أضحى فكر تدبير الأزمات مهيمنًا على حقل الاستراتيجية الأوروبية، وتزايدت الأسئلة عن مهمّات القادة العسكريّين، إن بقيَ لهم أي دور حربي يقومون به، أو دور سيكون حكرًا على إدارة سلسلة من الأزمات طبقًا لـ”أخلاق” أوروبية حداثية. ونتيجةً لعناصر مُركبة يُمكن اختزالها في المقولة الشهيرة بضَبطِ النَّفس، تشكّلت ثقافة سياسية تقوم على التعامل مع الأزمات بوصفها أحداثًا وحوادث جارية، وليس حروبًا تقليدية.أُطلقت سياسة الجوار الأوروبية في عام 2004 لتعزيز الاستقرار والأمن والازدهار في المناطق المجاورة للاتحاد الأوروبي، سواء في الجنوب أو في الشرق.
وفي عام 2015، اعتمد الممثل الأعلى والمفوضية الأوروبية مراجعة سياسة الجوار الأوروبية، التي أدخلت تغييرًا على إطار التعاون واقترحت سبلاً لبناء شراكات أكثر فعالية في الجوار.
تستند سياسة الجوار الأوروبية إلى التزام الاتحاد الأوروبي وجيرانه بالعمل معا في المجالات الرئيسية ذات الأولوية. وتقوم هذه الشراكة على القيم المشتركة، وتعزيز الديمقراطية، وسيادة القانون، واحترام حقوق الإنسان، والتماسك الاجتماعي. كما تضيف سياسة الجوار الأوروبية التي تمت مراجعتها 3 أولويات مشتركة للتعاون: 1. التنمية الاقتصادية لتحقيق الاستقرار؛; 2. الأمن؛; 3. الهجرة والتنقل.
التمايز هو المبدأ التوجيهي لعلاقات الاتحاد الأوروبي مع جواره. ويعترف هذا النهج بالتطلعات المختلفة للبلدان الشريكة نحو علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي. ولذلك، يقدم الاتحاد الأوروبي شراكات مصممة خصيصًا لجيرانه. ويتم وضع الوثائق المشتركة (أي أولويات الشراكة أو جداول أعمال مجالس الشراكة أو ما يعادلها) مع كل بلد، مع التركيز على المصالح المشتركة. وهذا يسمح بالملكية والمرونة في تصميم الدعم لطموحات كل بلد شريك.
ومن المبادئ الرئيسية لسياسة الجوار الأوروبية أيضا زيادة مشاركة الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي وتقاسم المسؤولية.
ويتمثل جوهر سياسة الجوار الأوروبية في الطموح إلى تعميق المشاركة مع المجتمع المدني والشركاء الاجتماعيين.
وتتيح سياسة الجوار الأوروبية للبلدان الشريكة إمكانية أكبر للوصول إلى السوق والإطار التنظيمي للاتحاد الأوروبي ومعاييره ووكالاته وبرامجه الداخلية
غير أنّ تنوع الأزمات على المحاور الأوروبية، وآخرها كانت الأزمة الأوكرانية، أظهر أن هناك خشية حقيقية من ظهور أزمات يمكن أن تتحول إلى حروب بين دول. إنّ الأزمات الاستراتيجية هي كلّ الصراعات ذات البعد العسكري التي لم تتحوّل إلى حروب مباشرة بين الدول، الكبرى والأساسية على الأقلّ.ويجب أن يدرك صناع السياسات أن اقتصاد ما بعد الأزمة قد يبدو مختلفا تماما عن اقتصاد عام 2019. ففي مشهد تتضح معالمه بصورة متزايدة، نجد أنفسنا في مخاض نحو تغيير دائم – وهو تغيير مطلوب. فقد ذكرتنا جائحة كورونا بأن الطبيعة لا تزال سيدة الموقف، وأن تدهور البيئة يجب أن يتوقف، وأن الاستثمار في بناء الصلابة هو السياسة السليمة. وبالإضافة إلى ذلك، تقتضي الحكمة أن نعد العدة لاستمرار هذه الجائحة عدة سنوات قادمة، وأن نتحسب لإمكانية وقوع جوائح أخرى في المستقبل. ويجب أن تعمل أوروبا جاهدة على خلق اقتصاد جديد أكثر خضرة يستطيع العمل بكفاءة حتى مع فترات التباعد الاجتماعي المطولة. وقد يستغرق استكمال هذه المهمة سنوات عديدة، ولكن بذور التحول يجب أن يبدأ غرسها الآن. فلا يمكننا الاكتفاء بعودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل الأزمة.
والتغيير جار بالفعل، ويتمخض عن أطراف فائزة وأخرى خاسرة. فهناك الرقمنة التي برز دورها كحصن منيع للصمود، ولكنها باتت تشكل أيضا فجوة فاصلة بين الأطراف المتأثرة. ففي مختلف بلدان أوروبا وخارجها، يتأقلم عدد لا يحصى من الموظفين مع العمل من بُعد، والطلاب مع التعلم من بُعد، والأطباء والمرضى مع ممارسة الطب والحصول على الاستشارات الطبية من بُعد، والشركات مع البيع من خلال الإنترنت والتسليم من الباب إلى الباب.
غير أن هناك عددا آخر لا يحصى أيضا ممن لم يلحقوا بهذا الركب. فكثير من الأنشطة التي تتطلب درجة كثيفة من الاتصال المباشر – كالضيافة والسفر وغيرهما – قد تحتاج إلى سنوات حتى تتعافى. وهناك مخرجات – كالطاقة المتولدة عن الفحم أو السيارات التي ينبعث منها الكربون – قد يعفو عليها الزمن إلى الأبد. وهنا أيضا، ستتضرر بعض البلدان أكثر من غيرها، وقد تزداد مظاهر عدم المساواة عبر الحدود الوطنية وفي داخلها. ولعلنا غير قادرين حتى الآن على تصوُّر المعتاد الجديد بشكل كامل، ولكن عملية التحول بدأت بالفعل.
ويجب استخدام الأموال العامة في توجيه إعادة توزيع الموارد اللازمة مع حماية الفئات المعرضة للتأثر. ففي أسواق العمل والمنتجات، يجب أن ينصب التركيز على المرونة، بما في ذلك ضمان استمرار الأساس المؤقت الذي تقوم عليه نظم العمل قصير المدة الحاكمة لعلاقة العمل بين العاملين وأصحاب العمل. وفي قطاع الشركات، يجب أن تتضمن برامج الدعم حوافز تشجع الشركات التي ترتكز على خطط عمل قوية وتثبط الشركات الماضية في مسار يقود إلى الفشل.
ومع تحول احتياجات السيولة إلى احتياجات للملاءة، قد يتعين أن تتضمن المساعدات المقدمة للدولة ضخ رؤوس أموال مساهمة – وهناك عدة مبادرات أوروبية تسير في هذا الاتجاه بالفعل. وسيكون الوضوح بشأن تسعير الكربون مهما أيضا لتهيئة الظروف لتعافي الاستثمار الخاص على نحو مراعٍ للمناخ. وأخيرا، فإن الاستثمار العام يمكن، بل ويجب، أن يكون في الصدارة، فيركز على التخضير والرقمنة وغيرها من الجوانب التي تعزز الصلابة.
ونظرا لتفاوت ظروف البلدان، فهناك داع قوي للقيام بتحرك مالي مشترك على مستوى الاتحاد الأوروبي. فدعم التعافي سيظل يتطلب موارد مالية كبيرة. وبتركيز أموال الاتحاد الأوروبي على البلدان الأشد تضررا من الجائحة أو ذات الحيز المالي الأضيق، ومستويات الدخل الأدنى، والضرر البيئي الأكبر، من المنتظر أن تؤدي حزمة إجراءات التعافي المسماة “الجيل القادم للاتحاد الأوروبي” إلى تحسين النتائج للسوق الموحدة ككل. غير أن تحقيق هذا الهدف يتطلب بالضرورة أن تكون هذه الحزمة حافزا وليس بديلا للإصلاحات الهيكلية وسياسات المالية العامة الحذرة. ومع تطبيق حدود أساسية لحجم أي مساعدات مشتركة من الاتحاد الأوروبي، ستظل على عاتق السلطات الوطنية المسؤولية الكاملة للتأكد من بقاء أعباء الديون في حدود مستدامة. وحتى مع انخفاض تكاليف الاقتراض، سيكون على كل البلدان أن تتشارك في تقديم دفعة تحفيزية مبدئية تقوم على خطط ذات مصداقية للسياسات متوسطة الأجل. يثير هذا التحوّل تعقيدًا نظريًّا حقيقيًّا عند الباحثين، فهل يقطع التحوّل في النظام الدولي المعاصر مع شكل التحوّل في النظم الدولية السابقة، وهو الذي عُرِف معظمه بتسويات عسكرية كبرى (وستفاليا 1648، فيينا 1815، يالطا 1945)، أم إنَّ تسويات عسكرية كتلك تبقى مركزية في تفسير أي شكل من التحوّل، ومن ثم استمرارية المسار نفسه؟ فلولا حرب العراق مثلًا عام 1991، لما جرى التأكيد بوضوح أنّ نظامًا جديدًا قد تشكل تقوده الولايات المتحدة وحدها، فلعلّ حربًا،
مع ذلك، يمكن القول إنّ إدارة الأزمات وجه مميز من تقلّبات الحرب. وقد نظر مؤلّفون إلى الحرب بوصفها ظاهرةً ذات طبيعة مُتقلّبة. قياسًا على ذلك، فلا يُعقل التفكير في الحرب كما فكر فيها من سبقنا في الحروب الأوروبية الحديثة. إن تصوّر التحوّل في النظام الدولي على أساسٍ عسكري يعني شيئًا مخالفًا عن تصوّر تحوّله بشكلٍ تدريجي، وربّما سلمي، كما أنّ تحوّلًا نحو زيادة قدرات الدفاع لا يعني بالضرورة نوعًا من الحرب التقليدية سيعرفها العالم المعاصر.
إنّ المعنى الأخير يجعل الاتحاد الأوروبي يبدي تدبيرًا تفاوضيًّا سوسيولوجيًّا للأزمات، ويقر ضمنيًّا وللمرة الأولى منذ عام 1648، بكون تحوّل النظام الدولي المعاصر ليس مسرحه أوروبا. يجعل هذا المعطى من إدارة الأزمات معيارًا ذا صدقية وبعيدًا عن التنبّؤات التشاؤمية الأميركية بالخصوص. إن تدفق المعايير والقواعد والالتزامات الأمنية والاستراتيجية في العلاقة بين حلف الناتو والاتحاد الأوروبي والبلدان الأوروبية. وواقع هذا التدفّق أصبح موضوع بحث يهدف إلى استقصاء مسارات تأثير الناتو وسياسة الاتحاد الأوروبي والقوات المسلحة للبلدان الأوروبية في الأمن والدفاع المشترك. يقود الوقوف عند هذه المسألة إلى تقديم بعض المفاهيم لتحليل البنية الناشئة عن هذه العلاقة، والهدف المعرفي من ذلك هو تقديم نظرة نقدية إلى الصورة الذهنية عن علاقة الناتو بالدفاع الأوروبي بالاستعانة ببعض هذه المفاهيم.
إن التدفّقات الأمنية لا تعكس سوى جانبٍ من هذه العلاقة، ولأجل استمرارها – أي هذه العلاقة – في ظل أعباء متزايدة، تنبّه القادة والسياسيون إلى ضرورة توسيعها لحماية نواة الجماعة الأمنية الأطلسية، خصوصًا بضبط التوازن العام لهذه الشراكة عبر استخدام عناصر، كإحياء برامج سالفة لإعادة الالتزام العسكري الأميركي في أوروبا، أو لتفعيل جيوسياسية جديدة ركيزتاها التجارة والاقتصاد السياسي، أو إعادة إحياء الالتزام الأميركي في أوروبا كلّما تطلّب الأمر ذلك.