ان الإصلاح التشريعي قد يتضمن كل هذه المراحل أو بعضها، لكن أياً منها ليست الهدف في حد ذاته، فالهدف الذي ينبغي أن يتغياه أي جهد للإصلاح التشريعي هو الارتقاء بجودة التشريع؛ أي تحسين مادته، وهو ما قد يحتاج القيام به مُراجعة التشريعات القائمة، ودمج المرتبط منها، وبلورة موضوعها في ضوء فلسفة واحدة، وتخليص المنظومة التشريعية من بقايا الأفكار القانونية القديمة.
وإذا كانت عملية التشريع عملية سياسية، كونها – كأي عملية من عمليات صناعة السياسات – تعتمد على موازنات بين اعتبارات متقابلة، تعكس مصالح مجموعات متنافسة، إلا أن عملية الإصلاح التشريعي أبعد ما يكون عن ذلك الطابع السياسي؛ فلا تستهدف الكيانات القائمة على عملية الإصلاح التشريعي سوى الارتقاء بمنظومة التشريع، دون نظر إلى الأجندة السياسية لفريق أيدلوجي بعينه، ودون اعتبار للمصالح الضيقة لحزب سياسي مُعين، فقط توجه هذه الكيانات نظرها تلقاء الصالح العام في صورته المُجردة
تختلف الأنظمة المقارنة فيما يتعلق بتحديد الجهات القائمة على عملية الإصلاح التشريعي، والنموذجان الأكثر شيوعاً هما النموذج الكلاسيكي classic or standard model الذي يعتمد على إنشاء كيان مستقل للإصلاح التشريعي بموجب تشريع، والنموذج الأخر هو النموذج المؤسسي institute model الذي يتجسد في كيان مستقل أنشأته اتفاقية معينة من بعض القامات القانونية وأصحاب المصالح. وبعض الأنظمة تعهد بمهمة الإصلاح التشريعي لوزارة معينة يغلب أن تكون وزارة العدل، أو لمستوى رفيع داخل البناء القضائي، أو للجنة تؤلف لغرض معين، أو لشخص ما بصفته، للإدلاء بالرأي في موضوع معين، ثم رفع التوصيات إلى الوزير المختص.
تُمارس الجهات القائمة على عملية الإصلاح التشريعي عملها وفق مجموعة من المُحدِدَات، منها نص إنشائها، وعلاقتها بغيرها من الجهات ذات الصلة بعملية الإصلاح التشريعي، وآلية اختيار الموضوعات التي تكون محلاً لعملية الإصلاح التشريعي، ومعايير هذا الاختيار، فضلاً عن التطورات المُعاصرة التي تُبَاشَر في ظلها هذه العملية.
ويُمكن القول بأن النصوص القانونية التي تنظم الجهات القائمة على عمليات الإصلاح التشريعي تكون على قدر كبير من المرونة والاتساع، وهذا يشكل أول تحدي يقابل هذه الجهات، بعبارة أخرى، ينبغي إيجاد آلية لتنظيم عمل هذه الجهات في ضوء محدودية مواردها بأفضل شكل ممكن.
ارتبطت عمليات الإصلاح الهيكلي بالعديد من الأفكار التي تأخر تطبيق بعضها، وتجرى محاولات لتعويض هذا التأخر، ولكن طبيعة تلك الإصلاحات نفسها تحتاج إلى تطوير وتغيير للنظرة الإصلاحية، ففكرة تطبيق الشباك الواحد لتسهيل مهمة المستثمرين قد تجاوزها الزمن لاحتياج المستثمرين إلى الحصول على الخدمات إلكترونيا بدون شباك.
ولعل التقدم التكنولوجي السريع الذى يحدث في السنوات الأخيرة يجعلنا في حاجة لتطوير الكثير من الرؤى والمشاريع الإصلاحية. ارتبطت عمليات الإصلاح الهيكلي بإصدار تشريعات تنظمها، ولكن تلاحظ أن الكثير من تلك التشريعات لم تحقق أهدافها، فاصطدام قانون الشهر العقاري الجديد بالواقع يشير إلى خلل في صناعته، وتكرار تعديل قانون التصالح في مخالفات البناء يشير إلى عدم مناسبته من البداية للقيام بدورة الإصلاحي، وتعديل قانون الإجراءات الضريبية بعد أسابيع من إصداره يشير إلى خلل في صناعة التشريع الحكومي، كما أن عدم تحقيق المستهدف من إصدار تشريع لإتاحة إدخال سيارة للعاملين بالخارج مقابل وديعة يعنى أنه ومع مناسبة الفكرة إلا أن تنفيذها افتقر للدراسة الجيدة، وسنعرض أبعاد تلك المبادرة كحالة تطبيقية.
تعد قضية الإصلاح الاقتصادي احدى القضايا الرئيسة التي تهم دول الجنوب والمنظمات الدولية بشـكل خاص، وبانهيار المعسكر الاشتراكي الذي يتبني نظام الاقتصاد المركزي والتحول السياسي والاقتصادي فـي دول وسط وشرق أوربا اللذين كان لهما انعكاسات إيجابية علـى انتشـار الإصـلاح الاقتصـادي وتوسـيع الإصلاح السياسي عبر تطبيق الديمقراطية الحقيقية في الكثير من دول الجنوب. وتعد مرحلة عقد التسـعينيات من القرن الماضي الأوسع انتشارا في توسيع المبادئ الديمقراطية والإصلاح الاقتصادي
. وتأتي أهمية البحث من خلال معرفة العلاقة بين الإصلاح الاقتصادي والديمقراطيـة . ان الديمقراطيـة كآلية إدارة الحكم الصالح المؤمنة بالتعددية والتعايش السلمي بين طبقات المجتمع لها انعكـاس كبيـر علـى الإصلاح الاقتصادي. ان النظم الديمقراطية تسعى من خلال وجودها في السلطة الي تحقيق أهدافها وبرامجهـا الهادفـة الي تحقيق الاستقرار السياسي والمشاركة الفاعلة للقطاع الخاص في إدارة مؤسسات الدولة.
ان مفتاح البناء الناجح للديمقراطيات والإصلاحات الاقتصادية هو الحكم الديمقراطي الصالح الذي يشمل التقاليد والمؤسسات والإجراءات التي تحدد كيفية صنع القرارات الحكوميـة . ويحتـاج الحكـم الـديمقراطي الصالح الى وسائل يمكن للمواطنين بواسطتها المشاركة بصفة منتظمـة فـي صـنع السي اسـات . وتخشـى الحكومات في الغالب أن يؤدي ذلك الى جعل عملية صنع القرار بطيئة. لكن كلما كانت عملية صنع القـرار أكثر شمولاً لجميع الأطراف كانت القوانين واللوائح والإجراءات الصادرة عنها أكثـر اسـتجابة لاحتياجـات المواطنين.
كذلك يحتاج الحكم الصالح الى مؤسسات قابلة للمحاسبة والمساءلة حتى لاتسيء استعمال السـلطة ووضع القواعد الدستورية التي تنظم كيفية توزيع السلطة ومراجعتها وموازنتها الى أن تكـون مـؤثرة فـي الحيلولة دون إساءة استعمال السلطة ومع ذلك هناك حاجة الى آليات اضافية للحد من سوء استعمال السـل طة المرتبطة بالأعمال الروتينية،
وهنا يأتي الدور الذي يلعبه الحكم الصالح. أن الحكومات ذات المؤسسات القابلة للمساءلة والمحاسبة تكون أكثر قدرة على ممارسة الحكم الديمقراطي وإدارة الدولة مما يجعلها تتمتـع بـدعم جماهيري أكبر. أما الحكومات التي تفتقر الى المؤسسات القابلة للمساءلة والمحاسبة فأنها من المحتمـل ا ن لا يعاد انتخابها من الشعب وهي تعاني من عدم الشرعية وقلة الكفاءة وتتعرض الى أزمات سياسية واقتصـادية تؤدي في النهاية الى عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي ومن ثم التاثير في الأمن الوطني والقومي للـبلاد
فالديمقراطية بمعناها الواسع التنافسي الإيجابي تضمن تداول السلطة وتداول السلطة يضمن الاسـتمرارية في إدارة المؤسسات الحكومية. وهي عوامل غاية في الأهمية لتحقيق الإصلاح الاقتصادي لأن تداول السلطة يعني إعادة توزيع السلطة والثروة لمصلحة الناس. هذا يعني ان الحكم المؤسسي الصالح هو الضامن لمصالح جميع المواطنين
وتحتاج الدول النامية الى موارد مالية لتغطية متطلبات الإصلاح الاقتصادي وذلك بسـبب عـدم تـوفير المواد المالية الكافية لنجاح عملية التغيير الاقتصادي لذلك فإنها تضطر الى الاستدانة من المؤسسات الدوليـة الأمر الذي يتطلب المزيد من التشريعات القانونية اللازمة لنجاح عملية الإصلاح الاقتصـادي . وقـد ربـط صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بين ضرورة أجراء إصلاحات سياسية والتحول نحو النظم الديمقراطيـة وأجراء تغيرات واسعة في الأنظمة المالية والمصرفية والمؤسسات الاقتصادية مقابل تقديم القروض الى تلـك الدول التي تمر بتحولات نحو السوق الحر. ان أدارة الحكم الديمقراطي تسعى الى المزيد من المشاركة الفاعلة للمـواطنين فـي ادارة المؤسسـات وتحقيق الاستقرار السياسي وتتبنى أطرا قانونية ولوائح تنظيمية سليمة يعززها احترام القانون من المجتمـع وكذلك توسيع الثقافة والمساءلة وهي ضرورية في القضاء على الفساد الذي يحـد مـن تطـور الإصـلاح
الاقتصادي . أن وجود مؤسسات دستورية وسلطة قضائية فعالة قادرة على تطبيق القانون وسلطة تنفيذية قادرة علـى تنفيذ القانون وحكومة شرعية وسلطة تشريعية منتخبة من الشعب، يعطـي ل لمسـتثمر الأجنبـي والشـركات الأجنبية الثقة في أن الاقتصاد الذي يستثمرون فيه أموالهم تتم أدارته بأسـلوب كـفء ومؤسسـات قويـة ودستورية تسهم في الحد من الروتين الذي يعرقل المسار القانوني ويبطئ عمل تأسيس الشركات. والمعروف أن الأنظمة الديمقراطية تسمح بمشاركة قاعدة عريضة من القطـاع الخـاص وبنـاء وتطـوير المؤسسـات الاقتصادية وهذه المؤسسات تحتاج الى ديمقراطية سليمة عملياً وضعف المؤسسات الديمقراطية يحد من النمو الاقتصادي
. وهناك دراسات قامت بتحديد خصائص أو صفات رئيسة للمؤسسات تحدد إسهامها وفعاليتها فـي الإصـلاح الاقتصادي وبناء اقتصاد قوي. الصفة الأولى: وهي تمثيل المؤسسة للمصلحة العامة للمواطنين، وهذا يعتمد على طبيعة النظام السياسي الذي بدوره يهدف الى تحقيق المصالح السياسية والاقتصادية والاجتماعية للمواطنين. الصفة الثانية: تحقيق أهدافها ومدى التزام صانعي السياسة بالأهداف وحفظ الإصلاحات الاقتصادية.
وهذا له تأثير مباشر على قرارات المستثمرين على المدى الطويل في ضوء تجاربهم العملية حيـث يتورطـون فـي ˹ استثمارات على أساس وعود بسياسات وإجراءات سرعان ما تتعرض الى عدم تنفيذها بعد إعلانها لذلك علينا أن نتوقع تعثراً في مسيرة النمو في البلدان التي لاتلتزم حكوماتها بالسياسات المعلنة. الصفة الثالثة: للمؤسسات القدرة على الاتساق وعدم التناقض بين السياسات، حتى تكون فاعلة لاسـيما فـي
الاداء التنموي وتقديم الخدمات ووضع خطط مدروسة ومحددة لعملية الإصلاح الاقتصادي . أن تطوير المؤسسات السياسية والاقتصادية والعلمية يمكن أن يسهم فيه التخطيط المسبق والتفاعل بـين المؤسسات، ويتحقق الاتجاه الصحيح في الإصلاح والتطوير حيث تتوافر الآليات الضرورية لتحقيق التوافـق بين المصالح الأساسية في الميدان السياسي ومتطلبات النمو الاقتصادي لأنها تحتاج الـى الوصـفات العامـة الموضوعة للإصلاح الاقتصادي إلى التكيف بحسب الظروف الخاصة لكل دولـة تمـ ر بمرحلـة التحـول الاقتصادي. ويأتي هنا الدور الذي تقوم به المؤسسات الدستورية في انجاح الوصفات الموضوعة في تطبيـق آلية السوق