الموازنة بين الشفافية الإدارية والحفاظ على الأسرار الإدارية

كتب / د.عادل عامر

الحرص علي سلامة كيان الدولة وحماية المواطنين يقتضي أحيانا الحفاظ علي سرية بعض الأعمال والأنشطة، وعدم الجهر بها أو الخوض في تفاصيلها، وإلا ضاع الهدف منها، أو قلت قيمتها نظرًا لما لها من طبيعة خاصة، بل وتعد السرية في هذه الحالة ” مفروضة” أو واجبة يجب علي الإدارة صيانتها وعدم الكشف عنها وإلا كانت مسئولة عن فضحها

؛ إلا أن المجتمعات الحرة الديمقراطية تسعي بقدر الإمكان لإنهاء مجتمع السرية وتحقيق مجتمع الديمقراطية الإدارية، وذلك بإتاحة المعلومات للجميع وطرحها للحوار المجتمعي، وهو ما قررته محكمة الدول الأمريكية لحقوق الإنسان عندما قضت بأن: “من المهم بالنسبة للمواطن العادي أن يعرف آراء الآخرين، وأن يتمتع بالحق في إتاحة المعلومات بشكل عام، وخصوصا الحق في نقل آراءه للآخرين.. وقد انتهت المحكمة إلى أن المجتمع غير المُطلِع ليس مجتمع حر، وسنحاول توضيح ما يمكن أن تصطدم به الشفافية الإدارية عند مواجهتها بالأسرار الإدارية. من خلال التعرف على مفهوم السر الوظيفي ونطاقه، للوصول لوضع

مفهوم السر الوظيفي: جاء السر في اللغة من مادة “سرر” هو ما أخفيت وكتمت وهو خلاف الإعلان ويستعمل في المعاني والأعيان والجمع أسرار قولك أسررت الحديث أسرارا أي أحقيته، وقال تعالي:” وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَ

، وقيل السر ما تتكلم به خفاء، وأخفي منه ما ستفعله ولا يخطر ببالك، وقيل السر ما تتكلم به في خفاء وأخفي منه ما أضمرته في نفسك ولم تتكلم به، قيل السر ما أخفيت والجمع أسرار ورجل سري يضع الأشياء سرًا ، كالسر والجمع سرائر، والسيرة عمل السر من الخير أو الشر ، السر ما تكتمه وتخفيه، وما يسره المرء في نفسه من الأمور التي عزم عليها، والسر شيء مخبأ وبالنعيم حماية تغطى هذا الشيء، ويمكن أن ترتكز بالنسبة إلى من يعرف الشيء على تحظير إفشائه للغير أو بالنسبة إلى من لا يعرفه على منع اكتشاف السر

؛ أما المشرع لم يعرف السر الوظيفي أو يبين ماهيته، وخيرًا فعل فوضع تعريف للشيء في ثنايا القانون يصيب هذا التعريف بالجمود؛ وذلك علي الرغم من وجود رأي فقهي محل تقدير يري أن قوانين التي حرمت علي الموظف العام إفشاء السر الوظيفي لم تعتني بتعريف ما هو السر الوظيفي لكي تضيق من نطاق حرية الموظف العام في التعبير، وذلك بأن تستخدم جهة الإدارة هذا الحظر كسيف مسلط علي الموظف بأن تضفي صفة السرية علي أشياء لا تستحق السرية

، وتعريف السر مسألة تختلف باختلاف الظروف والأزمنة والأمكنة فما يعد سرًا بالنسبة لشخص قد لا يعد سرًا بالنسبة لشخص آخر وما يعد سرًا في ظروف معينة قد لا يعد سرًا في غيرها، وقد تصدي الفقه لتعريف السر الوظيفي فعرفه جانب من الفقه بأنه:” كل ما يعرفه الموظف أثناء أو بمناسبة ممارسة وظيفته أو بسببها وكان في إفشائه ضرر، وعرفه جانب أخر من الفقه بأنه:” الواقعة التي يري القانون مصلحة في حصر العلم بها في شخص أو أشخاص محددين”

، وعرفه جانب ثالث بأنه: “واقعة أو صفة ينحصر نطاق العلم بها في عدد محدد من الأشخاص إذا كانت ثمة مصلحة يعتبر بها القانون في أن يظل العلم بها محصورًا في هذا النطاق

نطاق تطبيق السر الوظيفي: هو حظر عام يمتد ليشمل جميع التقارير والمحاضر والتحقيقات وبوجه عام وكافة الوثائق التي تحت يد الموظف، وهو ما أكده القضاء الإداري الفرنسي بأن الالتزام بالكتمان يشمل كافة الوقائع والمعلومات التي يقف عليها الموظف بسبب أو أثناء ممارسة وظيفته فضلًا عن جميع الوثائق التي تكون تحت يده باعتباره التزامًا عامًا مطلقاً،

 بل أن عمومية الحظر تمتد من الناحية الشخصية لتستغرق جميع من يتصل بهم الموظف، إذا يحظر عليه الإفشاء أو الكشف عن تلك الوثائق أو ما تنطوي عليه من معلومات أو بيانات حتى لأحد زملائه ولو كان يعمل معه في ذات مكتبه

كما لا يجوز له أن يفشي هذه الأسرار سواء في معرض التدليل علي موقف سياسي معين أو من خلال مناصرته لحزب سياسي معين أو حتى إبداء رأيه في موضوع عام مستخدمًا في ذلك المعلومات التي وصلت إلي علمه من خلال وظيفته، وهذا القيد واجب يلاحق الموظف داخل مقر عمله وخارجه علي حد سواء، وهذا الالتزام يجد أساسه في واجب التحفظ

إلا أن البعض انتقد – بحق -هذا التوسع في مفهوم أسرار الدفاع القومي الذي من شأنه أن يمثل عائقًا يئد حرية التعبير وإبداء الرأي في مهدها بالنسبة للموظف العام سواء أكان في الخدمة أم خارجها تجعله يدور في حلقة من السرية شديدة الإحكام، كلما أفلت ذو الشأن من قيد تردي في شرك آخر جديد، مما يعيق الشفافية الإدارية ومراقبة أجهزة الدولة المختلفة من قبل الشعب

كما يلاحقه أثناء الخدمة أو خارجها فهو واجب مستمر، لا يقتصر عن الفترة التي يمارس فيها الوظيفة العامة ، كما يشمل حظر إفشاء الأسرار الإدارية للدولة المعلومات المسموح بنشرها متى تم إذاعتها قبل الموعد المحدد للنشر لأن الإفشاء السابق للأوان من شأنه أن يضر بصورة أو بأخرى بالمصلحة العامة ، ولعل هذا ما دفع جانب من الفقه بالتعبير عن هذا الالتزام بقوله إنه التزام بالصمت المطلق

العلاقة بين الشفافية الإدارية والسر الوظيفي: المشكلة الحقيقية التي تواجه أي دولة أن أكثر المجالات التي يتم فرض قيود عليها هو مجال المعلومات، فلا شك أن التوفيق بين حماية أسرار الوظيفة وحرية تداول المعلومات الإدارية مطلبان متناقضان غالبًا إلا أن الدول تختلف في مدى إضفاء السرية على الأعمال الإدارية ومنع كشفها وإعلانها للعامة؛ بل يحرم الاقتراب منها علي حسب التقدم الحضاري تقسيم حكومات العالم في درجة إخفائها أو إظهارها لحقيقة المعلومات المتعلقة بنشاطها وإعلانها إلى ثلاثة أشكال من الدول

الحكومة المغلقة: وتمثل الغالبية الساحقة من البلاد المتخلفة حيث يختفي الجانب الأكبر من المعلومات وراء جدران قائمة على الكتمان، فلا يسمع أحد عن بعضها ويسمع البعض الآخر فيظهر على هيئة بيانات خاوية من أي حق، ولا يعرف الناس من المعلومات إلا ما تريد له الحكومة أن يعرفه، وفي البلاد الشيوعية تبلغ السرية ذروتها فتحجب الحقائق عن عامة الشعب ويصل الأمر إلى حد إعداد نوعين من الإحصائيات، نوع مزور يجهز للاستهلاك المحلي وينشر على المواطنين لتوجيههم وجهة معينة قررتها الحكومة

الحكومات شبة المفتوحة: هي الحكومات التي تقوم بإتاحة المعلومات بعد عرضها على الحكام وكبار المسئولين ليحددوا القرارات المتعلقة بسرية موضوع البيانات التي يمكن تداولها، ويمثله في ذلك الاتجاه الأمريكي الذي يعمل علي نشر المعلومات بطريقة تبعث على التفاؤل والأمل العريض بالنسبة للمواطنين؛ إلا أن هذه الدول تختلط فيها السرية المستخدمة لحماية الأمن الوطني بالسرية المستخدمة لتعزيز النفوذ السياسي والبيروقراطي مما يؤدي إلي نمو السرية علي نحو يصبح معه نظام حماية السرية بدافع الأمن الوطني أكثر تعقيدًا،

مما يسمح بفرصة تسريب المعلومات السرية بصورة غير ظاهرة فتصبح المعلومات السرية فعلاً عرضة للتسريب بمعرفة القيادات العليا، بهدف تحقيق مصالحهم الشخصية،

 وهذا الأمر يشجع علي عدم احترام نظام تصنيف المعلومات السرية، كما أنه يقوض مصداقية سياسة تصنيف المعلومات وغيرها من القيود المفروضة علي الحق في الوصول إلي المعلومات، وبالتالي عدم القدرة علي التمييز بين السرية المفروضة لحماية الأمن الوطني والسرية غير الضرورية التي ليس لها مبرر

الحكومات المفتوحة: وهى دول تسعي بقدر الإمكان لإنهاء مجتمع السرية وتحقيق مجتمع الديمقراطية الإدارية، وذلك بإتاحة المعلومات للجميع وطرحها للحوار المجتمعي، فالحكومة المفتوحة تعرف بمدى افصاحها ونشرها المعلومات وحجمها والوسائل والطريقة التي تنشر بها المعلومات

فيما إذا كانت الكترونيًا أو غير ذلك ومدى استجابة الحكومة لطلب المعلومات غير المنشورة سواء من المواطنين أو وسائل الإعلام وغيرها- ويقاس مدى التزام الدول بالإفصاح ونشر المعلومات وتسهيل الوصول إليها بإصدار القوانين المتعلقة بالإفصاح ونشر المعلومات – هذه العوامل تحدد مدى اهتمام الحكومة بالانفتاح علي مواطنيها ومشاركتهم كافة المعلومات التي تتعلق بشئونهم وحياتهم لتبرهن الدولة أنها تعمل لمصلحة مواطنيها،

 وتريد أن تكسب ثقتهم فعليها أن تثبت ذلك من خلال نشرها كل ما يمكن نشره عن قراراتها ومشاريعها وميزانياتها ومواردها ونتائج سياساتها وأعمالها وتوقعاتها المستقبلية – والأسباب التي بنت عليها قراراتها وبالتالي تأثير وعواقب تلك القرارات خاصة ما يتعلق بالشئون الحياتية والمعيشة والتنموية للمواطنين، وتعد أغلب حكومات دول الاتجاه الأوربي من هذه الحكومات حيث تقوم بنشر المعلومات بصراحة وموضوعية وشرف رغم ما قد تتضمنه من مصاعب أو مشاكل أو أخبار غير سارة.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

Recent Posts

x

‎قد يُعجبك أيضاً

وزير العدل يشارك في مؤتمر “الجهود الوطنية لتضمين قضايا الأشخاص ذوي الإعاقة

كتب حاتم جوده هزع شارك المستشار عدنان  فنجري وزير العدل  في فعاليات مؤتمر “الجهود الوطنية ...