كتب د/ عادل عامر
في مارس 2010، أعلنت إدارة الرئيس الجديد عن استراتيجية الأمن القومي، التي حملت رؤية جديدة لقيادة الولايات المتحدة للعالم، من قوة منفردة إلى قوة مسؤولة عن العالم؛ وهذا من خلال ألية القوة الذكية والانفتاح على العالم بدلا من القوة العسكرية، والعمل على إعادة بناء القوة الاقتصادية بعد الأزمة المالية سنة 2008 ومحاربة المنظمات الإرهابية وعدم تسليحها، وواصل تأكيده على هذه الرؤية في استراتيجية الأمن القومي لسنة 2015.
أن مصطلح” إعادة التوازن” يحمل في طياته إقرار ضمني من طرف الولايات المتحدة باختلال ميزان القوى بمنطقة آسيا-الباسيفيك، و كذا تأكل نظام سان فرانسيسكو ؛ بمعنى إتجاه كفة الهيمنة أو التفوق بالمنطقة صوب قوى أخرى أبرزها :الصين .و يتضح هذا الاختلال بصورة واضحة بمنطقة جنوب شرق آسيا، نظرا لأهميتها ومكانتها الجيو استراتيجية في آسيا-الباسيفيك ، لذا حاولت الولايات المتحدة من خلال استراتيجيتها الأمنية الجديدة إعادة التوازن لميزان القوى بالمنطقة ،بما يؤمن أمنها الوجودي؛ يحفظ استمرارية و ديمومة هيمنتها العالمية. وتجدر الإشارة إلى أنه سيتم اعتماد مصطلح “إعادة التوازن” خلال الدراسة بأكملها.
حقق اقتصاد الولايات المتحدة نموا مذهلا بلغ معدله 5.2% في الربع الثالث من عام 2023. ويتوقع صندوق النقد الدولي أن يصل معدل النمو في العام المنقضي 2.1%. وهو أفضل كثيرا من معدلات النمو في الاقتصادات الغربية المتقدمة الأخرى كألمانيا وكندا وبريطانيا. كما يهبط التضخم بشدة فيما ترتفع الأجور الحقيقية ويزدهر التوظيف في القطاع الصناعي. ومن الصعب أن تجد بلدًا آخر تشير فيه العديد من المقاييس الاقتصادية إلى أن الأمور تمضي في الاتجاه الصحيح.
ينبغي ألاّ يبدو نفور الأمريكان من الاستراتيجية الكبرى السائدة أمراً مفاجئا، نظرا لسجلّها السيء عبر الربع قرن الأخير. في آسيا، قامت دول كالهند، باكستان وكوريا الشمالية بتوسعت ترسانتها النووية، كما أنّ الصين تتحدّى الآن الوضع القائم في المياه الإقليمية هناك. في أوروبا، قامت روسيا بضمّ القرم، كما أنّ العلاقات بين الولايات المتحدة وموسكو صارت في أدنى مستوياتها منذ الحرب الباردة، ولا تزال القوات الأمريكية تُقاتل في أفغانستان والعراق دون أيّ علامة نصر في الأفق، وبالرغم من فقدانه أغلب قادته الأصليين، فقد أنتشر تنظيم القاعدة عبر الإقليم بأكمله،
أمّا العالم العربي فقد سقط في الاضطرابات –يرجع ذلك في قسم كبير منه إلى قرارات الولايات المتحدة في تغيير النظام في كل من العراق وليبيا وإلى جهودها المتواضعة في القيام بنفس الشيء في سوريا- كما برزت الدولة الإسلامية أو داعش من رحم هذه الفوضى، كما أنّ محاولات الولايات المتحدة المتكرّرة للتوصّل إلى سلام إسرائيلي-فلسطيني باءت بالفشل، تاركةً حلّ الدولتين –إحتمالاً- أبعد بكثير ممّا كان عليه. في غضون ذلك، عرفت الديمقراطية حالة تراجع في جميع أنحاء العالم، كما أنّ استخدام الولايات المتحدة للتعذيب، عمليات القتل المستهدف وغيرها من الممارسات الأخلاقية المشبوهة، كانت قد شوهّت صورتها باعتبارها مدافعا عن حقوق الإنسان والقانون الدولي.
تُعتبر الولايات المتحدة القوة الكبرى الأكثر حظّا في التاريخ الحديث. لقد كُتب على بقية الدول الرائدة أن تعيش إلى جانب خصوم مهدّدين في حديقتها الخلفية –حتّى المملكة المتحدة، فقد واجهت احتمال تعرّضها للغزو عبر القناة الإنجليزية في مناسبات عديدة-
إلاّ أنّ الولايات المتحدة لم تعش هذا الوضع لأكثر من قرنين من الزمن. كما أنّ القوى البعيدة لا تُشكّل تهديدا كبيرا نظرا لوجود محيطيْن عملاقيْن كعائق في الطريق. مثلما ذكر ذات يوم السيد جان جولي جوسيراند (Jean Jules Jusserand) السفير الفرنسي في الولايات المتحدة بين 1902-1924: “في الشمال لدى –الولايات المتحدة- جار ضعيف، في الجنوب،
هناك جار ضعيف آخر، في الشرق سمك وفي الغرب سمك أيضا”. علاوة على ذلك، تفتخر الولايات المتحدة بوفرة الأراضي والمصادر الطبيعية وحيوية السكان، التّي أتاحت لها تطوير الإقتصاد الأضخم عالميا والجيش الأكثر إقتدارا أيضا، كما أنّ لديها الآن أيضا آلاف الأسلحة النووية، التّي تجعل من إمكانية الهجوم على الأراضي الأمريكية أمرا أقل ترجيحا.
كما أن الأمر يتوقف على القوة النامية، وهل هي معادية أم لا. ففي أثناء الحرب الباردة، أدى الصعود الاقتصادي لألمانيا واليابان إلى تراجع نصيب الولايات المتحدة من الناتج العالمي الإجمالي إلى النصف، غير أن ازدهار اقتصاد الدولتين كان في مصلحة الولايات المتحدة في مواجهة الاتحاد السوفيتي. وبالمثل، فنمو البرازيل وتركيا لا يتقاطع مع المصالح الأمريكية، ونمو الهند يعد في مصلحتها، لأنه في مواجهة المنافس المستقبلي لها وهو الصين. أما نمو الاقتصاد الصيني، فيمثل خطورة، إذا تمت ترجمته بالقدر الكافي إلى قوة عسكرية.
أبرز التهديدات القادمة من الدول، والمناطق الهشة، وشمل ما يلي:
– الصين: تهدف الصين إلى أن تصبح قوة عظمى عالمية مهيمنة من خلال الاستعداد مبكراً للتحديات، ومواجهة نفوذ الولايات المتحدة؛ إذ تجمع الصين بمهارة بين القوة الاقتصادية، والقوة العسكرية، والهيمنة التكنولوجية لتعزيز حكم الحزب الشيوعي الصيني، وتأكيد مطالبها الإقليمية، وتوسيع النفوذ العالمي. وتعمل مبادرات كمبادرة الحزام والطريق، إلى جانب العلاقات الاستراتيجية مع دول مثل روسيا، على تعزيز قدراتها.
ويتجلى سعي الصين المتواصل نحو التفوق التكنولوجي من خلال الاستثمارات المكثفة، واكتساب الملكية الفكرية، والتقدم في مجالات مثل: الذكاء الاصطناعي وتسلسل الحمض النووي وإنتاج الرقائق. كما أنها تفرض تحديات وتهديدات في مجالات مثل: الحرب الكيميائية والبيولوجية، وهي تسعى بنشاط إلى إنشاء قوة دفاعية وعسكرية وطنية حديثة بما فيها تحديث قوتها النووية وهو ما سيزيد من ثقتها بقدراتها. لكن على الجانب الآخر
تواجه الصين تحديات داخلية، مثل: تباطؤ النمو الاقتصادي والاستياء الشعبي من السياسات القاسية؛ مما قد يعوق طموحاتها. بالإضافة إلى ذلك، أدت تكتيكاتها في العلاقات الدولية إلى تزايد مقاومة الدول لها، كما حدت قوانينها الداخلية الخاصة بالتجسس من إقبال الشركات الكبرى عليها، كما تواجه تحدياً مرتبطاً بتراجع معدل المواليد وانخفاض الإقبال على الزواج.
– روسيا: تسببت الحرب العدوانية التي شنتها روسيا ضد أوكرانيا في إحداث أضرار جسيمة على الصعيدين المحلي والدولي؛ الأمر الذي أدى إلى تدهور سمعة موسكو الدولية وتكبدها خسائر عسكرية كبيرة، وبرغم ذلك فقد استمرت كتهديد حقيقي للغرب. وتسعى روسيا إلى إبراز مصالحها والدفاع عنها عالمياً وتقويض الولايات المتحدة والغرب؛ من خلال تعزيز العلاقات مع الصين وإيران وكوريا الشمالية؛ مما يشكل تحدياً كبيراً للدول الغربية.
ورغم خسائر روسيا الضخمة في حربها مع أوكرانيا، فإن الموقف الحالي يصب في صالح موسكو، خاصة مع استمرارها في تطوير قدراتها وذخيرتها ذات المدى الطويل وهو ما سيسمح باستمرارية قدرتها على القتال لفترات طويلة. وستكون موسكو أكثر اعتماداً على القدرات النووية والفضائية المضادة للردع الاستراتيجي بينما تعمل على إعادة بناء قوتها البرية، إلا أن القوات الجوية والبحرية الروسية ستستمر في تزويد موسكو ببعض قدرات استعراض القوة العالمية، هذا بالإضافة إلى أن روسيا تشكل تهديداً سيبرانياً مستمراً؛ إذ تستخدم الاضطرابات السيبرانية كأداة للسياسة الخارجية لتشكيل قرارات الدول الأخرى وتعمل باستمرار على تحسين قدراتها على التجسس.
– إيران: تسعى إيران إلى ترسيخ مكانتها كقوة إقليمية بينما تشكل تهديداً لمصالح الولايات المتحدة وحلفائها ونفوذها في الشرق الأوسط، وتستفيد من النجاحات العسكرية، ودعم الوكلاء، وتوسيع النفوذ الدبلوماسي لتحقيق أهدافها. وعلى الصعيد النووي، قامت إيران بتوسيع برنامجها بشكلٍ كبير؛ مما أدى إلى تقليل مراقبة الوكالة الدولية للطاقة الذرية ووضع نفسها في موقع يسمح لها بإنتاج جهاز نووي إذا رغبت في ذلك. ويشكل نهج الحرب الهجين الذي تتبعه إيران، والذي يجمع بين القدرات التقليدية وغير التقليدية، بما في ذلك الوكلاء المسلحون، تهديداً مستمراً لمصالح الولايات المتحدة في المنطقة، كما تمتلك إيران أكبر مخزون من الصواريخ البالستية في المنطقة وتركز على تحسين درجات دقتها وفتكها وموثوقيتها. وتشكل قدراتها الصاروخية والطائرات من دون طيار والدفاع الجوي والبحرية؛ تهديدات للأصول التجارية والعسكرية للولايات المتحدة وشركائها في الشرق الأوسط.
مع ذلك، تواجه إيران تحديات داخلية مثل: ضعف الأداء الاقتصادي وارتفاع معدل التضخم والمظالم المجتمعية، كما يمثل اعتماد إيران الكبير على عوائد تصدير النفط إلى الصين في وقت يتراجع فيه النمو الصيني نقطة ضعف إيرانية، بالإضافة إلى مسألة خلافة خامنئي الذي تجاوز سن الثمانين.
– كوريا الشمالية: يواصل الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون تطوير القدرات العسكرية النووية والتقليدية التي تهدد الولايات المتحدة وحلفاءها، ويهدف إلى إعادة تشكيل البيئة الأمنية الإقليمية لصالحه، وتسعى كوريا الشمالية إلى إقامة علاقات أقوى مع الصين وروسيا للحصول على مكاسب مالية ودعم دبلوماسي وتعاون دفاعي، كما تنخرط في إطلاق الصواريخ لإبراز الخطر الذي يشكله جيشها، خاصة في الرد على التعاون الثلاثي بين الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية، ويلتزم كيم جونغ أون بقوة بتوسيع ترسانة الأسلحة النووية لكوريا الشمالية؛ إذ أمر بزيادة مخزون الأسلحة النووية وإنتاج المواد النووية المستخدمة في صنع الأسلحة.
ويشكل البرنامج السيبراني لكوريا الشمالية تهديداً متطوراً ونشطاً من حيث التجسس والجرائم السيبرانية والهجمات النوعية؛ إذ نضجت قوتها السيبرانية وأصبحت قادرة على تحقيق أهداف استراتيجية ضد أهداف متنوعة، بما في ذلك الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية، وستواصل كوريا الشمالية حملتها السيبرانية المستمرة، مع التركيز على سرقة العملات المشفرة، وغسل الأموال، والحفاظ على العاملين في مجال تكنولوجيا المعلومات في الخارج لتوليد أموال إضافية.
الصراعات والمناطق الهشة:
أشار تقرير الاستخبارات الأمريكية إلى أن هجوم حماس على إسرائيل في أكتوبر 2023 والرد العسكري الإسرائيلي في غزة أدى إلى زيادة التوترات في المنطقة؛ إذ يقوم وكلاء وشركاء إيران بعمليات مناهضة للولايات المتحدة وتقديم الدعم للهجمات ضد إسرائيل، كما ذكر أن الوضع الإنساني المتردي في غزة يفرض ضغوطاً دولية على إسرائيل، في حين تشكل الهجمات التي تدعمها إيران تهديداً للاستقرار في لبنان والعراق والخليج والبحر الأحمر.
ومن المؤكد أن كلاً من إيران وإسرائيل لا يرغبان في التحول لصراع مباشر، وأشار التقرير إلى أن هياكل الحكم والأمن في غزة والضفة الغربية، والوضع الإنساني وجهود إعادة البناء في غزة، هي العناصر الأساسية التي سوف تشكل العلاقة الإسرائيلية الفلسطينية طويلة الأمد.
تطرق التقرير أيضاً إلى عدد من المناطق الساخنة الأخرى؛ إذ أشار إلى الحدود الهندية الصينية، وذكر أنه على الرغم من عدم حدوث اشتباكات كبرى عبر الحدود منذ عام 2020، فإن عمليات النشر الكبيرة للقوات والمواجهات المتفرقة بينها تزيد من خطر سوء التقدير والتصعيد إلى صراع مسلح.
هناك أيضاً مخاوف مماثلة على الحدود الهندية الباكستانية، فعلى الرغم من أن البلدين يميلان إلى الحفاظ على الهدوء الهش الحالي في علاقتهما بعد تجديد وقف إطلاق النار على طول خط السيطرة في أوائل عام 2021، فإن تاريخ باكستان في دعم الجماعات المسلحة المناهضة للهند واستعداد الهند المتزايد -تحت قيادة رئيس الوزراء ناريندرا مودي- للرد بالقوة العسكرية، يزيد من خطر التصعيد بين البلدين، وفيما يتعلق بأذربيجان وأرمينيا، من المتوقع أن تظل العلاقات بينهما متوترة خاصة مع غياب معاهدة سلام ثنائية، على الرغم من أن استعادة أذربيجان لمنطقة ناغورنو كاراباخ أدت إلى تقليل التقلبات.
أما على صعيد الصراعات الداخلية ببعض الدول، فقد أشار التقرير إلى الدول الآتية:
– أفغانستان: نظام طالبان يعزز سلطته، ويفرض الحكم الثيوقراطي، ويقيد الحريات، ويفشل في معالجة القضايا الإنسانية والاقتصادية. وتتعامل القوى الإقليمية بحذر مع طالبان بينما تركز على احتواء المشكلات داخل أفغانستان.
– السودان: يزيد طول أمد الصراع من خطر انتشار العنف والإرهاب خارج حدود السودان، وتورط جهات خارجية، وحدوث أزمة إنسانية، وتتلقى قوات الأمن المتحاربة دعماً عسكرياً أجنبياً، مما يعوق محادثات السلام.
– إثيوبيا: تزيد الصراعات الداخلية المتزامنة من حدة التوتر العرقي وتهدد بارتكاب فظائع ضد المدنيين، ويشكل الصراع في ولاية أمهرة، والقضايا الإقليمية التي لم يتم حلها تهديدات مستمرة.
– منطقة الساحل الإفريقي: يؤدي سوء الإدارة، والمظالم العامة، ونقص الموارد العسكرية إلى زيادة احتمالات انتقال الأزمات الموجودة بمنطقة الساحل –ولاسيما الانقلابات- إلى الدول المجاورة، ويسهم في ذلك ضعف المؤسسات الإقليمية، واستغلال القوى الكبرى للاضطرابات، وإعطاء الشركاء الغربيين الأولوية للمصالح الأمنية على الديمقراطية والحكم.
– هايتي: تفقد المؤسسات الحكومية الضعيفة السيطرة لصالح سيطرة العصابات على البلاد؛ مما يؤدي إلى تآكل الاقتصاد والوضع الإنساني السيئ. وتقاوم العصابات نشر القوات الوطنية الأجنبية وتطالب بإسقاط الحكومة.
– فنزويلا: يحتفظ الرئيس مادورو بالسلطة من خلال السيطرة على مؤسسات الدولة والدعم من الصين وإيران وروسيا، ولا تزال الهجرة مرتفعة بسبب نقص الفرص الاقتصادية والفقر.