النقل ودوره في التنمية الشاملة

كتب / د. عادل عامر

لقد كانت حاجة الإنسان إلى النقل منذ فجر التاريخ وارتبط موضوعه بالحركة الدائمة للإنسان حيث كان ينتقل من مكان إلى آخر بحثا عن ضرورات الحياة ، وتشكلت أولى رحلات الإنسان المنتظمة بين مسكنه ( سواء كان الكهف أو الأشجار الكبيرة أو الخيمة … )

والمكان الذي كان يجلب منه الطعام والشراب وذلك على اختلاف الأماكن التي كانت فيها بدايات التجمعات الإنسانية والمستوطنات البشرية .

 وقد أدى التطور الحضاري والعمراني التي مرت به مدن العالم عموما على مر السنين ومنها الدول العربية إلى وجود الكثير من المشاكل الحضرية ومنها مشكلات النقل الحضري المتمثلة بشكل رئيسي بازدحام الشوارع والاختناقات المرورية والضوضاء والتلوث البيئي بكافة أشكاله البصرية والسمعية .  ومن خلال ذلك ظهرت الحاجة إلى وجود الكثير من النظم والوسائل المسيرة لأمور الحياة داخل هذه المدن من الناحية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ومن بينها نظم النقل والمواصلات التي تعتبر من أهم أسباب الاستقرار الحضري في كثير من مدن العالم ، حيث يعتبر قطاع النقل من القطاعات الهامة والذي يقوم بدور أساسي على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والعمراني لكل دولة من الدول المتقدمة منها والنامية على السواء .

يعتبر موضوع النقل والمشكلات الناتجة عنه قديمة قدم المدن نفسها حيث كانت مدينة روما القديمة تعاني من الاختناقات المرورية مما يضطر السلطات إل تغيير اتجاه مرور العربات عن بعض الشوارع ومنع دخولها إلى وسط المدينة في أوقات العمل اليومية

وقد اعتمد الإنسان منذ القدم على الوسائل البدائية في عملية النقل كالطاقة البشرية والرياح والحيوانات وقد استعمل البابليون القدماء العربات ذات الأربع عجلات منذ عام 3000 ق م (حيث تم اكتشاف أول دولاب للعربة في العالم بمحافظة دير الزور السورية في موقع “مارى-تل الحريري” يعود للألف الثالث قبل الميلاد وهو أول دولاب في العالم )

كما أنشا الرومان عام 360 ق م شبكة طرق تربط بين أجزاء إمبراطوريتهم ، وكان هناك ممرات للمشاة ومسارات للعربات التي تجرها الحيوانات ، كما انشأوا قنوات تصريف المياه والجسور الحجرية لاختراق الأودية ، ولا تزال هذه الإنشاءات موجودة في كثير من البلاد العربية والأوروبية .

وعلى صعيد النقل المائي فقد تطور فن الملاحة من الاعتماد على التيارات المائية والتجديف اليدوي إلى استعمال السفن الشراعية ، وقد استعمل الصينيون القنوات والسدود منذ القرن الثامن الميلادي .

وفي الولايات المتحدة أنشئت قناة إيري عام 1825 لتربط مدينة نيويورك بمدينة تروي عن طريق نهر هدسون ومنها إلى مدينة بافالو ومناطق البحيرات في الوسط الغربي الأمريكي الذي ارتبط بذلك مع الأسواق والمصانع الكبرى في شمال الولايات المتحدة ووفرت وسيلة رخيصة لنقل المواد والسلع .

ولا ننسى قناة السويس في مصر التي أنشئت أيضا عام 1869 الي ربطت بين البحر الأحمر مع البحر الأبيض المتوسط والتي اعتبرت نقطة تحول في عالم النقل وحركة التجارة بين أوروبا والشرق ، هذا بالإضافة إلى أن تطورت السفن الشراعية وتم استعمال المحرك البخاري في السفن في القرن التاسع عشر .

وكان اختراع المحرك البخاري وتطوره منذ عام 1814 ، أساس إنشاء أول خط تجاري للسكك الحديدية في إنجلترا ، حيث بنى جورج ستيفنسون قاطرته البخارية الأولى فبدأت أول تجربة للنقل على السكك الحديدية في مقاطعة ويلز الجنوبية بإنجلترا ، وفي عام 1825 نجح ستيفنسون في إصدار مرسوم بإنشاء

أول خط سكك حديدية في العالم بين ستكتون ودارلنجتون بإنجلترا، وكان الخط آنذاك بطول 38 ميلاً ، وتلى ذلك إنشاء خط آخر لنقل الركاب بين ليفربول ومانشستر عام 1830

وفي الولايات المتحدة الأمريكية تم إنشاء أول خط سكك حديد عام 1830 وخلال ثلاثين عاما تم بناء شبكة من السكك الحديدية في جميع أنحاء شرق الولايات المتحدة ، وكان أول خط يخترق القارة الأمريكية من الشرق إلى الغرب عام 1869 وسمي خط يونيون باسيفيك ، وبحلول عام 1900 كانت هناك خمسة خطوط حديدية كبرى تصل الشاطئ الشرقي للولايات المتحدة بالشواطئ الغربية .

وقد أنشئت عام 1877 دائرة حكومية خاصة للإشراف على النقل والتجارة عبر الولايات المتحدة وكانت مسؤوليتها تنظيم النقل بالسكك الحديدية ومراقبته وتسعيره وضبط المنافسة ومراقبتها بين شركات النقل وتأكيد الخدمة الحسنة للمستهلك .

أما بالنسبة للدول العربية فإن موقعها الجغرافي المتميز بين الشرق والغرب جعلها تمتلك شبكات نقل واسعة منذ عام 3500 ق م وإلى عهد الرومان الذين قاموا بتطوير شبكة من الطرق البرية والقنوات (كما سنذكر في فصل تطور الطرق) ، وبعدها كان الفتح الإسلامي الذي استعمل تلك الشبكات وطورها وحسنها ووسعها لربط الجزيرة العربية بكافة أرجاء الدولة الإسلامية حيث كان اهم اهداف النقل آنذاك تسهيل عملية السفر إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة للحج والزيارة والتنقل بين المدن لتسهيل إدارة الحكم الإسلامي والتجارة

وفي القرن العشرين زاد انتشار السكك الحديدية وتطورت بشكل كبير ومما ساعد على استمرارية استعمالها اختراع محرك الديزل والكهرباء حيث استعمل لأول مرة في ولاية نيوجيرسي عام 1925 كما تم تشغيل أول نظام تحكم مركزي لحركة القطارات في ولاية اوهايو .

وكانت ذروة استعمال القطارات للركاب والشحن خلال الحرب العالمية الثانية ، وفي السنوات التالية للحرب كان هناك عدد كبير من قطارات الركاب يسير بسرعة تتراوح بين 145-160 كم / ساعة بمحركات تسير بقوة البخار والديزل والكهرباء ، كما ادخلت التقنيات الخاصة بوسائل الراحة للمسافرين وتكييف الهواء داخل القطارات ومكننة اعمال الصيانة ، ومما ساعد أيضا في سلامة عمليات التشغيل وكفاءتها استعمال اللاسلكي في الاتصالات ، وفي الستينات وصلت السرعة إلى اكثر من 190 كم/ساعة

كما في قطار تاكيدو في اليابان وسرعة 300 كم / ساعة في الولايات المتحدة ، ووصل الرقم القياسي للقطار الفرنسي ميسترال إلى 322 كم / ساعة والذي يربط بين باريس وليون ومرسيليا .

وفي الدول العربية تم إنشاء أول خط للسكك الحديدية وهو خط الحجاز الذي يربط بين دمشق وعمان والمدينة المنورة

أما بالنسبة للسيارات فقد كانت العربة البخارية الأولى للفرنسي نيقولا كوينو عام 1769 وهي ذات ثلاث عجلات وقامت بقطع المسافة بين باريس وفانس بسرعة 3 كم / ساعة ، وفي عام 1880 اخترع رينوار الفرنسي والألمانيين اوتو و لاجن المحركات ذات الاحتراق الداخلي ، وفي عام 1887 بدأ الألمانيين بنز و ديلمر  في استخدام البنزين كوقود للسيارات حيث رافق ذلك عام 1888 استخدام العجلات المطاطية المنفوخة على يد الانجليزي جون دانلوب

وتعتبر الفترة من عام 1920 حتى عام 1970 ( بل حتى نهاية القرن العشرين ) هي عصر السيارات حيث قام خلالها النقل بواسطة الطرق البرية بدور أساسي خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية حتى أطلق البعض عليها أمة على عجلات ، ففي عام 1935 أصبح من الممكن الانتقال بالسيارة عبر البلاد وفي جميع الاتجاهات تقريبا .

كما احدثت الوكالات والهيئات الخاصة بالطرق والتي ركزت نشاطها على الطرق في المناطق الريفية لرفع مستواها وزيادة طاقتها الاستيعابية للمرور ، وذلك بالتوافق مع التركيز على المناطق الحضرية أيضا التي زادت النسبة السكانية فيها كثيرا وتحول الناس فيها من النقل العام إلى استخدام السيارات الخاصة ، حيث تضاعف عدد الرحلات بواسطة السيارة ثلاثة أضعاف ما كانت عليه ، في حين تناقص عدد ركاب النقل العام حوالي 38% منها 78% فقدان في رحلات السكك الحديدية الناجمة عن التحول إلى استخدام الحافلات وبعد ذلك تطورت صناعة السيارات بشكل كبير حتى غدت وسيلة النقل الخاصة والعامة الأكثر استعمالا في العالم لنقل الركاب والبضائع ، وبذلك أدخلت التحسينات الكثيرة على تصميم وإنشاء الطرق البرية بما يتوافق مع تطور السيارات وأوزانها وسرعاتها والحمولات التي تستطيع نقلها . وبالرجوع إلى الإحصائيات نجد أنه عند انتهاء الحرب العالمية الأولى عام 1918 كان هناك 5,5 مليون سيارة في الولايات المتحدة فقط ، وحتى نهايات القرن العشرين وصل العدد إلى 93 مليون سيارة خاصة و18 مليون شاحنة ، وأصبحت هناك شاحنات تتراوح حمولاتها بين 80 -150 طن .

يعرف النقل بأنه نظام حركة الناس والسلع والمرافق والوسائل اللازمة للقيام بذلك ، وقد تكون حركة الناس هي الأهم خاصة داخل المدن من خلال ربط العلاقة بين السكان واستعمالات الأراضي ، إلا ان نقل السلع والبضائع من مصادرها إلى أماكن تسويقها واستخدامها لا يقل أهمية في مجال التطور والنمو الاقتصادي ، فحسب المعيار الاقتصادي فإن السلعة تعد عديمة النفع وليس لها قيمة اقتصادية مالم تكن متوافرة في المكان والزمان المطلوبين ، وبالتالي فإن حركة الناس والبضائع معا هما العاملين الرئيسيين في نمو المجتمع اقتصاديا واجتماعيا .

وتتجلى الوظيفة الأساسية للنقل في أنه يوفر حلقة الوصل بين البيت ومقر العمل والمدرسة أو الجامعة أيضا إضافة إلى رحلات التواصل الاجتماعي بين الناس والتسوق والتنزه وأسباب أخرى كثيرة توجب النقل ، وقد وجد ان اكثر من 50% من الرحلات داخل المدن هي رحلات تتعلق بالعمل وتتطلب حركة الناس هذه وجود وسائل ونظم نقل من طرق وحافلات وغيرها من وسائل النقل العام لتسهيل هذه الحركة وتحقيقها على افضل وجه .

إن المفهوم العام لأي نظام يتألف من مجموعة من الأجزاء والعناصر المترابطة فيما بينها تستعمل لتحقيق هدف مشترك ، وبالنسبة لنظام النقل فهو مجموعة وسائل النقل ومرافقها سواء كانت البرية أو الجوية أو البحرية وسواء كان على الصعيد الإقليمي أو الحضري .

وتشكل نظم النقل جزءا من نظام البنية التحتية والمرافق الأساسية العمرانية والاقتصادية للمنطقة الحضرية ، فنظام النقل هو جزء مهم من النظم الأخرى كشبكات المياه والكهرباء والصرف الصحي وغيرها من مكونات النظام الحضري .

ويتألف نظام النقل من خمسة مكونات أساسية وهي ( الطريق ، المركبة ، القوة المحركة ، المحطات ، نظم التحكم بالتشغيل )  ويبين الشكل التالي الطريقة التي تتفاعل بها هذه المكونات لتوفير الخدمة والمنفعة المرجوة منها 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

Recent Posts

x

‎قد يُعجبك أيضاً

رئيس الوزراء: نسعى بالشراكة مع إحدى المؤسسات العالمية أن يكون مستشفى أورام دار السلام مركزًا على أعلى مستوى

كتبت مني جودت أدلى الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، بتصريحات تليفزيونية، اليوم السبت حيث أشار ...