كتب/ د. عادل عامر
إن التنشئة الاجتماعية تؤثر في حياة الأطفال الصغار، حيث يكتسب الطفل الاتجاهات والقيم والأخلاق الموجودة عند والديه ولذلك ما يتعلمه الطفل من والديه سيؤثر على حياته مستقبلاً، وفي بعض الأحيان يكون الطفل نسخة عن والديه.
إن أشدّ ما يعانيه الأطفال خلو البيت من الآباء نتيجة وفاة الأب أو زواجه من أخرى وإقامته معها بعيداً عن الأسرة الأولى أو نتيجة المرض، ولكن أشد ما يعانيه الأطفال هجرة الآباء من أجل العمل لفترات طويلة في دول أخرى، وأيضاً الآباء الذين يعملون في متاجرهم ومهنهم المختلفة حيث يخرجون من الصباح ويعودون في ساعات متأخرة من المساء، ويعودون منهكين من العمل وغير متفرغين لمشاكل أطفالهم ولا يهتمون بهم.
إن بُعد الأب وغيابه الدائم يضعف الجانب العاطفي لدى الأطفال، وهو ما يؤدي إلى انخفاض مستوى الحنان والمحبة بين الأب وأبنائه، وبالتالي قد يتسبب بحدوث اضطرابات نفسية عند الأبناء، لافتقارهم وجود القدوة والسند والقوة في المنزل. لست أنصح ابدأ أحدا من المتزوجين وأصحاب العوائل أن يسافروا فترات طويلة ويتركوا أسرهم ..
فالبحث العلمي والتطبيقي يدلنا وبوضوح على مشكلات تتعرض لها الأسر التي يسافر عنها عائلها ، ومعاناة يعانيها الأبناء ، وتعانيها الأمهات من ذلك ..
المنظر الخارجي للأسرة التي سافر عنها عائلها قد يكون كاذبا ، فإنك تراهم متيسرين من الناحية المالية ، تستجاب طلباتهم العينية ، يكثرون التنقل ، ويستمتعون بحرية كبيرة في حياتهم !
الحقيقة غالبا غير ذلك ، هذا المال ينقلب بلاء وخطرا بدلا من أن يكون نفعا وميزة ، فالأبناء يسوون التصرف فيه ، ويجعلهم بكثرته – يستهينون بقيمته – وقد يودي بهم توفره الزائد إلى طرق خاطئة ومعاص خطرة ، فضلا عما يستقر في نفوسهم من معاني عدم تحمل المسئولية الشخصية ..وغير ذلك كما أن الحرية المزعومة التي ينتزعها الأبناء من أمهم الضعيفة ، هي حرية بلا ضابط ، تفسد اكثر مما تصلح ، وتضر أكثر مما تنفع ..
من أجل ذلك اقول أن من سافر لفترات طويلة غير مضطر ماليا أو غيره ، وترك زوجته وأولاده ، وفضل كسب المال على وجوده مع أسرته وتربيته لاولاده باي حجة كانت ، فإنما هو مجرم في حق نفسه واسرته ، بل إنه كمن يلقي باسرته في البحربلا قارب .
. فلا يحزن بعد ذلك ولا يستغرب إن وجدهم في اسوأ حال .. اما المضطرون فيرعاهم الله سبحانه واهليهم لقد قام العديد من العلماء بإجراء دراسات ميدانية على مجموعات متنوعة من الأبناء ذوي الأب الغائب ، وكانت النائج سلبية في غالبها .. فالباحثة الأمريكية ميرينا سيرز قررت أن ” الأطفال ذوي الأب الغائب أقل شجاعة وسلوكاً مغامراً من أولئك ذوي الأب الموجود “كما وجد العالم الألماني مولر باخ في دراسته أن مجموعة الأطفال ذوي الأب الغائب قد أبدت تصوراً أنثوياً للأب وسلوكه بالمقارنة بالمجموعة الثانية ( ذي الأب الموجود ) التي أبدى أفرادها انطباعات رجولية ومغامرة له.
وتوصل جيمس ستولس وزملاؤه إلى : عدم توافر السلوك الإيجابي لدى الأطفال ذوي الأب الغائب, عندما وجدوا أن مثل هؤلاء إما مذعنين أو مترددين في سلوكهم أو علاقاتهم مع أقرانهم, أو كانت ردود فعلهم لأقرانهم عموماً غير ناضجة ” ( د . محمد زياد – أثر غياب الأب في شخصية الطفل ) أما هيثر ينجتون فلم يجد فقط بأن الأطفال ذوي الأب الغائب أقل رغبة من المبادرة أو المغامرة،، بل كانوا أيضاً أكثر اعتماداً على غيرهم وأقل اندماجاً في الألعاب أو الرياضيات الجسمية.
وبحسب ما أكدته دراسات علم النفس فغياب الأب يجعل الأطفال يواجهون صعوبة كبيرة في عملية تطور سلوكهم الاجتماعي العام، فيكون نموهم أقل استقلالية وأضعف قدرة ذاتية على ضبط سلوكهم الفردي .
وكشفت دراسة أجرتها مؤسسة التنمية الأسرية حول التفكك الأسري في دولة الإمارات العربية المتحدة، ان غياب الأب عن المنزل سواء للعمل أم للسفر خارج البلاد له الأثر الأكبر في التفكك الأسري وبنسبة 85% ! إن هناك ثلاث مشكلات كبيرة يمكن أن تنتج من سفر الأب وترك أسرته ( بغير اضطرار ) : فالغربة والبعد النفسي بين الأب وبين أبنائه بسبب بعده لفترات طويلة ، تبني بينهم الجدران النفسية ..
بل إنها تكاد أن تنهي أثر شخصية الاب في حياة اولاده ، فيعود الاب في اجازاته أو بعد سفره ، وكانه شخص غريب في البيت تجاه أسرته ، فهم لم يعتادوا طلباته ، ولا عاداته ، ولا ضبطه وربطه وحزمه وسيطرته وقوانينه وغير ذلك ، مما يؤدي لاصطدامات كثيرة واضطرابات متتابعة بينه وبين افراد اسرته ..
كذلك ما يحدث بعد سفر الاب لفترات طويلة من تمرد الابناء على أمهم نتيجة ضعفها أو عدم قدرتها على مراقبتهم ورعايتهم ، وما ينتج عن ذلك من سوء سلوكهم ثم تراجعهم العلمي والدراسي والأخلاقي فالأم لا يمكنها مراقبة الابناء بشكل متكامل ، فهي لا تستطيع الخروج إلا قليلا ، وحتى لو كانت عاملة فليس عندها الدراية الواسعة بخلطة المجتمع لتستطيع المراقبة والمتابعة .
والأبناء في مرحلة ما يسمونها بالمراهقة يكون عندهم ميل نحو فرض شخصيتهم وسلوكهم ، وغالبا ما يصطدمون برؤى الكبار ، فلو لم يكن هناك من يحتويهم ويحسن التعامل معهم بين الحزم والرفق فإنهم يخرجون من الطوق خطوة خطوة ..
هذا فضلا عن التراجع في المستوى الراسي الذي غالبا ما يحدث لهم نتيجة الترهل في البناء الاسري ، وعدم المتابعة مع المدرسة والمعلمين وغيرها
أضف إلى ذلك ما يمكن أن تعاني منه الزوجة نفسها نتيجة ضعفها وقلة خبرتها أمام مجتمع ملىء بالذئاب ومساوىء الأخلاق ، ونتيجة ذلك السلبية على نفسيتها وشخصيتها وسلوكها ..
كل هذا الذي ذكرته ليس من بينه ما يمكن ان يحصل من معاناة الاب نفسه من وحدته في سفره ووحشته واغترابه ، وتوتره النفسي ، وقلقه على اسرته ، وعدم تلبية حاجاته الأساسية ، وغير ذلك
لكن بالطبع فإن هناك ظروفا مختلفة قد تدعوا الاب للسفر بسبب أو آخر ، لذلك فانصح من دعته ظروفه للسفر وترك اسرته أن يفعل عدة اشياء بسيطة لكنها مؤثرة :
– أن يترك اسرته في رعاية بديلة ..مثلا : ( الجد – الخال ) او في وجود ابن كبير يعتمد عليه
– أن يؤمن لهم النفقة الاقتصادية حتى لا يعانون مشكلة الحاجة إضافة لمشكلة غيابه
– أن يجتهد بشدة في ان يعود في إجازات على فترات قريبة ( 6 شهور مثلا ) لو استطاع ..
– أن يتواصل معهم في سفره بشكل مستمر ، ولو كان يوميا لكان أفضل ، ويهتم بشؤونهم ..
– أن يبذل جهده بشدة في التقارب مع أبنائه والحديث معهم وحل مشكلاتهم الشخصية أثناء فترة أجازته مع سعيه للتقارب القلبي معهم ..
يشير الاغتراب الوظيفي إلى الشعور بالعزلة والانفصال الذي قد يشعر به الأفراد في بيئات عملهم. يمكن أن يكون لها آثار سلبية على الأسرة بعدة طرق. عندما يعاني أحد أفراد الأسرة من الاغتراب الوظيفي، فقد يؤدي ذلك إلى زيادة التوتر والقلق والاكتئاب.
وهذا يمكن أن يسبب التوتر داخل الأسرة ويؤثر على الصحة العاطفية العامة للأسرة. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يؤدي الاغتراب الوظيفي إلى انخفاض المشاركة في الأنشطة العائلية ونقص الوقت الجيد الذي نقضيه معًا. وهذا يمكن أن يؤدي إلى توتر العلاقات ويجعل من الصعب على العائلات أن تترابط وتحافظ على روابط قوية. في بعض الحالات، يمكن أن يؤدي الاغتراب الوظيفي أيضًا إلى ضغوط مالية، مما قد يؤثر بشكل أكبر على ديناميكيات الأسرة.
بشكل عام، يمكن أن يكون للاغتراب الوظيفي تأثير كبير على رفاهية وتماسك الأسر، مما يجعلها قضية مهمة يجب معالجتها.