إن الاحتجاج يعكس أزمة السياسة التقليدية بمؤسساتها المختلفة من الحكومة إلى الأحزاب مرورا بالنخب ودورها، كما يمثل تحولا في طبيعة المطالب التي باتت مباشرة وفي أحايين كثيرة محلية، وتدور حول معايش الناس من أجور ووظائف وأوضاع اقتصادية، ولذا فقد تراجعت فيها الأيديولوجيا إلى حد كبير، ولكنها تتضمن عددا من القيم مثل المساواة والعدالة التي ترتبط أساسا بما هو مطروح من مشكلات واقعية.تواجه الحكومات مأزقا تاريخيا، فهي تعمل في بيئة تتسم بعدم اليقين،
كما ظهر في كورونا والحرب الأوكرانية، وفي الوقت نفسه تشهد مجتمعاتها تحولا دراماتيكيا، وزيادة في الطلب على أدوارها من قبل الجماهير، ولكن مؤسساتها تعجز عن التعامل مع ذلك كله، لذا فيُتوقع على مدار العقدين القادمين مزيد من الاحتجاج، ولكن هل تكون الحكومات أكثر إنصاتا لصوت شعوبها أم يظل ضجيج القلة هو الطاغي على آذانها؟
لقد تحدى المحتجون أخيرا في إيران والصين بشكل مباشر سلطة المرشد/الزعيم الصيني والحرس الثوري/الحزب الشيوعي في مشاهد لم يكن من الممكن تصورها قبل شهرين في إيران، وقبل شهر واحد فقط عندما حصل السيد شيء على فترة رئاسية ثالثة في السلطة، وفيما يلي نتناول أبرز هذه الخصائص:هنا يحسن أن نلفت النظر إلى أن الإنجاز عمل تراكمي، ورغم هذا فإن 42% من الاحتجاجات أسفرت عن نوع من الإنجاز الواضح، وفق بعض الدراسات.
ونادرًا ما يكون النجاح نتيجة حدث احتجاجي واحد؛ ولكنه نتيجة سنوات عديدة من العمل الذي يركز على نفس المظلمة/الطلب، لأن العديد من المحتجين منخرطون في قضايا هيكلية طويلة الأجل قد تسفر عن نتائج في الوقت المناسب، وقد تثبت الإنجازات المتزايدة أو القصيرة الأجل أنها مقدمة للتغيير الأكثر شمولًا.
هذا الواقع النهضوي الجديد في أوروبا، الذي كان الوليد الشرعي لفكر وفلسفة عصر النهضة، دفع السيد غوستاف لوبون إلى دراسة علم النفس واستخلاص مخرج أو فرع جديد فيه، وهو التوسع في علم النفس من دراسة الفرد إلى دراسة الحشد أو الجماهير، وكيف أن لهذه الجماهير في وحدتها تكتسب سيكولوجية خاصة بها، تنصهر فيها سيكولوجيات فردية عديدة تفقد سمتها الفردية المختلفة والمتناقضة لتشكل سيكولوجية أخرى لا تمت إلى الفرد المنخرط في الوحدة الجماهيرية بأية صلة.
ويصف هذا التشكل السيكولوجي في «وحدة الجماهير» بهذه العبارة: «بمجرد أن يجتمع هؤلاء على هيئة جمهور فإن الجاهل والعالم يصبحان عاجزين عن الملاحظة والنظر… وكم هو عدد الجماهير التي ضحّت بأنفسها بنوع من البطولة من أجل عقائد وأفكار لا تفهمها إلا بالكاد».
بمجرد أن خرج الكتاب إلى عالم المكتبات تفتحت عليه عيون الناس شبه – أجمعين، من العامة والخاصة… العامة وهي نبع الجماهيرية، والخاصة وهي مراكز السياسة والاقتصاد، فأضحى كتابًا سياسيًا بامتياز. تهافت قادة الساسة وخبراء السياسة لدراسة هذا الكتاب الذي وجدوا فيه دليلاً مفيدًا وفعّالاً لمعرفة سيكولوجيات الحشود وكيفية التعامل معها وتوجبه دفتها خدمة للسياسة السائدة، ودرءًا لأي تحول درامي قد يقلب الواقع السائد إلى واقع لا يحمد عقباه. من المعلومات المتداولة، عن الأهمية السياسية لهذا الكتاب، أنه استحوذ على اهتمام هتلر وموسوليني، وقد قام بعض القادة السياسيين في أمريكا وفرنسا بزيارة لوبون للاسترشاد بأفكاره.
أخذ الكتاب بُعدًا سياسيًا موازيًا لكتاب «الأمير» الذي كتبه نيقولا مكيافيللي في القرن السادس عشر… الفارق الزمني بين الكتابين ثلاثة قرون، وهذه الثلاثة قرون كانت مثقلة بعناصر التحولات النوعية الكبيرة التي أفرزت مسار النهضة والثورات الشعبية وسيكولوجية الجماهير ومكانة الشعوب في دساتير الدول (الجملة البراقة في معظم الدساتير هي: «الشعب مصدر السلطات» )…
ورغم نسبية السلطة الشعبية على أرض الواقع، إلا أن ورودها بالنص الصريح في الدساتير يحمل دلالة نهضوية (حضارية) على مسار التاريخ، أي نقطة تحول في التاريخ البشري منذ ألوف السنين؛ هذه السلطة التي مصدرها «سيكولوجية الجماهير» هي سلطة فتية في عمر الحضارة.
ويرتبط بما سبق أن المطالب الملموسة مثل زيادة الأجور أو إعادة الدعم، مثل الغذاء والوقود، أو وقف بناء البنية التحتية، لديها فرص أكبر للنجاح من الاحتجاجات التي تهدف إلى التغيير الهيكلي. في المقابل، كلما كانت القضية هيكلية (على سبيل المثال عدم المساواة والتجارة الحرة الإمبريالية)، وكلما كان الخصوم بعيدين (مثل مجموعة العشرين والقطاع المالي وصندوق النقد الدولي والتحالفات العسكرية) انخفضت معدلات الإنجاز.
تُعد الدراسة النظامية للظواهر السياسية الجوهرية دراسة قديمة، بدأت منذ أن نشر أرسطو كتابه السياسة، إلا أن اصطلاح “علم الاجتماع السياسي”، الذي يدرس الظواهر السياسية دراسة متعلقة بأجزاء التركيب أو البناء الاجتماعي، ظهر لأول مرة عام 1945. ويرى علم الاجتماع السياسي أن المؤسسات السياسية، بأنواعها الرسمية والدستورية وغير الرسمية، أجزاء أساسية من النظام الاجتماعي؛ فضلاً عن دراسته للطبقة الأرستقراطية، ودراسة مظاهر الصراع وطرق السيطرة عليه، وجماعات المصلحة والضغط، وتكوين الرأي العام، والأحزاب السياسية كمؤسسات اجتماعية، ودراسة الظواهر السياسية المتعلقة بالأنظمة الدكتاتورية، والأنظمة الديموقراطية الدستورية الحديثة.
ومعنى ذلك أن علم الاجتماع السياسي جزء متكامل من علم الاجتماع، استطاع أن يوجه العلم السياسي بصورة متزايدة نحو الاهتمام بالواقع الإمبريقي، والتحليل الاجتماعي للظواهر السياسية المختلفة. وتُعد مرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية وما بعدها هي الفترة التي شهدت ظهور علم الاجتماع السياسي وتألقه، حيث كانت محاولات إعادة بناء أوروبا، وحركات الاستقلال الوطني والنزعات المعادية للاستعمار، وظهور الديموقراطية، كأيديولوجية، بمثابة الأرض الخصبة التي تَخلَّق من خلالها هذا العلم؛ بل إن تطوره كنسق معرفي ارتبط بسعيه ومحاولته لتفسير تلك الظواهر القومية والعالمية.
إذا كان المناخ الفكري الناقد الذي صحب الحرب العالمية الثانية، قد ساعد على مزيد من الاهتمام بقضية العلاقة بين السياسة والمجتمع، ومن ثم انبثاق الحاجة إلى علم الاجتماعي السياسي، إلا أن بعض الدارسين يرى أن الدراسة الاجتماعية للسياسة ارتبطت، كذلك، بظهور السلوكية Behaviorism، التي تؤكد على الوقائع الخاصة، التي يمكن ملاحظتها أكثر من تأكيدها على الخبرات الذاتية للسلوك الإنساني؛ فالاتجاهات السياسية والسلوكيات والإدراكات والمعتقدات، أصبح يُنظر إليها بوصفها انعكاسات للعلاقات البين شخصية Inter Personal Relation، داخل الجماعات الأولية والثانوية. وقد امتد تأثير السلوكية إلى العصر الحديث، حيث ظهر الاهتمام بدراسة الأحزاب السياسية، وبعملية التصويت؛ فضلاً عن تحليل التنظيمات البيروقراطية، والحركات السياسية الشمولية.
وإذا كان علم السياسة، كما يقول لازويل Lasswel، يهتم بدراسة الحكومة والإدارة العامة، أو يدرس الدولة والنظم السياسية المختلفة، أو يُعنى أساساً بدراسة القوة Power، وعملية التأثير أو النفوذ Influence، فإنه يحاول الإجابة على التساؤلات الأربعة: من يحصل؟ وعلى ماذا؟ ومتى؟ وكيف؟.
وإذا كان علم الاجتماع يهتم بدراسة طبيعة البناءات الاجتماعية، فإن علم الاجتماع السياسي قد انبثق من خلال التفاعل بين هذين النسقين المعرفيين (علم السياسة وعلم الاجتماع).
وعلى الرغم من الجهود الضخمة، التي بذلها علماء الاجتماع السياسي خلال العقود الأخيرة، من أجل تحديد دقيق لنطاق عملهم؛ إلا أن التفرقة بين علم الاجتماع السياسي وعلم السياسة قد تبدو أمراً صعباً، في كثير من الأحيان؛ فعلى سبيل المثال، يهتم علم السياسة بدراسة أساليب الحكم وأدواته، بما في ذلك العمليات التشريعية والإدارية والقانونية، دراسة وصفية؛ فضلاً عن الجانب الرسمي للعمليات السياسية، إلا أن الكتابات الحديثة في علم السياسة تشير إلى اهتمام متزايد بالسياق الاجتماعي والاقتصادي، ما جعله أكثر قرباً إلى علم الاجتماع السياسي. وهذا ما دفع عالم الاجتماع السياسي توم بوتومور Bottomore، إلى القول: إن علم السياسة الحديث لا يختلف في اهتماماته كثيراً عن علم الاجتماع السياسي.