الأمن الإنساني وأبعاده في القانون الدولي العام

كتب / د.عادل عامر

تشهد العلاقات الدولية تداخلاً وتشابكاً أسفر عن وجود مخاطر جديدة يمكن أن تطـال الأفـراد قبـل دولهم، الأمر الذي استدعى انبثاق مفاهيم حديثة تنسجم مع متطلبات هذه المرحلة، وما دام أن تحقيق الأمن قد شكل ركيزةً أساسيةً في تفكير الإنسان،

 فهو يسعى للتمتع به والعيش في ظروفٍ يتمكن في ظلها من ممارسة حقوقه وأداء واجباته وتنمية مقدراته وتطوير المعطيات التي يوفرها محيطه ليكون ذلك خطوة في سبيل تطور وازدهار البشرية ككل،

إلا أن مفهوم الأمن قد شهد تطوراتٍ عديدةٍ، فقـد ارتبط على الصعيد الدولي منذ معاهدة وستفاليا عام 1648بضمان الدول لأمنها الذاتي،

وتطور بعـد ذلك إلى مفهوم الأمن الجماعي الذي شكل ركيزةً أساسيةً في فكر منظمة الأمم المتحـدة التـي جـاء ميثاقها متضمناً لمجموعة مبادئ تضع ضوابط للعلاقات الدولية إلى جانب توفير آليات للتـصدي لأي محاولة خرق لنظام الأمن الجماعي،

 وهكذا فإن النظرة إلى الأمن قد انتقلت من الاهتمام بأمن الـدول بشكلٍ منفردٍ إلى الاهتمام بأمن المجتمع الدولي ككل، إلا أن مفهوم الأمن أضحى بحاجة إلـى رؤيـة جديدة، فكيف لمجتمعٍ دوليٍ أن يضمن أمنه إن لم يكن مؤسساً بشكلٍ يأخذ بالحـسبان أدق المخـاطر وأحدثها، انطلاقاً من أمن الأفراد ومروراً بأمن دولهم وانتهاء بالأمن الجماعي الدولي، ومن هنا جاء مفهوم الأمن الإنساني ليسد ثغرةً في مواجهة التهديدات التي فرضها واقع العلاقات الدولية وتـشابك مصالح أطرافها.

أصبح الأمن الإنساني حاضراً في عمل العديد من المنظمات ذات الطابع الإقليمي، وشـكلت التقـارير الدولية، خاصةً تقرير التنمية البشرية الصادر عام 1994 والسابق الإشارة إليه، إطاراً عاماً لعمل هذه المنظمات، وكمثال على جهود المنظمات الإقليمية في هذا المجال نعرض لعمل جامعة الدول العربيـة   والاتحاد الأوروبي

 فقد بدأ مفهوم الأمن الإنساني بالظهور في أجندة جامعة الدول العربية عام 2001 ،وعملت الجامعـة عام 2004 على استضافة فعاليات إطلاق النسخة العربية لتقرير الأمن الإنساني الصادر عـن لجنـة الأمن الإنساني، كما عقِدتْ العديد من المؤتمرات حول الأمن الإنساني كمؤتمر الأمن الإنـساني فـي المنطقة العربية، الذي حرص على مناقشة قضية الأمن الإنساني في المنطقـة العربيـة فـي إطـار الحرص العربي على مواجهة التحديات العالمية في ظل وجود تخوفات عربية مـن اسـتخدام هـذا المفهوم لترويج بعض القضايا التي تتعارض والمصالح العربية

عناصر الأمن الإنساني:

هناك مفردات أمنية متعددة أصبحت تعمل تحت عنوان واحد هو الأمن الإنساني يمس مختلف نـواحي

حياة البشر وهو المقصود لدى وصفه بأنه مفهوم متعدد الأبعاد ،وعلـى ضـوء تقرير التنمية البشرية للعام 1994 ،السابق الإشارة إليه، فإن هذه العناصر هي الآتية:

– الأمن الاقتصادي: الذي يتحقق من خلال تأمين فرص عمل للأفراد تؤمن لهم دخلاً أساسياً.

– الأمن الغذائي: بتأمين الحاجات الأساسية من الغذاء وضمان ما يكفل ذلك سواء من ناحية المال أم

من حيث الوصول إلى مصادر الغذاء.

– الأمن الصحي: من خلال تأمين الحماية من الأمراض وضمان نظام رعاية صحية فعال.

– الأمن البيئي: الذي يتم بالحماية من المخاطر البيئية بأنماطها كلّها.

– الأمن الشخصي: ويتضمن الحماية من التهديدات المنطوية على العنف سواء أكان ناجماً عن سلوك

صادر عن الدولة أم الأفراد أنفسهم، خاصةً إذا كان موجهاً ضد الفئات الأكثر عرضة للمخاطر كالنساء

والأطفال.

– الأمن الاجتماعي: ويهدف إلى مواجهة التهديدات الموجهة نحو الحياة الاجتماعية كالمخاطر التـي

تهدد النسيج الاجتماعي في دولة ما، ويمكن أن يندرج إلى جانب ذلك ضمان الأمن الثقافي للمجتمع.

– الأمن السياسي: وذلك بضمان انتهاج سياسات حكيمة من قبل الحكومات تجاه مواطنيها

ويرى جانب آخر من الفقه أن عناصر الأمن الإنساني تتمثل بما يأتي:

– توفير إمكانية العيش بسلام للمواطنين كافةً داخل حدود دولتهم، وهو ما يمكن تحقيقه عبر حـل

المنازعات الدولية بالطرائق السلمية.

– تمتع المواطنين جميعهم بالحقوق السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

– ضمان مشاركة الأفراد في عملية صناعة القرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي.

– إقامة نظام قضائي عادل وضمان حكم القانون

مما سبق يمكن القول باتساع مفهوم الأمن الإنساني إلى درجة تدفع إلى التساؤل عن مـدى إمكانيـة

ضبط هذه العناصر التي يبدو أنها تطال نواحي حياة الإنسان كلّها.

الأمـن الإنسـاني وأبعـاده في القانـون الدولـي العـام

2- آليات تحقيق الأمن الإنساني:

يتحقّق الأمن الإنساني عبر آليتين رئيستين هما الحماية “والتمكين.”

– الحماية: الأمن الإنساني ذو طابع وقائي ويعمل بشكلٍ مسبقٍ لمواجهـة التهديـدات التـي تحـيط بالأفراد، كالأزمات المالية العالمية والصراعات العنيفة والأعمـال الإرهابيـة والأمـراض وانحـدار مستويات الخدمات الأساسية، وهو ما يتطلب وضع معايير وإنشاء مؤسسات على الصعيدين الوطني والدولي للتصدي لأوجه انعدام الأمن بطريقة شاملة ووقائية لا تقتـصر علـى ردود الأفعـال تجـاه التهديدات، بل تعمل بشكل وقائي وتكشف ثغرات البنية الأساسية للحماية.

– التمكين: أي إكساب الأفراد القدرة على التصرف والتخطيط سواء لصالحهم أم لصالح بقية أفـراد المجتمع، وجعلهم يمتلكون قدرة المطالبة باحترام حقوقهم وحرياتهم والتصدي للكثير من المـشكلات وإيجاد الحلول لها، الأمر الذي يتطلب النهوض بكل ما من شأنه تعزيز هذه القدرات .

ومن الملاحظ أن كلتا الآليتين مترابطتان؛ فالحماية تفسح المجال لإعمال التمكين والأفراد الممكنـون قادرون على تجنب المخاطر والمطالبة بتحسين آليات الحماية يتقاطع مفهوم الأمن الإنساني مع المفاهيم السائدة في منظومة حقوق الإنسان، ويتقارب معهـا مـن نواحٍ متعددة، خاصةً بعد توسع المفاهيم التي أضحت تُعد جزءاً من هذه المنظومة التي بـدأت تـدخل جيلها الرابع، وهو ما يدفع إلى التساؤل عن مدى الاختلاف بين الأمن الإنسـاني وحقوق الإنسـان، وطبيعة العلاقة بينهما في ظل إقرار وجود مثل هذا الاختلاف، وقد رأى فريقٌ من الفقـه أن الأمـن

الإنساني يعد جزءاً من حقوق الإنسان في حين يرى جانب آخر أنه على العكس مـن ذلـك حقـوق الإنسان هي جزء من الأمن الإنساني، ويذهب فريق ثالث إلى أن مفهوم الأمن الإنساني هو وسـيلة توفيقية بين حقوق الإنسان ومفاهيم أخرى في نطاق القانون الدولي.

وقد دفعت بعض النصوص التي تضمنتها الوثائق الدولية الأساسية لحقوق الإنـسان مـن اتفاقيـات وإعلانات جانباً من الفقه إلى التساؤل عن مدى إمكانية عد الأمن الإنساني حقاً من حقوق الإنـسان كونها تتحدث عن ضمان أمن الفرد بمستوياتٍ مختلفةٍ، أمنه الشخصي وأمنه ضمن المجتمـع الـذي ينتمي إليه وأمنه ضمن النظام الدولي الذي يعيش فيه، فالمادة الثالثة من الإعلان العـالمي لحقـوق الإنسان تتضمن الحق في الحياة والحرية والسلامة الشخصية، وكذلك المادة التاسعة مـن الإعـلان نفسه التي تنص على عدم جواز القبض على أي إنسان أو حجزه أو نفيه بـشكلٍ تعـسفيٍ، وكـذلك  المادة الثانية والعشرين من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تنص على حق الفرد كعـضو فـي المجتمع في الحصول على ضمانات اجتماعية وضمان حقوقه الاجتماعية والتربوية كلّها التي لا غنى ، والمادة الثامنة والعشرين من الإعلان نفسه 59 عنه لكرامته وللنمو الحر لشخصيته التي تنص على  – كذلك المادة 25 من الإعلان نفسه والمادة “9 “من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعيـة والثقافيـة والمـادة  “16 “من الإعلان الأمريكي لحقوق وواجبات الإنسان .

– كذلك المادة “23 “من الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب.

الأمـن الإنسـاني وأبعـاده في القانـون الدولـي العـام

حق كل فرد في التمتع بنظام اجتماعي دولي تتحقق بموجبه الحقوق والحريات المنصوص عليها في

61 هذا الإعلان . إلا أن مضمون الأمن الإنسـاني لا يمكن حصره بهذه المسـتويات الثلاثـة التـي تـضمنتها هـذه الحقوق، فهنالك تكامل بين حقوق الإنسان والأمن الإنساني، فإذا كانت حقوق الإنسان تنطوي علـى المطالبة باحترام حريات أساسية للبشر؛ فإن ذلك يدفع للتساؤل عن ماهية هذه الحريات التـي علـى المجتمع الاعتراف بها وتعزيزها، وهنا يمكن للأمن الإنساني أن يسهم في تحديد أهمية التحرر مـن أوجه انعدام الأمن بمستوياته كلّها، فالحريات المرتبطة بالأمن الإنساني هي فئة مهمـة مـن فئـات حقوق الإنسان، وعلى حد ما ذهب إليه أمارتيا سن “العضو في لجنة الأمن الإنساني الذي عد حقوق الإنسان صندوقاً عاماً يجب أن يملأ بمطالباتٍ محددةٍ تستند إلى دوافع مناسبة تمليها حاجات الإنسان، ومن المنتظر أن يساعد الأمن الإنساني على ملئ جزءٍ معينٍ مـن هـذا الـصندوق العظيم الشأن من خلال أساليب مبررة، بإظهار أهمية التغلب على انعدام أمن الإنسان

لكن من جهة أخرى يرى جانب آخر من الفقه أن حقوق الإنسان هي جزء مـن الأمـن الإنـساني، فحقوق الإنسان هي مجموعة مصالح يحميها القانون في حين أن الوصول إلى تحقيق الأمن الإنساني يتضمن توفير ظروف آمنة أو شعور آمن، وهو يتضمن ما هو أوسع من تلك المصالح التي يحميهـا القانون كالحماية من المخاطر الناجمة عن عمل الطبيعة وحماية ضحايا هذه الكوارث علـى سـبيل المثال ويرى جانب من الفقه الدولي أن الأمن الإنساني هو السبيل للتوفيق بين فكرتين راسختين في ميثاق الأمم المتحدة، تعزيز حقوق الإنسان من جهة وضمان السلامة الإقليمية والاستقلال السياسي للـدول

من جهة أخرى

ويمكن القول: إن حقوق الإنسان من شأنها أن تُشكل إطاراً معيارياً يحدد جانباً من مـضمون الأمـن الإنساني، فالوثائق الدولية المتعددة التي تضمنت حقوق الإنسان من إعلانات واتفاقيات قد تـضمنت العديد من عناصر الأمن الإنساني، واحترام مضامينها يؤدي إلى تحقيقه بعناصره المتعـددة، ، ومن ثم هو وسـيلة  انتهاكات حقوق الإنسان ما هي إلا تهديدات وجد الأمن الإنساني للتصدي لها لتعزيز منظومة حقوق الإنسان إذ هنالك انتهاكات عديدة لحقوق الإنسان تُرتكب تحت ذرائـع تتعلـق بضمان الأمن بمفهومه التقليدي، إلا أن إدخال الأمن الإنساني في سياق مفهوم الأمن لن يؤدي إلـى مثل هذه النتيجة إذاً هنالك تناسب قوي بين المفهومين قد يصل إلى حد التماهي، فالأمن الإنساني شرط لإرساء حقوق الإنسان كما أن تحقيق بعض جوانب الأمن الإنساني هو غاية من غايات حقوق الإنـسان، وإن كـان تناول الأمن الإنساني كحق يمكّن من إدخاله في منظومة حقوق الإنسان، إلا هـذه الحقـوق يـصعب تحقيقها في حال غياب الأمن الإنساني، ومن ثم يمكن النظر إليه على أنه عامل من عوامـل تنميـة حقوق الإنسان.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

Recent Posts

x

‎قد يُعجبك أيضاً

رئيس الوزراء: نسعى بالشراكة مع إحدى المؤسسات العالمية أن يكون مستشفى أورام دار السلام مركزًا على أعلى مستوى

كتبت مني جودت أدلى الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، بتصريحات تليفزيونية، اليوم السبت حيث أشار ...