهضة بين كل من مصر وإثيوبيا والسودان. لذا، فإن رأى السودان مهم فى وجهة الخلاف والنزاع المحتدم على ملء وتشغيل سد النهضة فيما بين كل من مصر والسودان من ناحية وإثيوبيا من ناحية أخرى.
المهم في هذا الإطار ألا ينقلب الوضع المتفجر فجأة لحرب شاملة تؤثر فى استقرار الأوضاع فى منطقة حوض نهر النيل والقرن الإفريقي, وذلك على غرار حرب الأوجادين بين إثيوبيا والصومال عام 1977, وحرب “بادمى” بين إريتريا وإثيوبيا 1998-2000, وغيرها من الحروب فى أنحاء القارة من جراء النزاعات الحدودية المتوارثة, والتي على ما يبدو لم تنجح الاتفاقيات الاستعمارية التى تم الإبقاء عليها من الحد منها أو إنهائها.
تعدّ إثيوبيا دولة متعددة القوميات حيث يوجد فيها ما يقارب 85 جماعة إثنية ولغوية. وتتصدر الأمهرية مقدمة هذه اللغات. فهي اللغة الرسمية لدولة إثيوبيا، وتستخدم في إدارة الدولة والمصالح الحكومية، والمدارس الحكومية في مراحلها الأولى، وتصدر بها الصحف في إثيوبيا؛ فهي تعد اللغة الأساسية لقطاع عريض من الإثيوبيين.
. وتشترك إثيوبيا مع السودان في صفة التعددية الإثنية فضلًا عن التداخل السكاني الكبير بين البلدين. وتوجد في السودان جالية إثيوبية كبيرة، والآلاف من بين أفرادها استوعبهم سوق العمل السوداني في مختلف الولايات
. فإثيوبيا أكبر دول الجوار السوداني من حيت الكثافة السكانية؛ حيث يناهز عدد سكانها 77 مليون نسمة، وهذا يجعلها منطقة جذب تجاري وسوق واعدة؛ وللسودان وإثيوبيا حدود متداخلة مشتركة تمتد إلى نحو 1500 كم، وهي أطول حدود في أفريقيا. وتقطن هذه المناطق الحدودية قبائل حامية مشتركة (الانوك، الباريا، القمز، البرتا، البرون، الوطاويط وغيرها)
إذًا، التعدد والتنوع والتباين العرفي هو سمة أهل السودان وإثيوبيا، وكان الأمر كذلك وما زال، والتعددية تتمثل إلى حد كبير بالجماعات الاثنية والثقافية.
ومنذ أقدم العصور نشأت تجارة الحدود كضرورة اقتصادية، واجتماعية تفرضها الحالة الاقتصادية بين البلدين المتجاورين تتم عبر المقايضات في تبادل السلع التي تكمل احتياجات الأطراف المتبادلة. ومن خلال هذه الآلية الاقتصادية نشطت تجارة الحدود إلا أنها لم تكن بهذه الصورة المنظمة حاليًا بسبب عدم استتباب الأمن، ووعورة الطرق. وكان النقل – والترحيل – لا يزال إلى حد ما يتم بواسطة الدواب، وتتم مقايضة سلع صادرة من السودان مقابل سلع واردة من إثيوبيا لم تعرف إثيوبيا قط الاستعمار كباقي الدول الأفريقية إلا لسنوات قليلة امتدت من عام (1936-1941)، حيث تعرضت للغزو الإيطالي. فقد استعاد الإمبراطور هيلا سيلاسي عرشه بمساعدة بريطانيا عام 1941، واستقل السودان في كانون الثاني/يناير 1956، وأصبحت بذلك ثاني دولة أفريقية بعد مصر تحصل على استقلالها
عملت ثورة أكتوبر 1964 التي أطاحت الحكم العسكري، وجاءت إلى سدة الحكم في السودان بقوة سياسية، على مناصرة الثورة الإريترية ضد الحكم الإثيوبي، وهو ما تسبب في توتر العلاقات مع إثيوبيا، التي دعمت بدورها الحركات الجنوبية المعارضة في السودان. واستمر توتر العلاقات بين السودان وإثيوبيا إلى عام 1972، حيث عقد اتفاق بين السودان والمعارضة السودانية الجنوبية في أديس أبابا لينهي التمرد بين حركات المعارضة في جنوب السودان والحكومة السودانية. ومذّاك توقف دعم إثيوبيا لمعارضة جنوب السودان، وقابله توقف دعم السودان للمعارضة الإريترية لكن التوتر عاد إلى العلاقات السودانية- الإثيوبية من جديد في عام 1974، إثر انقلاب عسكري قاده الماركسيون الذين استلموا السلطة في إثيوبيا. وقد فتح النظام الجديد هجماته العسكرية ضد الإريتريين لمواجهة حركات – المعارضة المسلمة في إقليم إريتريا وتيغراي، وفي الوقت الذي اتهم الرئيس السوداني نميري نظام منغيستو بأن له دورًا في محاولة الانقلاب التي دبرت ضده عام 1976 بمساعدته للقوى المعارضة في السودان. ومن هنا زاد نميري دعمه للحركات الإريترية ضد إثيوبيا
في حزيران/يونيو 1989 تمكنت الجبهة الإسلامية القومية من الوصول إلى الحكم إثر انقلاب عسكري قاده العميد عمر حسن أحمد البشير، وبعد عامين تحديدًا في شهر تموز/يوليو 1991 نجحت الجبهة الديمقراطية الثورية لشعوب إثيوبيا في إطاحة بنظام الرق بعد نضال استمر لستة عشر عامًا، وتزامنت هذه الأحداث المهمة في التاريخ السياسي للقرن الأفريقي مع نهاية الحرب الباردة في النظام العالمي تعد المرحلة ما بين أعوام 1989-1991 مرحلة اشتداد الحركات المقاومة ضد نظام منغيستو في إثيوبيا، لذلك سعى الرئيس منغيستو للتعاون والتفاهم كوسيلة للتغلب على تلك التحركات المعارضة لنظامه، وتقليل الدعم السوداني لهذه الحركات المناهضة لحكمه،
فبعث برسالتين إلى البشير، في وقت لم تكن لحكومة السودان رغبة في مد جسور التفاهم مع نظام منغيستو؛ لأن أغلب الدلائل تشير إلى احتمال سقوط نظامه أكثر من بقائه؛ لذلك قام السودان بتدريب مقاتلي الإدومو، وغامبيلا، وبني شقول، وخلق تعاونًا بين الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا، والجبهة الثورية الديمقراطية لشعوب إثيوبيا مما عجل بسقوطه
وبعد حدوث التغيير السياسي داخل إثيوبيا زار الرئيس عمر حسن أحمد البشير إثيوبيا في تشرين الأول/أكتوبر 1991، كأول رئيس يصلها بعد الوضع السياسي الجديد، ونتج من ذلك توقيع اتفاقية صداقة وتعاون بين البلدين. كما رد الرئيس زيناوي بزيارة للسودان تم خلالها تكوين آلية التعاون بين البلدين تمثلت باللجنة الوزارية المشتركة التي عقدت أول اجتماعاتها بالخرطوم في كانون الأول/ديسمبر 1991 برئاسة اللواء الزبير محمد صالح النائب الأول لرئيس الجمهورية السوداني. ومع انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاشتراكية، وظهور العداء للإسلام والعالم الإسلامي، ودعم الغرب للقوى المسيحية في إثيوبيا، ومحاصرة الدول الإسلامية وبخاصة الدول التي تدعم الحركات الإسلامية المتشددة عادت إثيوبيا تتهم النظام الإسلامي في السودان بدعم الحركات الإسلامية فيها، وكذلك بإيواء المعارضين العسكريين والسياسيين، وإعانة هذه الجماعات في الانطلاق من داخل الأراضي السودانية ضد إثيوبيا
فالعلاقة بين دول القرن الأفريقي من الطبيعي فيها أن يصبح العدو صديقًا، والصديق عدوًا بسبب التحالفات المختلفة بين القوى الحاكمة في هذه الدول، ودعم القوى السياسية والإثنية المناهضة للقوى الحاكمة في هذه الدول. وبسبب هذه العلاقة الشائكة لا تدوم علاقات الصداقة وعلاقات العداء بين القوى السياسية الحاكمة في هذه المنطقة، وذلك ناتج من الحسابات الكلية التي تنطلق منها هذه القوى، وهي في مجملها دعم دولة لقوى مناهضة للحكم في دولة أخرى، وهذا بالتأكيد سيرتد عليها بالخطر نفسه (دعم قوى مناهضة للحكم فيها). وهذا المبدأ عانته دول القرن الأفريقي في الحروب والصراعات المختلفة بينها، سواء أكانت هذه الصرعات حدودية أم اقتصادية أم اجتماعية.