كتب /د. عادل عامر
إن اختصاص السلطة التشريعية بإقرار القواعد القانونية ابتداء، وكذلك تفويضها السلطة التنفيذية في إصدارها في الحدود التي بينها الدستور، لا يخول إحداهما التدخل في أعمال أسندها الدستور إلى السلطة القضائية وقصرها عليها، وإلا كان ذلك افتئاتا على ولايتها، وإخلالا ًبمبدأ الفصل بين السلطات. وحيث إن الدستور كفل في مادته السابعة والستين الحق في المحاكمة المنصفة بما تنص عليه من أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه. وهو حق نص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادتيه العاشرة والحادية عشرة التي تقرر أولاهما أن لكل شخص حقا مكتملا، ومتكافئا مع غيره، في محاكمة علنية ومنصفة، تقوم عليها محكمة مستقلة محايدة، تتولي الفصل في حقوقه والتزاماته المدنية، أو في التهمة الجنائية الموجهة إليه.
وتردد ثانيتهما في فقرتها الأولي حق كل شخص وجهت إليه تهمة جنائية، في أن تفترض براءته، إلى أن تثبت إدانته في محاكمة علنية توفر له فيها الضمانات الضرورية لدفاعه وهذه الفقرة هي التي تستمد منها المادة 67 من الدستور أصلها، وهي تردد قاعدة استقر العمل على تطبيقها في الدول الديموقراطية، وتقع في إطارها مجموعة من الضمانات الأساسية تكفل بتكاملها مفهوما للعدالة يتفق بوجه عام مع المقاييس المعاصرة المعمول بها في الدول المتحضرة.
وهي بذلك تتصل بتشكيل المحكمة، وقواعد تنظيمها، وطبيعة القواعد الإجرائية المعمول بها أمامها، وكيفية تطبيقها من الناحية العملية. كما إنها تعتبر في نطاق الاتهام الجنائي وثيقة الصلة بالحرية الشخصية التي قضي الدستور في المادة 41 بأنها من الحقوق الطبيعية التي لا يجوز الإخلال بها أو تقييدها بالمخالفة لأحكامه. ولا يجوز بالتالي تفسير هذه القاعدة تفسيرا ضيقا، إذ هي ضمان مبدئي لرد العدوان عن حقوق المواطن وحرياته الأساسية، وهي التي تكفل تمتعه بها في إطار من الفرص المتكافئة، ولأن نطاقها وإن كان لا يقتصر على الاتهام الجنائي، وإنما يمتد إلى كل دعوي، ولو كانت الحقوق المثارة فيها من طبيعة مدنية، إلا أن المحاكمة المنصفة تعتبر أكثر لزوما في الدعوي الجنائية، وذلك أيا كانت طبيعة الجريمة، وبغض النظر عن درجة خطورتها. وعلة ذلك أن إدانة المتهم بالجريمة، إنما تعرضه لأخطر القيود على حريته الشخصية وأكثرها تهديدا لحقه في الحياة، وهي مخاطر لا سبيل إلى توقيها إلا على ضوء ضمانات فعلية توازن بين حق الفرد في الحرية من ناحية، وحق الجماعة في الدفاع عن مصالحها الأساسية من ناحية أخرى.
ويتحقق ذلك كلما أن الاتهام الجنائي معرفا بالتهمة، مبينا طبيعتها، مفصلا أدلتها وكافة العناصر المرتبطة بها، وبمراعاة أن يكون الفصل في هذا الاتهام عن طريق محكمة مستقلة ومحايدة ينشئها القانون، وأن تجري المحاكمة علانية، وخلال مدة معقولة، وأن تستند المحكمة في قرارها بالإدانة – إذا خلصت إليها – إلى موضوعية التحقيق الذي تجريه، وإلى عرض متجرد للحقائق، وإلى تقدير سائغ للمصالح المتنازعة. وتلك جميعها من الضمانات الجوهرية التي لا تقوم المحاكمة المنصفة بدونها. ومن ثم كفلها الدستور في المادة 67، وقرنها بضمانتين تعتبران من مقوماتها، وتندرجان تحت مفهومها، هما افتراض البراءة من ناحية، وحق الدفاع لدحض الاتهام الجنائي من ناحية أخرى، وهو حق عززته المادة 69 من الدستور بنصها على أن حق الدفاع بالأصالة أو بالوكالة مكفول.
وحيث إن الدستور يكفل للحقوق التي نص عليها في صلبه الحماية من جوانبها العملية، وليس من معطياتها النظرية، وكان استيثاق المحكمة من مراعاة القواعد المنصفة آنفة البيان عند فصلها في الاتهام الجنائي تحقيقا لمفاهيم العدالة حتى في أكثر الجرائم خطورة، لا يعدو أن يكون ضمانة أولية لعدم المساس بالحرية الشخصية – التي كفلها الدستور لكل مواطن – بغير الوسائل القانونية التي لا يترخص أحد في التقيد بها، والنزول عليها. وكان افتراض براءة المتهم يمثل أصلا ثابتا يتعلق بالتهمة الجنائية من ناحية إثباتها، وليس بنوع العقوبة المقررة لها، وينسحب إلى الدعوي الجنائية في جميع مراحلها، وعلى امتداد إجراءاتها، فقد غدا من الحتم أن يرتب الدستور على افتراض البراءة، عدم جواز نقضها بغير الأدلة الجازمة التي تخلص إليها المحكمة، وتتكون من جماعها عقيدتها.
ولازم ذلك أن تطرح هذه الأدلة عليها، وأن تقول هي وحدها كلمتها فيها، وألا تفرض عليها أي جهة أخرى مفهوما محددا لدليل بعينه، وأن يكون مرد الأمر دائما إلى ما استخلصته هي من وقائع الدعوي، وحصلته من أوراقها، غير مقيدة بوجهة نظر النيابة العامة، أو الدفاع بشأنها.
وحيث إنه على ضوء ما تقدم، تتمثل ضوابط المحاكمة المنصفة في مجموعة من القواعد المبدئية التي تعكس مضامينها نظاما متكامل الملامح، يتوخى بالأسس التي يقوم عليها، صون كرامة الإنسان وحماية حقوقه الأساسية، ويحول بضماناته دون إساءة استخدام العقوبة بما يخرجها عن أهدافها. وذلك انطلاقا من إيمان الأمم المتحضرة بحرمة الحياة الخاصة، وبوطأة القيود التي تنال من الحرية الشخصية. ولضمان أن تتقيد الدولة – عند مباشرتها لسلطاتها في مجال فرض العقوبة صونا للنظام الاجتماعي – بالأغراض النهائية للقوانين العقابية التي ينافيها أن تكون إدانة المتهم هدفا مقصودا لذاته، أو أن تكون القواعد التي تتم محاكمته على ضوئها، مصادمة للمفهوم الصحيح لإدارة العدالة الجنائية إدارة فعالة.
بل يتعين أن تلتزم هذه القواعد مجموعة من القيم التي تكفل لحقوق المتهم الحد الأدنى من الحماية التي لا يجوز النزول عنها أو الانتقاص منها، وهذه القواعد – وإن كانت إجرائية في الأصل – إلا أن تطبيقها في مجال الدعوي الجنائية – وعلى امتداد مراحلها – يؤثر بالضرورة على محصلتها النهائية، ويندرج تحتها أصل البراءة كقاعدة أولية تفرضها الفطرة، وتوجبها حقائق الأشياء، وهي بعد قاعدة حرص الدستور على إبرازها في المادة 67 مؤكدا بمضمونها ما قررته المادة 11من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على ما سلف بيانه، والمادة السادسة من الاتفاقية الأوربية لحماية حقوق الإنسان.
أصل البراءة
إن أصل البراءة يمتد إلى كل فرد سواء أكان مشتبها فيه، أو متهما، باعتباره قاعدة أساسية في النظام الاتهامي أقرتها الشرائع جميعها – لا لتكفل بموجبها حماية المذنبين – وإنما لتدرأ بمقتضاها العقوبة عن الفرد إذا كانت التهمة الموجهة إليه قد أحاطتها الشبهات بما يحول دون التيقن من مقارفة المتهم للواقعة محل الاتهام، ذلك أن الاتهام الجنائي في ذاته لا يزحزح أصل البراءة الذي يلازم الفرد دوما ولا يزايله، سواء في مرحلة ما قبل المحاكمة، أو أثنائها وعلى امتداد حلقاتها، وأيا كان الزمن الذي تستغرقه إجراءاتها. ولا سبيل بالتالي لدحض أصل البراءة بغير الأدلة التي تبلغ قوتها الإقناعية مبلغ الجزم واليقين، بما لا يدع مجالا معقولا لشبهة انتفاء التهمة، وبشرط أن تكون دلالتها قد استقرت حقيقتها بحكم قضائي استنفد طرق الطعن فيه، وصار باتا.
وحيث إن افتراض البراءة لا يتمحض عن قرينة قانونية، ولا هو من صورها، ذلك أن القرينة القانونية تقوم على تحويل للإثبات من محله الأصلي – ممثلا في الواقعة مصدر الحق المدعي به – إلى واقعة أخرى قريبة منها متصلة بها. وهذه الواقعة البديلة هي التي يعتبر إثباتها إثباتا للواقعة الأولي بحكم القانون. وليس الأمر كذلك بالنسبة إلى البراءة التي افترضها الدستور. فليس ثمة واقعة أحلها الدستور محل واقعة أخرى، وأقامها بديلا عنها innocence is more properly called an assumption as opposed to a presumption.It does not rest on any other proved facts, it is assumed وإنما يؤسس افتراض البراءة على الفطرة التي جبل الإنسان عليها، فقد ولد حراً مبرءاً من الخطيئة أو المعصية.
ويفترض على امتداد مراحل حياته أن أصل البراءة لازال كامناً فيه، مصاحباً له فيما يأتيه من أفعال، إلى أن تنقض محكمة الموضوع بقضاء جازم لا رجعة فيه هذا الافتراض، على ضوء الأدلة التي تقدمها النيابة العامة مثبتة بها الجريمة التي نسبتها إليه في كل ركن من أركانها، وبالنسبة إلى كل واقعة ضرورية لقيامها، بما في ذلك القصد الجنائي بنوعيه إذا كان متطلبا فيها.
وبغير ذلك لا ينهدم أصل البراءة، إذ هو من الركائز التي يستند إليها مفهوم المحاكمة المنصفة التي كفلها الدستور، ويعكس قاعدة مبدئية تعتبر في ذاتها مستعصية على الجدل، واضحة وضوح الحقيقة ذاتها، تقتضيها الشرعية الإجرائية، ويعتبر إنفاذها مفترضاً أولياً لإدارة العدالة الجنائية، ويتطلبها الدستور لصون الحرية الشخصية في مجالاتها الحيوية، وليوفر من خلالها لكل فرد الأمن في مواجهة التحكم والتسلط والتحامل، بما يحول دون اعتبار واقعة تقوم بها الجريمة ثابتة بغير دليل، وبما يرد المشرع عن افتراض ثبوتها بقرينة قانونية ينشؤها.
وحيث إن افتراض براءة المتهم من التهمة الموجهة إليه – يقترن دائما من الناحية الدستورية – ولضمان فعاليته – بوسائل إجرائية وثيقة الصلة بحق الدفاع، من بينها حق المتهم في مواجهة الشهود الذين قدمتهم النيابة العامة إثباتا للجريمة، والحق في دحض أقوالهم وإجهاض الأدلة التي طرحتها بأدلة النفي التي يعرضها.